المحامي فتح الله صقال النقيب والوزير
... المحامي فتح الله صقال وإبراهيم هنانو
بعد أن قبضت سلطات الانتداب البريطاني على إبراهيم هنانو في القدس ،سيق إلى بيروت فحلب حيث سجن في "خان استامبول" .وفي صباح 24 أيلول 1921 وردت إلى المحامي فتح الله الصقال مذكرةٌ تسمح له بمقابلة هنانو بصفته وكيلاً عنه ، ويُفاجأ الصقال لأن أحداً لم يفاتحْه بذلك الشأن.
ويذهب إلى السجن حيث يراه هنانو للمرة الأولى ويفسر له سر التوكيل بقوله لقد تلقيت عروضاً كثيرة من زملاء لك أرادوا أن يدافعوا عني لكني استحلفت النائب العام الفرنسي أن يدلني عمن يختاره لو كان في مكاني فأسر لي باسمك . ويجلس الصقال مع موكله ويستمع إليه حوالي ساعتين وهو يروي له قصة الثورة ودواعيها ومجرياتها ثم يستلم ملف الدعوى لدراسته. وإذ يعود ليبلغ هنانو قبوله بالتوكيل ،يسأله عن الأتعاب فيطلب ألف ليرة ذهبية،ويبتسم هنانو قائلاً "ثق إنني لا أملك ليرة واحدة مما تطلب فهل لك أن تخفضه؟ " ، وفي آخر الأمر يتفقان على أن تصبح الأتعاب ستمائة وخمسين ليرة ذهباً منها مئة وخمسون سلفاً ، فيقوم بدفعها المجاهد الصامت الحاج فاتح المرعشي .
ويحار المرء في تعليل توصية النائب العام الفرنسي بالمحامي الصقال ،وهو الذي يُفترض به أن يسعى بكل وسيلة إلى إضعاف موقف هنانو ، وقد يقود حسن الظن إلى افتراض أن النائب العام سلك سلوكاً قانونياً مثالياً حين ساعد في تأمين أفضل دفاع ممكن للمتهم، لكن ذلك لا ينفي احتمال أن النائب العام الفرنسي كان واثقاً من تجريم هنانو إلى حد لم يخشَ معه من أي دفاع مهما كان بارعاً. وأنه كان يعرف عن كثب نية رئيس المحكمة في تجريم هنانو بأي ثمن . مما يقدم تفسيراً آخر لما ما قام به النائب العام وهو أنه أراد أن يغطي المحاكمة المحسومة مسبقاً بقشرة من الشرعية الزائفة .
وقد درس المحامي الصقال وقائع القضية ملياً فخرج بقناعة كاملة بقدرته على تبرئة هنانو من التهم الموجهة إليه، و بنى قناعته على أن هنانو لم يكن مجرماً عادياً بل إن ما قام به يدخل في نطاق الأعمال السياسية أو الحربية المشروعة .
في 15 آذار 1922بدأت محاكمة هنانو أمام محكمة عسكرية تشكلت من رئيس برتبة عقيد وأربعة أعضاء من الضباط، وبالرغم من محاولة رئيس المحكمة أن يؤثر في قناعة أعضائها طالباً منهم أن يحكموا على هنانو بالموت ،فإن احدهم وهو"النقيب لوكلير" - كما روى للصقال فيما بعد - رفض ذلك بإباء قائلاً " أنا لا أقبل أن يؤثر أحد في ضميري فإذا اقتنعت بعدالاستماع إلى الاتهام والدفاع أنه مذنب حكمت عليه وإلا حكمت ببراءته"
ولقد حاول الصقال في البداية أن يُثبت بطلان معاهدة تسليم المجرمين التي سُلم هنانو بموجبها لأنها لم تُصدق حسب الأصول الفرنسية ذاتها ، ودفع ببطلان تسليمه للفرنسيين باعتبارأن هنانو زعيم سياسي وليس مجرماً .واستطاع الصقال بدفاعه البارع في هذه النقطة أن يؤثر في قناعة القضاة تأثيراً ما لبث أن توسع مع تقدم سير المحاكمة ليحدث في نهايتها المفاجأة الكبرى.
استغرقت تلاوة لائحة اتهام هنانو ساعة ونصف الساعة عُزي فيها إليه سبعةُ أنواع من الجرائم، ثم ابتدأ القاضي باستجواب هنانو الذي كان فطناً رابط الجأش ، فقد أجاب على اتهامه بأنه رئيس عصابة من الأشقياء بقوله"لو كنت مجرماً عادياً لما فاوضني ممثلكم الجنرال "جوبو"بشأن عقد هدنة ومبادلة للأسرى ،ولما عقدت معي حكومة أنقرة التي تعترفون بها اتفاقاً، إنني متهم سياسي ونحن لم نعمد إلى الوسائل الحربية إلا للدفاع عن أنفسنا ".
ثم أدلى شهودالإثبات السبعون بشهاداتهم وجاء من بعدهم شهود الدفاع الذين أشادوا بمبادئ هنانو السامية وتجرده التام ووطنيته الصادقة ، ثم قدم النائب العام مرافعته التي استغرقت ثلاث ساعات وختمها بقوله "لو كان لإبراهيم هنانو سبعة رؤوس بعدد جرائمه السبع لطلبت إعدام رؤوسه السبعة" ،لكن مرافعة الصقال البارعة التي استمرت أربع ساعات تولت تفنيد حجج النائب العام واحدة تلو أخرى ،إلى أن ختم بقوله" ستبرئون هنانو لأن الوطنية ليست جريمة ولأن الوطن السوري ليس كلمة باطلة جوفاء " .
وجاء يوم 18آذار 1922 فكانت المفاجأة التي اشتعلت لها حلب حماساً وفرحا ً حين قررت المحكمة براءة هنانو بأغلبية ثلاثة أصوات إلى صوتين . وكان نصيب القضاة الفرنسيين الذين برؤوا هنانو وأبوا الانصياع لرئيس المحكمة أن استدُعوا على عجلٍ إلى فرنسا ولم يُعلم شيءعما جرى لهم هناك