أن نجد في تصريحات الرئيس الأميركي جورج بوش وأحاديثه، بما في ذلك خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 20/9/2004، مادة للنقد والتهكم... فهذا ليس أمراً صعباً. ليس هنا فقط، في بلادنا التي عانت وتعاني من سياسات هذه الإدارة الأميركية، وإنما في العالم كله تقريباً، بما في ذلك لدى قطاعات غير بسيطة من الشعب الأميركي والشرائح الأكثر ثقافة ووعياً لديه. لكن المشكلة أن هذا الكلام المتكرر في خطاب بوش المشار إليه وفي تصريحاته وتصريحات مسؤولي إدارته الآخرين عن "الديمقراطية" و"الحرية" ليس للاستهلاك الإعلامي والدعاوي فحسب، بل هو جزء وغطاء لعملية سياسية – اقتصادية – عسكرية كبرى مارستها وتمارسها هذه الإدارة في أنحاء العالم، وفي منطقتنا بشكل خاص، وهدفها الفعلي والجوهري هو أبعد ما يكون عن المعاني المتعارف عليها للديمقراطية والحرية.
هل الديمقراطية هي التي انتصرت في "الحرب الباردة"؟
وبداية، لا بد من القول أن رواج الحديث عن الديمقراطية، خاصة بعد انهيار التجربة السوفييتية والتفرد الأميركي بالسطوة الكونية، و"الانتصار الأبدي" المفترض للنظام الرأسمالي ومؤسساته السياسية، وفق مقولات "نهاية التاريخ" الشهيرة في مطلع التسعينات الماضية (الأميركي فرانسيس فوكوياما)، هذا الرواج أو الترويج، بالصيغة الغالبة التي جرى وفقها، هو، في الواقع، امتداد وتثمير للحرب الأيديولوجية التي طبعت مرحلة الصراع الكوني خلال "الحرب الباردة"، من قبل الطرف الذي اعتبر نفسه منتصراً فيها. خاصة عندما يجري تقديم الأنظمة السياسية في الولايات المتحدة أو في اوروبا وأنحاء أخرى من العالم الرأسمالي المتقدم اقتصادياً كنماذج مكتملة مطلوب الإقتداء بها، وكوصفات جاهزة ينبغي تطبيقها في الأنحاء الأخرى من العالم، التي لم تتح لها الفرصة للتمتع بهذه الميزة.
فإذا كان صحيحاً أن إحدى نقاط ضعف النظام السوفييتي المنهار كان افتقاد الحريات الديمقراطية الأساسية في المجال السياسي، فإن ذلك ليس السبب الوحيد، ولا الحاسم على الأغلب، لهذا الإنهيار. ولا يعني ذلك أيضاً كون "صمود" النظام الأميركي أو الأنظمة الرأسمالية المتطورة الأخرى واستمراريتها وقدرتها على تجاوز أزماتها وتجديد نفسها، مقابل الانهيار السوفييتي، تعود بالأساس الى التوفر المفترض للحريات الديمقراطية فيها.
واستخدام هذا التعبير، أي الحريات الديمقراطية، مقصود، لأنه أكثر وضوحاً وتحديداً من التعبير العام الذي هو "الديمقراطية"، التي يروج لها الآن جورج بوش، وهو يغزو ويقتل ويدمّر، بقواته وقوات حلفائه الإسرائيليين وغيرهم، أكثر من بلد في منطقتنا وخارجها، ويسعى الى إحكام الهيمنة الأميركية على العالم كله لأطول فترة ممكنة، مستغلاً القوة الاقتصادية الهائلة للولايات المتحدة وامكانياتها العسكرية الكونية غير المسبوقة في تاريخ البشرية في اتساعها وحجمها.
جذور الديمقراطية
وكما هو معروف، فإن تعبير الديمقراطية ليس اختراعاً أميركياً أو أوروبياً غربياً، بل تعود "الملكية الفكرية" له الى الشعب اليوناني، وأكثر تحديداً الى الشعب الأثيني (أي شعب أثينا، العاصمة الحالية لليونان الموحد)، الذي ابتكر التعبير – ومعناه، بأصوله اللغوية اليونانية، "حكم الشعب"- قبل زهاء الخمسمئة عام على بدء التأريخ الميلادي، أي قبل 25 قرناً تقريباً. ولكن ممارسة هذه الديمقراطية في مدينة أثينا، في عصر لم تكن فيه اليونان موحدة بل كانت مجموعة من المدن المتنافسة والمتصارعة، هذه الممارسة كانت مقصورة على من كانوا يسمون بـ"الأحرار". أي ان العبيد، المملوكين للأحرار، وأعدادهم كانت كبيرة جداً، كانوا خارج هذه الممارسة، ولم تكن لهم أية حقوق سياسية، ناهيك عن الحقوق الإنسانية كما هو متعارف عليها في عالمنا الراهن.
