زنكي في دمشق !

[المحامي محمد عصام زغلول]

زنكي في دمشق !



قلة هم الرجال الذين نعمت دمشق بالسلام والأمان في عهدهم , بل قلة هم أولو الفضل الذين حكموا البلاد والعباد بالعدل والقوة والمنعة .

وإذا ذكرت هؤلاء , فإن على رأسهم رجل , ما ذكرت دمشق إلا وذكر معها ..
إنه ملك بلاد الشام ومالكها , والذي بيده ممالكها , أعف الملوك وأتقاهم , وأثقبهم رأياً وأنقاهم , وأعدلهم وأعبدهم , وأزهدهم و أجهدهم , وأظهرهم وأطهرهم , وأقواهم وأقدرهم , وأصلحهم عملاً , وأنجحهم أملا , وأرجحهم رأيا , وأوضحهم آيا ,

وأصدقهم قولا , وأقصدهم طولا ,

كان عصره فاضلا , ونصره واصلا , وحكمه عادلا , وفضله شاملا , وزمانه طيبا , وإحسانه صيّبا ,

والقلوب بمهابته ومحبته ممتلية , والنفوس بعاطفته وعارفته ممتلية , وأموره مقتبلة , وأوامره ممتثلة ,

وجده منزه عن الهزل , ونوابه في أمن من العزل , ودولته مأمولة مأمونة , وروضته مصوبة مصونة ,

والرياسة كاملة , والسياسة شاملة , والزيادة زائدة , والسعادة مساعدة , والعيشة ناضرة ,

و الشرع مشروع , والحكم مسموع ,
والعدل مولّى والظلم معزول , والتوحيد مخزول والشرك مخذول ,

قاله العماد الكاتب ونقله ابن زغلول ,
في التعريف بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي .. رحمه الله ورضي عنه وأناله القبول .



بنى أسوار مدن الشام جميعها , وقلاعها , فمنها حلب وحماة ودمشق وبارين وشيزر ومنبج , وغيرها من القلاع والحصون .



وبنى المدارس والجوامع , وبنى البيمارستانات في البلاد , ومن أعظمها البيمارستان الذي بناه بدمشق , وجعله وقفاً على الفقراء والأغنياء على السواء .



قال ابن الأثير : وبنى نور الدين الخانات في الطرق , فأمن الناس وحفظت أموالهم , وباتوا في الشتاء في كنّ من البرد والمطر .



وبنى أيضاً الأبراج على الطرق بين المسلمين والفرنج , وجعل فيها من يحفظها ومعهم الطيور الهوادي , فإذا رأوا من العدو أحداً أرسلوا الطيور , فأخذ الناس حذرهم , واحتاطوا لأنفسهم , فلم يبلغ العدو منهم غرضاً .



وبنى الربط والخانقاهات في جميع البلاد , ووقف عليها الوقوف الكثيرة , وأدر عليهم الإدرارات الصالحة .



وكان يحضر المشايخ ويقربهم , ويدنيهم ويبسطهم , ويتواضع لهم .



وبنى بدمشق أيضاً دار الحديث , ووقف عليها وعلى من بها من المشتغلين بعلم الحديث وقوفاً كثيرة ,



وبنى أيضاً مكاتب للأيتام , وأجرى عليهم وعلى معلميهم الجرايات الوافرة ,



وبنى مساجد كثيرة ووقف عليها وعلى من يقرأ بها من القرآن .



توفي نور الدين سنة تسع وستين وخمسمئة , وفيها أكثر من الأوقاف والصدقات وعمارة المساجد , وتعفية آثار الآثام , وإسقاط كل ما يدخل في شبهة الحرام , فألغى الفروض والضرائب , ولم يبق إلا الجزية والخراج .



وتصدق بما تبقى من ماله على الفقراء , وفاتني أن أذكر لكم أن ما كان يهدى إليه من الملوك والأمراء وغيرهم , لم يكن يتصرف في شيء منه , لا قليل ولا كثير , بل إذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي يحصّل ثمنه , ويصرفه في عمارة المساجد المهجورة .



رحمك الله يا نور الدين .. دمشق التي أحببتها أحبتك ..



دمشق التي عُنيت بها .. مازالت تذكرك وتترحم عليك ..