الإنسان والوجودية بين سارتر وديكارت
- الإلحاد :
إن من المتعارف عليه أن الإلحاد نوعان :
الأول : لا يصدق بوجود الله ولا إيمان له بوجوده لذلك يجحد بالله ويلحد به ويقول بها عادة كل متمرس في العلوم الرياضية أو العلوم التطبيقية الإستنتاجية.
الثاني : نوع يعرف الله ويعرف بوجوده ولكنه مع ذلك يتكبر ويرفض الخضوع لمشيئته العليا ، وهذا النوع الأخير هو وليد الإرادة لا وليد العقل لأنه يعرف الله بعقله ولكنه بإرادته يتكبر ويرفض الخشوع له .
- ديكارت :
- حرية الإرادة عند الله هي أهم صفاته :
إرادة الله لا تتناول الممكن فحسب ولكنها تمس الحقائق الأبدية، فالله وضع لنا الحقائق وأرادها أن تكون ضرورية لنا دون أن تكون ضرورية عليه وإلا كان مضطراً في إرادته ....ومن أهم صفات الخالق عند ديكارت هي الحرية المطلقة، الله به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما هو كائن في مجرى الزمان ...الله لا يزرح تحت عبء منطق ولا تخيم عليه ماهيات من فوق ولا يأتمر بحقيقة كائنة من الخارج ، لهذا لا نستطيع أن نتعرض لما نهى الله ولا أن نعترض على ما استحسن، لأن في ذلك حد لحريته ولا يتصور أن يكون هناك حد لحرية الله ، فالحقيقة المطلقة مخلوقة من لدن الله خلقاً حراً فهي –الحقيقة المطلقة- تنعدم بعدم وجود الله لذلك جاز له –وهو الذي خلقها- أن يسوغ نقيضها فيكون، إرادة الله لا قبل يسبقها إذا انتفت من وجوده كعين ما يجب أن تقوم عليه ألوهيته فسد جوهره...للحرية إذا في صفات الله فوق ما لصفاته الباقية لأنها وبمعناها المديد أول كل بداية وآخر كل نهاية
- الإرادة لا العقل هي التي تقييم :
يقول ديكارت بأن العقل يرى الأفكار لكنه لا يبت ولا يقطع ولا ينفي ، يرى الأفكار من دون أن يميز بين صالحها وطالحها، ولكن الإنسان لا يميز بين الأفكار تمييزا أفقياً فحسب وإلا لكانت جميع الأمور على مستوى واحد، بل هناك تمييز عمودي يرتب الأمور ترتيباً يفاضل بينها...هذا التمييز يأتي من الإرادة فهي التي تطلق الأحكام وتحسّن وتقبح بطرفة عين، وهذا يعني أن الحكم فعل إرادي واختياري فالإرادة تحكم متجاوزة العقل كل التجاوز، وهي –لا العقل- التي تأمر بما يجب أن يفعل وما لا يجب. إذا العقل لا يثبت ولا ينفي بل يتصور المعاني التي يمكن أن يحكم عليها بالإثبات والنفي أما الإرادة فهي التي تقوم بمهمة الإثبات والنفي ...
الإرادة رحبة جداً في نوعها ونطاقها أوسع من العقل ولكن اندفاعها سهل وراء كل ما يثيرها وهذا هو مصدر الخطأ "الاندفاع وراء ما يثير"، ولذا الفضيلة عند ديكارت تكون بالتآخي بين الإرادة والعقل، وهذا يعني أنني على صواب في كل مرة أمتنع فيها عن أن أريد شيئاً لا أعقله بوضوح، إذا العقل هو الذي يلقي النور والوضوح على الأمور ليفهمنا ما يجب أن نفعله وإلا كنا عرضة للخطأ وسوء التصرف إذا استخدمنا الإرادة وحدها، إذا هناك لوحة من القيم "المختزنة في العقل" يجب على الإرادة أن تتقيد بها لئلا تنزلق بالباطل .
يقول ديكارت "تشهد تجاربي أن لي ، بالواقع، إرادة ضافية، مترامية ، لا يحصرها حد ، ولا يحبسها قيد ".
- سارتر :
- معضلة الوجود وعجز العقل عن حلها " الإيمان بالله قضية إرادية لا عقلية ":
معضلة وجود الله أو عدمه لا تُحل لا سلباً ولا إيجاباً على ضوء العقل فالعقل عاجز تماماً عن أن يثبتها أو لا يثبتها فهو يبرهن على سلب هذه المعضلة وإيجابها بآن واحد فيقول أن الله موجود ويدلي بما يدعم ذلك، ويقول أن الله غير موجود ويدلي بما يدعم ذلك أيضاً ...وهنا كان للمؤمنين حججهم المنطقية وللملحدين حججهم المنطقية على حد سواء ، فالعقل هنا لم يجمع لا على الإيمان ولا على الإلحاد بل ظل منقسماً بينهما ولو كان باستطاعة العقل وحده حل هذه المعضلة لاجتمع الناس على حل لأن حركة العقل واحدة عند جميع البشر .
