كان والدي يعمل مرابعا في مزرعة يملكها إقطاعي لا تزال صورته حية في ذاكرتي وهو يركب على حصانه ويتجول بين الفلاحين وهم يكدحون في أرضه.
ومنذ نعومة أظفاري كنت أسأل نفسي، لماذا يملك هذا الإقطاعي كل هذه الأراضي بينما الآخرون لا يملكون سوى قوة عملهم؟ كنت أشعر بأن ذلك ليس عدلا، وأحسست عفويا بأن الاشتراكية قادمة يوما ما لا محالة وسوف تقضي على هؤلاء الطفيليين مصاصي دماء الشعب.
ذات يوم قتلني الإقطاعي قتلة، لا تزال طعمتها تحت أضراسي، كانت هي التي عمقت حقدي الطبقي عليه وعلى أمثاله، وكانت الدافع لي فيما بعد لأن أنتسب للحزب الاشتراكي القومي.
وقد كانت كل تلك القتلة بسبب قطة لعينة اعتادت التردد على المزرعة وتسلطت على صيصانها وفراخها وراحت تأكل كل يوم فرخ حمام أو صوص دجاج أو بط أو أوز صغير، فقرر الإقطاعي التخلص منها، وقد طلب مني بحضور والدي أن أحتال عليها وأمسكها وأضعها في كيس وآخذها إلى المدينة التي كانت تبعد حوالي المائة كيلومتر عن القرية كي لا تتمكن من العودة إلى المزرعة ثانية.
وناولني الإقطاعي عشر ليرات كمهمة لتغطية نفقات السفر، وقد كان ذلك المبلغ يومها ضخما. كانت وسيلة النقل الوحيدة ما بين المدينة والقرية هي "البوسطة" وكانت هذه البوسطة تغادر في الصباح الباكر وتعود عند الظهر. في صباح اليوم التالي، ولتنفيذ المهمة التي أوكلها إلي معلمي، خدعت القطة وأمسكت بها بعد أن لوحت لها بقطعة جبنة متظاهرا أنني أريد أن أطعمها إياها وناديتها بيس بيس.
استأنست القطة لي واقتربت مني لتأكل قطعة الجبنة من يدي، فهجمتُ عليها مثل الغضنفر ومسكتُها ووضعتُها داخل الكيس وراحت تبلعط وتتخبط محاولة التخلص، لكنني قمت بإمساك الكيس من رقبته جيدا كيلا لا تفر وهرولت نحو البوسطة وركبت فيها قاصدا المدينة.
وما إن ارتميت على المقعد وأخذت البوسطة مسارها على الطريق الترابي – إذ لم تكن الطرق معبدة قبل الثورة – وراحت تهزهز وتطجطج حتى فتر حيلي ودب النعاس بأجفاني وتراخت قبضتي عن رقبة الكيس، وإذ شعرت القطة بذلك، انتهزت تلك الفرصة ونطت خارجة من الكيس دون أن أحس عليها، ويبدو أنها لطت عند باب البوسطة وقذفت بنفسها خارجها في أول موقف.
ولسوء حظي فقد حدث كل ذلك بينما لا تزال البوسطة ضمن القرية بينما أنا أغط في سبات عميق. استيقظت بعد أكثر من ساعتين على صوت الركاب ينزلون في المدينة، تلمست الكيس لأطمئن على القطة وإذ به خاو. يا ويلي، هربت.
ماذا سأقول للإقطاعي الذي أرسلني في هذه المهمة وأعطاني عشر ليرات لقاءها كانت أكبر مبلغ أتلقاه في حياتي قبل أن أصير مناضلا وأتقاضى بدل مهماتي وعمولاتي بالعملة الصعبة.
شعرت بالخوف قبل أن يخطر ببالي أن أدعي للإقطاعي بأنني قمت برمي القطة في المدينة.
وحتى لو عادت بعد عدة أيام فستكون اللعينة قد عرفت طريقها ولن يكون الذنب ذنبي. نزلت من البوسطة، وتجولت في تلك المدينة التي كنت أزورها للمرة الأولى، وأكلت بوظة وسندويشة وكازوزة وحلوى وكلها أكلات كنت أذوقها للمرة الأولى لأنها غير متوفرة في القرية. وعند الظهر ركبت في ذات البوسطة وأقفلت عائدا. وما إن دخلت إلى المزرعة حتى لاقى لي الإقطاعي وقال لي: شو وين رميت القطة؟
قلت له متلعثما ومتأتئا: أخذتها يا معلمي إلى أبعد نقطة في المدينة ورميتها هناك وعدت. ولمحت الإقطاعي يوجه نظره إلى نقطة تقع خلفي، تلفت إليها وإذ بالقطة اللعينة قد عادت قبلي وكانت جالسة تلحس شواربها بلسانها وتمسح وجهها بقائمتها اليمنى بكل براءة بعد أن تناولت طعامها مما رزقها الله.
وأردت أن أهجم عليها وأمزقها إربا إربا بكل ما أوتيت من زخم ثوري لكن الإقطاعي المستغل أمسك بي وهوى علي بالخيزرانة وهو يقول لي: إياك والكذب، قل الحقيقة ولا تكذب في حياتك، أكبر عار على الإنسان أن يكذب، وضربني وأنا أتوسل إليه قائلا: التوبة، التوبة يا معلمي، غير أن توسلاتي لم تجد نفعا.
شعرت بحقد كبير وتمنيت لو أستطيع أن أقضي على الإقطاع وعلى البرجوازية في العالم. وقد بقيت تلك الحادثة حية في ذهني حتى تعرفت فيما بعد من خلال والد زميلي في المدرسة على فكر الحزب الاشتراكي القومي الذي انتسبت إليه فورا لأنه يحقق لي طموحاتي. بعد عدة سنوات استلم حزبنا السلطة على أثر ثورة شعبية عارمة قام بها الجيش نيابة عن العمال والفلاحين، وقضينا على الإقطاع والرجعية، بل وحتى على الاستعمار والإمبريالية.
رغم أنني بصراحة لم أحصل على أية شهادة، لكنني بفضل الحزب صرت فهيما جدا، لذلك تم إسناد مناصب عديدة لي على مدى السنين التالية من عمر الثورة تحسن على أثرها وضعي كثيرا.
اشتريت ضيعة كاملة وأقمت عليها مزرعة ضخمة أين منها مزرعة ذلك الإقطاعي البغيض المستغل.
كما اشتريت مصنعا ضخما وأسس أولادي فيما بعد شركات عديدة ووكالات سيارات وبنوا فيلات وقصورا. وهكذا تحرر شعبنا من الإقطاع والرأسمالية بفضل الثورة التي آمنت بها وعملت لأجلها، وتيمنا بها صاروا ينادوني الرفيق أبو ثائر..
منقول عن ناصر الماغوط : ( كلنا شركاء) 17/8/2005
نقله للمنتدى عمر الفاروق