مع دخول شهر ذو الحجة شهر الحج والتلبية والغفران خطرت ببالي ذكرى من أروع الذكريات في حياتي
ألا وهي ذكرى قيامي بفريضة الحج إلى الديار المقدسة:
كنت ممن أنعم الله عليهم ودعاهم للحج لبيته الحرام وأنا في مقتبل العمر.. فلبيت
في هذه الرحلة التي دامت عشرون يوماً رأيت ما لم تره عيني وربما ما لن تراه في عمري كله
رأيت أناساً من كل الأجناس والأعراق والألوان واللغات والثقافات والأشكال .. لا يوجد أي قاسم مشترك بينهم... بعضهم يتكلم لغات لم نسمع عنها ولا توجد أي طريقة للتواصل والتفاهم معهم..
ومع ذلك هناك أمر في غاية الغرابة ... الجميع يبتسم لك ابتسامة تودد ايمانية تشعر معها وكأنه أحد أقرب أقرباءك.. أخوك الذي لم تلده أمك.. إنها أخوة حقيقية.
رغم لغاتهم وثقافاتهم وعاداتهم المتباينة جداً ما أن يقول المؤذن الله أكبر حتى وبلحظة تجد مليوني شخص يصطفون بحركة نظامية تعجز عنها أكبر جيوش العالم المنظمة.
عندما كنت بالجيش احتاج الأمر لدورة ستة أشهر ليعلمنا المدرب النظام المنضم وكيف نصطف وكيف نوحد حركتنا بسرعة وكان عددنا لا يزيد عن خميسين رجلاً ... (ولم ينجح)... أما بالحج فتجد الحجيج ويبلغ عددهم مليونان في كل عام يصطفون بثانية بمجرد سماع كلمة الله أكبر!!!!!!
من المشاهد والذكريات التي لا أنساها بالحج أنه وبعد الانتهاء من الوقوف بعرفة والعودة والتحلل كان هناك الحلق أو التقصير .. وكان هناك مجموعة كبيرة من الحلاقين تقوم بالحلاقة للحجاج.. وهم ليسوا حلاقين ممتهنين ولكنهم مجموعة من الحجاج تتبرع للقيام بالحلاقة طلباً للثواب والآجر من الله..
وقفت متأملاً عملية الحلاقة ومتردداً بين أن أحلق بنفسي أم أذهب إلى أحد هؤلاء الحلاقين ...
بعد لحظات من التردد والتفكير قررت الذهاب لواحد بدا لي أنه عربي ومن الممكن أن أفهم عليه وأتفاهم معه .. وفعلاً تبين لي فيما بعد أنه سوري من حلب .. وهو ليس حلاقاً وإنما رئيس مجموعة حجيج سوريين تبرع بالحلاقة للحجاج ككثيرين غيره
كان يقف أمامي مجموعة من الرجال فيهم الأبيض والأسود والأشقر والأحمر والأصفر ... شيء لا يوصف ... وكان من بينهم وهو الذي يسبقني بالدور رجل يبدو أنه من دول شرق أسيا عادي جداً يرتدي منشفة مثلي تماماً ومثل كل الحجاج ويلبس بقدميه خفافة أو مشاية (شحاطة) بلاستيك مهترئة.
رغم مظهره الرث فقد كان بمنتهى اللطف والتهذيب ويبادلني أثناء وقوفنا بالدور نظرات وابتسامات الود والمحبة
جاء دوره بالحلاقة ..
بدأ الحلاق يجز رأسه ..
خاطبت نفسي وأنا أرى الحلاق يحلق له رأسه: يا إلهي هل سيضع الحلاق نفس المقص برأسي أم سيغير المقص أو الشفرة؟؟؟؟!!!!! وهل سيحلق لي بنفس الطريقة؟؟؟!!!!
ترددت وأردت الانسحاب ولكن لم يكن مجال للانسحاب فقد انتهت الحلاقة التي استغرقت أقل من دقيقة!!!!
شوارع وخرائط وجروح برأس الرجل كانت أسوأ حلاقة أراها بحياتي
بدا شكل الرجل مضحكاً جداً بعد الحلاقة
يا لهؤلاء الشرقيين كيف يقبل أن يفعل به الحلاق ما فعل!!!!!
لم يقل شيئاً .. لم ينزعج .. قال للحلاق كلمات واضح أنها كلمات شكر وامتنان على جهده الكبير الذي بذله بالحلاقة
نظر لي وللحلاق نظرة تودد ومحبة وانصرف
حالما بدأ الحلاق وأمسك رأسي بقوة وثناه حتى كادت روحي أن تخرج قلت له: عربي؟؟؟؟
قال: سوري من حلب!!!!
الحمد لله
إياك أن تحلق لي كما حلقت لهذا الآسيوي .. وأرجوك إن كان عندك مقص أو ماكينة حلاقة جديدة أن تستعملها بدلاً من تلك التي حلقت بها لهذا الرجل الذي أخشى أن يكون مريضاً بمرض جلدي معد!!!!
قال لي الحلاق: أتعلم من هذا الآسيوي الذي كنت أحلق له؟؟؟
ومن أين لي أن أعلم؟؟؟ وهل يفترض بي أن أعلم أسماء كل الحجاج؟؟؟
قال: إنه !!!!!!!!! (لن أخبركم من هو)
مجرد ذكر الاسم أصابني بالدهشة والذهول
لم يكن أي رجل لا في آسيا ولا في العالم كله ...
إنه حاكم دولة ومن أغنى رجال العالم إن لم يكن أغناهم على الإطلاق.
عندها نظرت لنفسي بخجل واستحياء .. وعلمت أنني لم أفهم معنى ومغزى الحج حتى تلك اللحظة..
لقد عرفت من ذاك الرجل معنى ومغزى الحج.
لقد جاء الرجل وتخلى عن الدنيا بكل ما فيها مالها وجاهها ومالها وخدمها وحشمها وأحبائها فقط ليقول:
لبيك اللهم لبيك