ذكرياتي في المحاماة:من مذكرات اكرم الحوراني
استأجرت قبيل الحرب، مع زميلي بدر الدين علوش، مكتبين متجاورين للمحاماه، وكان هذا بداية استقلالنا في العمل قبل انتهاء مدة التدريب، وقد أصبح هذان المكتبان مركزا لنشاط حركة الشباب بحماه.
لم تكن ذكرياتي عن مهنة المحاماة مشرقة. إذ إنني لم أكن جريئا في المرافعات والمراجعات، بل كنت حييا خجولا أخشى كثيرا النقد الذي يتعرض له عادة المحامون المتمرنون... كما إنني لم آلف بسهولة تقاضي الأجر المادي عن أتعاب المحاماة، ولم أقتنع بصحة وأخلاقية ما كنت أتقاضاه من الموكلين كبدل أتعاب، ولولا الحاجة والضرورة لما أكملت مدة التدريب، والواقع إنني كنت خلال ذلك أتحين الفرصة في البحث عن عمل آخر أؤمن منه أسباب المعيشة ويخلصني من هذه المهنة.
كانت المحاماة بالنسبة إلي مهنة شاقة نفسيا، فرب قضية مرتفعة الأجور لا تكلف إلا جهدا يسيرا، ورب قضية تكلف تعبا كبيرا ولا يتقاضى عنها المحامي إلا أجرا زهيدا، إن في مهنة المحاماة نوعا من المقامرة التي كنت أكرهها، وإن عملا لا تمارسه برغبة ومحبة وانفتاح لا تكون به مجدا مبدعا، ولذا لم أكن مجدا مكبا على دراسة الدعاوى والقوانين كما ينبغي، ولم تؤثر بي كل الاغراءات المادية التي أتاحتها ظروف الحرب للمحامين ولأصحاب المهن الحرة بشكل عام، وبالرغم من أنني أصبحت بعد انتهاء فترة التدريب محاميا معروفا- وكان المحامون في حماه قلة- فإن ذلك لم يؤثر على نفوري من تلك المهنة التي كنت أمارسها.
كانت الثقة والقناعة والتواضع هي العوامل التي تدفع بأصحاب الدعاوى للاقبال على توكيلي بقضاياهم، وكانت هذه العوامل تنقلب إلى صداقة دائمة مع الموكلين، لا سيما الفلاحين، يضاف إلى ذلك أنني ما طالبت مرة بالأجور المؤجلة، ولم أقاض أي موكل لامتناعه عن دفعها، كما أنني كثيرا ما كنت ألجأ إلى المصالحة بين المتخاصمين وإنهاء مشاكلهم قبل وصولها إلى المحكمة، ضاربا عرض الحائط بالمكاسب المادية، فكم وكم من قضايا الزواج والطلاق حلت بهذا الاسلوب فلاقت أعظم الارتياح لدى أصحابها.
وفي بداية العمل كان يحز في نفسي احترام القضاة للأساتذة الكبار، ولكن سرعان ما أصبحت أتمتع مثلهم بالتقدير والاحترام، وقد جمعتني صداقة خالصة مع عدد من القضاة الذين كانوا يتحلون بالثقافة والنزاهة والتجرد، ولا زلت أشعر باعتزاز كبير لما كان يتمتع به القضاء السوري وجهاز الدولة عامة من نزاهة، لا سيما في ظروف الحرب... فقبل الحرب كان الموظف يغبط على وظيفته ويعد من الفئة الميسورة. ولكن الحرب قلبت الآية.
كان قضاتنا الشجعان يصدون تدخلات المستشارين الفرنسيين بقسوة وعنف، ولا زلت أذكر موقف أحد القضاة عندما أرسل إليه المستشار توصية بإحدى الدعاوى، فأبرزها وتلاها علنا ثم سجلها في ضبط الدعوى.
لكن، بالرغم من المكاره التي يواجهها المحامون أثناء ممارسة مهنتهم، فإنها من أكثر المهن التصاقا بالمجتمع الذي نعيش فيه فهي تتيح للمحامي أن يتصل بالوعي والاحتكاك المباشر إلى أعماق قضايا المجتمع ومشاكله وأوضاعه الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
إن المحامي يرى بالمجهر جميع ما يتمتع به الشعب من فضائل وإمكانيات وما يقاسيه من علل وأمراض، ولقد كشفت لي تلك التجربة عن أن مجتمع الريف كان أكثر صحة وعافية من مجتمع المدينة، كما كان من إيجابيات مهنة المحاماة أنها زودتني بنصيب من الثقافة الحقوقية والقانونية التي تجعل النائب أكثر قدرة على فهم مشاكل المجتمع ومعالجة شؤونه عند اقتراح القوانين أو صياغتها ومناقشتها، إن مهنة المحاماة كانت تمرينا فعليا استفدت منه عندما أصبحت نائبا في عام 1943.
كانت ظروف الحرب فرصة لثراء المحامين واغتنائهم، ولكنها كانت بالنسبة إلي فرصة لأعيش مشاكل المجتمع وأفهمها، أما من ناحية المردود المادي فقد أصبحت بعد مزاولة المهنة أعيش بمستوى الأقران والأصدقاء، ولم أكن مسؤولا آنذاك إلا عن والدتي التي كنت أعيش معها في المنزل الأبوي، وقد توفر معي ما يقارب السبعين ليرة ذهبية شجعتني على إصدار جريدة اليقظة فيما بعد. أي أن نعمة المهنة رافقتني آثارها حتى صدور "اليقظة" في عام 1946.