قال سقراط : (( أعطني قضاة جيدين وقانوناً سيئاً ، خيرٌ لي ألف مرة من أن تعطني قضاة فاسدين وقانوناً جيداً )) فالقوانين هي عبارة عن نصوص جامدة ، والقاضي الجيد "الكفء العادل النزيه" هو الذي ينفث فيه روح العدالة والإنسانية.
وهذا ما سوف نلمسه في حيثيات الحكم الصادر عن رئيس محكمة صلح جزاء النبطية في لبنان القاضي حسن الأمين ويحمل الرقم رقم 234 أساس 219 لعام 1944، ونترك للقرّاء الأعزاء حرية التعليق على هذا الحكم الطريف التالي نصه الحرفي:
المدعـــي: الحق العام.
المدعى عليه : علي يوسف الحايك من قرية عدشيت .
باسم الشعب اللبناني
في المحاكمة العلنية تبين أن مانُسب إلى المدعى عليه علي يوسف حايك من عدشيت ، هو أنه كان يحرث الأرض على رأس بقر وحمار ، وأن في هذا عدم رفق بالحمار وينطبق على القرار 3016
وحيث أنه قبل أن تعلن العقوبة التي يستحقها المدعى عليه ، علينا أن نرجع إلى النص القانوني الذي استند إليه الدرك في تجريمهم للمدعى عليه ، فإن المادة الأولى من القرار 3016 تصرح : " بأنه يعاقب من ثمانية أيام إلى ستة أشهر ، وبجزاء نقدي من ليرتين إلى خمسة وعشرين ليرة لبنانية ، كل من يسيء معاملة حيوان بلا ضرورة أو بإتيان عمل غير جائز للبلوغ إلى غاية مقبولة سواء كان بضربه أو بتعذيبه ، وكل من يحمل حيواناً على القيام بعمل يفوق مقدرته أو يؤلمه إلى أخر ماجاء في المادة المذكورة. فهل ينطبق هذا النص القانوني على عمل المدعى عليه ؟
إن هذه المحكمة تجيب على هذا بكلمة "لا" .. وهي مطمئنة إلى هذا الجواب فالمادة القانونية تنص على أن يكون هناك إساءة للحيوان وأن تكون هذه الإساءة بالضرورة.
فهل في الحراثة على الحمار إساءة إليه ؟ إذا كان المشترع يقصد الإساءة المعنوية أو بعبارة أوضح الإهانة ، فلا شك إنه ليس في الحراسة على الحمار إهانة ، بل ربما كان فيها تكريماً له ، وذلك برفعه عن مستوى بني جنسه الحمير ، وقرنه إلى فصيلة أعلى هي البقر .
ومهما يكن من أمر، فمن ذا يستطيع أن يقول أن وضع النير على العنق هو أكثر إهانة من الركوب على الظهر ؟ وإذا كان المشترع يقصد الإساءة المادية ، فأغلب الظن أن لافرق عند الحمار بين أن توقره بالأحمال الثقيلة ، وبين أن تشد عليه المحراث ، بل ربما كانت الثانية أقل مشقة وأخف كلفة . وعلى كل فمرجع ذلك إلى الحمار وحده .
ومادام الحمار عاجزاً عن إيضاح هذه النقطة، فتظل موضع شك، وفي حالة الشك يجب مراعاة جانب المدعى عليه.
وحيث أن الشرط الثاني الذي تشترطه المادة إلى جانب الإساءة ، هو أن تكون الإساءة بلا ضرورة ، ونحن نفهم من الضرورة إنها هي التي تلجىء الانسان إلى الإقدام على مايقدم عليه ، ضرورة لجئة أكثر من ضرورة هذا الهرم ذي الأطمار البالية والفقر المدقع ، وأي ضرورة أعظم من فقر هذا الفلاح المتهدم الذي يُعلم المحكمة إنه فقد ثوره فعجز عن شراء غيره .
وحيث أنه بعد أن بيّنا أن هذه لاتطبق على حال المدعى عليه ، فهل تنطبق عليه الفقرات الأخرى ..؟ إن الفقرة الثانية تنص على أن يأتي الإنسان عملاً غير جائز للبلوغ إلى غاية مقبولة.
وحيث أن القانون لم يحدد الجواز وعدم الجواز ، ولم يوضح كيف يكون العمل جائزاً ، فنحن لانستطيع أن نقول إن عمل المدعى عليه غير جائز ، بل نرى فيه الجواز كل الجواز . فلاح فقير يموت ثوره ، ولايملك نقوداً ، بل حماراً فينتدب حماره العتيد مكان ثوره الفقيد ، إلى أن يفرجها الله عليه فيفرجها هو على الحمار . فأي شيء في هذا غير جائز ؟
وحيث أنه بقي علينا أن نرى الفقرة التي تقول ، كل من يحمل حيوناً بعمل يفوق مقدرته أويؤلمه، ومن الذي الذي يستطيع أن يبين لنا ما إذا كانت الحراثة تفوق عن مقدرة الحمار وتؤلمه أم لا..؟
فالحمار الذي يحمل أثقل الأحمال وأثقل الرجال لايمكن أن تفوق الحراثة مقدرته ، والحمار الذي لاتؤلمه الحبال المشددة ، لاتؤلمه كذلك الخشاب الممدودة.
وحيث أن المحكمة فضلاً عما تقدم ترى للقضية وجهاً آخر، فهي تسأل: أيهما في نظر القانون أقرب إلى الرفق ؟
أهو أن تقذف بهذا العجوز إلى ظلمات السجن ، أم أن يحرث على الحمار ؟ أما هذه المحكمة فترى إنقاذ جسم هذا الشيخ الفقير من الحبس وجيبه من الجزاء أقرب للرفق من إنقاذ الحمار من الحراثة ، مادام الحمار إذا لم يحرث فسيحمل ، ونرى أن حبات من القمح يزرعها المدعى عليه على حماره ، ستخرج سنابلها وتؤتي أكلها فيكون فيها – هذه الأيام السود- لقمة لجائع وبلغة لفقير ، هي أجدى على القانون وعلى المجتمع من إلقائه في السجن وتجريمه بالجزاء وإراحة حماره .
لذلك :
حكمت المحكمة ببراءة المدعى عليه حكماً وجاهياً قابلاً للاستئناف، تلي وأفهم علناً في الثاني عشر من نيسان سنة 1944
" نقلاً عن جريدة الجريدة اللبنانية العدد رقم 2610 السنة التاسعة لعام 1961 ".
وإلى اللقاء في حكم صادرٍ عن محاكم هذه الأيام .