العقل نفسه ينغلق – في صميمه- إلى شقين متناقضين إزاء هذه المعضلة، ينغلق إلى نافٍ ومثبت في نفس الوقت، وهذا يعني أن العقل بحاجة دائماً إلى نقطة ارتكاز أولى يُعطاها بدون حساب ليتمكن بعد ذلك من أن يزاول حقه "العقل بحاجة إلى مبدأ لا عقلي ينطلق منه عاقلاً" فإذا كان هذا المبدأ يقول بوجود الله شاد العقل على هذا الإثبات، وإذا كان المبدأ يقول بعدم وجود الله شاد العقل على الإلحاد به "الإيمان بالله قضية إرادية لا عقلية".
- حرية الاختيار عند سارتر:
على الإنسان أن يذهب إلى أبعد حدود المسؤولية، حدود يعينها الإنسان بذاته، سواء أكان الله موجوداً أم غير موجود، فوجود الإنسان يرتكز دائماً إلى الاختيار الحر فعندما أقول :"تلك مشيئة الله" أكون قبل ذلك قد اخترت الإيمان بالله من غير الكفر به .
يقول سارتر " لا شيء يتغير حتى في ظل وجود الله والإيمان به إرادة الإنسان حرة لا يقيدها وجود الله أو عدم وجوده، فالإنسان هو منبع الخير والشر والرذيلة والفضيلة منه كل شيء وإليه كل شيء الإنسان يتمتع بحرية مطلقة لا يحدها شيء " .
- نظرة سارتر إلى صنع الإنسان :
إذا نظرنا إلى أي شيء صنعه الإنسان كالبيت نرى أن الصانع يتمثل بادئ ذي بدء بصورة البيت وهذه الصورة هي التصميم الفكري الذي يوجه الإنسان في عمله، إذا الصورة النظرية هي سابقة لوجود الفعل، وزد على ذلك أن الشيء ذو منفعة معينة أي أن الإنسان لا يعمل شيئاً يعلم أن ليس له من منفعة "المذهب البراغماتي"، ومن هنا القول أن الجوهر-الذي هو مجموعة الكيفيات التي يعرف بها الشيء كالطول والعرض والشكل واللون والفائدة ثم الوسائل التي يصنع بها - بالنسبة للشيء هو سابق للوجود...فالوجود فكرة ومن ثم تحولت هذه الفكرة إلى واقع ومن هنا كان الوجود.
- نظرة سارتر إلى خلق الله :
نحن نتصور الله إبان خلق الإنسان، عاقلاً قبل أن يريد أن يخلقه، أي أننا نسلم أن الإرادة تتبع للعقل أو على الأقل ترافقه، وهذا يعني أن صورة الإنسان في ذهن الله هي كصورة البيت في ذهن الإنسان، فالله يخلق تبعاً لتخطيط مسبق والإنسان هو مخلوق يحقق تخطيطاً معيناً في ذهن الله يحقق صورة شاملة هي الإنسانية هنا أيضاً نرى أن الجوهر سابق للوجود فالإنسانية أولا ثم الإنسان .
- نظرة سارتر للإنسان :
الإنسان موجود لا جوهر له، لم يكن الإنسان شيئاً قبل أن يكون ، هو الوجود الذي يتصور ذاته بعد الوجود، فهو مشروع وجود ، وهو يكون بحسب ما يشرعه لنفسه. وبحسب هذه النظرة السارترية للإنسان فهو يقول أن الإنسان غير قابل للتجديد لأنه عدم في البدء أصلاً أي لا شيء قبل أن يكون الإنسان، الإنسان أولاً ثم الإنسانية بعد ذلك، إذا الإنسان مسؤول تماماً عما هو فالوجودية هي التي تضع الإنسان في مركز المحاكمة والمساءلة عن تصرفاته وعن وجوده المطلق ، لأنه يختار الخير بنفسه كما يختار الشر بنفسه ...فالإنسان وجود ومن ثم تقييم وجود الإنسان سابق للخير والشر اللذان يبدآن بفعله هو ...وجود الإنسان حرية لا متناهية .
