كان أجدادنا المصلحون في الماضي ينادون بفصل الدين عن الدولة.
نحن أحفادهم البؤساء اليوم، المتهمون من حكوماتنا بأننا ديموقراطيون وخونة وحاقدون وموتورون ونهدد الاستقرار والوحدة الوطنية صرنا ننادي بفصل الطائفة عن الدولة، وفصل القبيلة عن الدولة، وفصل الأشخاص وعائلاتهم وحواشيهم عن الدولة.
وبعد أكثر من نصف قرن من عمر هذه الحكومات الوطنية المتعاقبة، وصلت الأوضاع العامة في العالم العربي إلى الحضيض، وهو ما فسح المجال أمام تدخلات خارجية لن تحمد عقباها.
ولأن سوء الأحوال لم يعد خافيا على أحد، فقد بات الحديث عن الحاجة الماسة للإصلاح عاما بين الناس بمختلف الشرائح. وما من يوم يمر علينا إلا وتطلع فيه الصحف والمجلات والإذاعات ومحطات التلفزة العربية من فضائية وغيرها بتحليلات يتناقشون فيها عن الإصلاح وأنواعه وأولوياته، لكن أحدا لم يجرؤ على أن يقول بأنه ما لم يتم نشر أشرعة الحرية فوق هذه المنطقة فلن تقلع سفينة الإصلاح فيها.
حالتنا تدعو للتشاؤم لأننا تأخرنا كثيرا: انظروا إلى كل هذه القوانين والمراسيم المتكدسة والمتناقضة، ألسنا بحاجة إلى إصلاح تشريعي؟ انظروا إلى محاكمنا وقضاتنا والغيبوبة التي تدخل فيها الدعاوى القضائية في المحاكم والمبالغ التي تدفع كرشاوى قبل الفصل فيها؟ ألسنا بحاجة إلى إصلاح قضائي؟ انظروا إلى أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية من فقر وبطالة وجهل وأمية وغياب الطبقة الوسطى، انظروا إلى نظامنا الضريبي الذي يستوفي من الموظف ضرائب تبلغ أضعاف ما يستوفى من التاجر، راقبوا توزع الدخل والثروة في هذه البلاد، انظروا إلى صناعتنا الوطنية، انظروا إلى طريقتنا في الزراعة والري، ماذا عن سياستنا الإعلامية؟ ما رأيكم بهذه الصحف والمجلات والمحطات التلفزيونية الرسمية؟ ثم ماذا عن الأخلاق السائدة بين الناس التي تبيح الرشوة والسرقة وتعتبرهما شطارة، انظروا إلى مناهجنا التعليمية وإلى أكوام الأميين الذين تقذفهم مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا على الأرصفة، وماذا عن نظامنا الانتخابي الذي ينظم عمليات الترشيح والانتخاب؟ انظروا إلى هذه الأحزاب المترهلة والتي تقتصر عضويتها على بعض المنتفعين. وانظروا إلى أجهزتنا الأمنية، انظ روا إلى أوضاعنا الصحية. انظروا إلى المواطن العربي وحقوقه المعدومة مقابل واجباته المرهقة والتي لا تعد ولا تحصى.
أليست جميعها بلا استثناء بحاجة إلى إصلاح؟
حتى شوارعنا محفرة وبحاجة إلى إصلاح. منازلنا وأبنيتنا متداعية وبحاجة إلى إصلاح.
الدين صار طوائف، والطائفة صارت عشائر، والعشيرة صارت مشايخ وأشخاص.
الأطفال فقدوا براءتهم. المسؤولون فقدوا إحساسهم بالمسؤولية. أراضينا الزراعية تصحرت وسواحلنا تلوثت وأنهارنا جفت وهواؤنا فسد، وتكوم الشباب أمام السفارات.
وأمام هذا المنظر البانورامي المرعب من الخراب والفساد يخطر على بالي أن أنادي: أيها المصلحون الغيورون الشرفاء، لا تضيعوا وقتكم بالتفكير والمناقشة حول أولويات الإصلاح.
إن إعادة البناء من جديد أقل كلفة من كل هذا التشقيع والترقيع.
====
منقول عن مقال للمحامي ناصر الماغوط