- نقد سارتر للحرية الديكارتية والحرية المسيحية :
"الحرية الديكارتية تلتقي مع الحرية المسيحية التي هي حرية مقيدة ، حرية مزيفة ، فالإنسان فيها حر نحو الشر لا تجاه الخير والحق فالله يقود الناس بأيديهم نحو المعرفة والفضيلة التي يختارها لهم "
لم لا تكون حرية الإنسان "كما يقول ديكارت" شبيهة -من حيث الجوهر – بحرية الله الذي لا يخضع لمبادئ من فوق ولا ماهيات ينفذ مراسيمها، لم لا تكون أعمال الإنسان –خيراً ًكانت أم شراً- في بدء من ذاته ؟؟؟
هل هي حرية تلك التي تتقيد بالخير والشر المفروضان على الإنسان ؟؟
- مفهوم الحرية عند سارتر :
الإنسان حتى يكون حراً هو مجبر على تحرير الآخرين وهو مجبر حتى يحصل على حريته التامة أن يكون كل فرد مسؤولاً عن الأفراد جميعاً، فأنا حر يوم أحرر سواي وأخلق من حولي جواً من الحرية أتفاعل معه حراً لا عبداً، ومن هنا يكون حجم المسؤولية أكبر لأن كل عمل أقوم به يحمل في طياته تخطيطاً للإنسانية جمعاء، فالإنسان الحر هو الذي يجعل الناس ينضوون معه في كل عمل يقوم به .
- نقد :
لا يسعنا القول إلا أن سارتر مفكر جبار، يلاحق ظلمات النفس، فاضحاً معميات ألغازها، بعقل ثاقب وحس مرهف يطارد أسرار الفؤاد، وكثيراً ما يغلبها بنوره المستطيل فتلقي مقاليدها أمام قلمه.فهو يريد أن يجعل الإنسان مسؤولاُ عن وجوده التام، أكان الله كائناً أم لم يكن. والمسؤولية المطلقة تقتضي الحرية المطلقة فالإنسان حر تماماً –من وجهة نظره- في الخير الذي يفعله و في الشر الذي يتجنبه، الإنسان هو باعث الحق وهو خالق الباطل .
وهنا نجد الفسخ في العمارة السارترية ، إذا كان الإنسان وراء الإنسان أي إذا كان الألف والياء –في كل ما يفعل- إذا كان هو الذي يؤبجد الأمور لا أرى ضرورة من بعد ذلك إلى أن يكون مسؤولاً، وحيال من يكون مسؤولاً مادام سارتر لا يجعل فوق سقف الإنسان سقف آخر ليسأل ويدين ؟ المسؤولية تقتضي سائلاً و مسؤولاً وتقتضي أن يكون السائل فوق المسؤول ليكون في الحلال ثواب وفي الحرام عقاب . وبالتالي ما هي الفائدة من وجود الخير والشر إذا كان الإنسان لا يمكن أن يعاقب ذاته ؟
ومن ثم إن هذه المعضلة الضخمة –معضلة الله- لا يمكن بتها بمعزل عن فكرة الموت . لو لم يكن الموت لهان الإلحاد إذ لا يعود هناك من ضرورة لوجود الله ما دام الإنسان باقياً في هذه الحياة يأمن شر الفناء.ولهذا كان من واجب الملحد أن يتخلص من شوكة الموت ليصبح في حل من الله. وهذا ما شعر به ديكارت -الذي غررته نفسه أكثر من مرة أن يتكابر أيضاً – شعر بضرورة التغلب على الموت ليأتي الإلحاد منسجماً وإلا بقي فقاقيع كلام ، شعر بأن من واجب الملحد ألا يشك وألا يشتهي وألا يفتقر إلى الكمال ، أي من واجب الملحد أن يغدق على نفسه الكمال اللامتناهي الذي يود لو يكونه ولكنه في النهاية لا يكون إلا ما كان في الواقع أي نقصاً متناهياً.
صورة الله هي أقدم الصور في ذاكرة الإنسانية منها تفرعت واليها ترد السبل التي نهجها العقل البشري في جميع محاولاته الفلسفية.الواقعية تستلزم المثالية، إنها توجب قيام فلك تستمد منه قوتها، واتجاهها الصاعد، إذ لا قيمة لواقعية من تحت لا تهيمن عليها القيم المثالية من فوق لهذا سيبقى الله ، أما إلحاد سارتر فسينهار عندما تعصف به زعازع الأيام فلا يثبت منه غير محاولة إنسان أراد أن يعرف كل المعرفة ولم يعرف –في آخر الأمر- إلا أنه لا يعرف شيئاً .
منقول بتصرف عن د. كمال يوسف الحاج
أسعد المدرس