وفي العصور اللاحقة، شهدت بلدان العالم المختلفة أشكالاً متنوعة من أنظمة الحكم كانت في غالبيتها أشكالاً سلطوية، وفي حالات كثيرة استبدادية قهرية ودموية. وإذا أخذنا بوضع أوروبا قبل خمسة أو ستة قرون من عصرنا، لرأينا نماذج رهيبة من هذه الأنظمة القهرية والاستبدادية، التي شاركت في عمليات قهرها لغالبية المواطنين، ليس فقط الشريحة الحاكمة أو طبقة النبلاء، كما كانت تسمى، وإنما أيضاً الكنيسة ورجال الدين، الذين اشتهروا، في تلك الحقبة، بمحاكم التفتيش وبأحكام حرق المواطنين المدانين وهم أحياء، التي كانت تصدر عنها كشكل من أشكال العقاب. ولكن النظام الاستبدادي السائد آنذاك في أوروبا، وبأشكال مختلفة في أنحاء العالم كله، بدأ يتعرض لسلسلة من الانتقادات والتصدعات والتمردات، التي اتخذت أشكالاً ومداخل متنوعة، وذلك بشكل خاص منذ القرن السادس عشر الميلادي، مع بدايات تطور الرأسمالية وصناعاتها الأولية، ومع بروز اختراقات علمية هامة على يد علماء مثل كوبرنيك ونيوتن وغاليليو غاليليي (الذي كاد يتعرض للحرق على يد الكنيسة الكاثوليكية، في مطلع القرن السابع عشر، بسبب نظريته حول مركزية الشمس ودوران الأرض حولها، على عكس الاعتقاد الذي كان سائداً آنذاك من كون الشمس هي التي تدور حول الأرض)...، ومع التمرد الديني على هيمنة الكنيسة في روما، والذي عبّر عن نفسه بحركات انشقاقية أسست للكنائس البروتستانتية منذ مطلع القرن السادس عشر، خاصة على أيدي مارتن لوتر في ألمانيا وجان كالفان في فرنسا وسويسرا والملك هنري الثامن في بريطانيا... ومع نهوض ونشاطات المفكرين والفلاسفة ودعاة الانعتاق من النظام الاقطاعي الاستبدادي، وخاصة في القرن الثامن عشر، عشية الثورة الفرنسية، التي اندلعت في أواخر القرن ذاته... ولاحقاً مع تطور وسيادة النظام الرأسمالي والثورة الصناعية وما رافق كل ذلك من أشكال جديدة لاستغلال قوة عمل الانسان.
وطوال الفترة التي اختزلناها بهذه العبارات المكثفة، لم تكن هناك صيغة ورؤية واحدة لمفهوم الديمقراطية في تلك المنطقة من العالم التي شهدت هذه التحولات الهائلة على الصعيد الاقتصادي-الصناعي، مع امتداداتها في القارة الأميركية وأنحاء أخرى من العالم. وحتى أفكار الثورة الفرنسية (1789)، التي بلورت الى حد كبير أفكار الحركات الانتفاضية على النظام الاقطاعي في تلك المرحلة التاريخية، حتى هذه الأفكار لم تجد أرضية صالحة لترجمتها على أرض الواقع السياسي والقانوني، حتى في بلد منشأها، أي فرنسا نفسها، إلا بعد زهاء القرن من الزمن، في أواخر القرن التاسع عشر، حين أقرّت الجمهورية الفرنسية الثالثة بعدد من الحقوق والحريات الديمقراطية الأساسية، بما في ذلك حرية التعبير والتنظيم والاقتراع العام (للذكور)، تحت الضغط الكبير الذي شكّلته كومونة باريس (1871) والحركة النقابية العمالية والصراعات الأوروبية المتفاقمة في زمن تبلور وتنامي دور الدولة القومية (توحيد ألمانيا وإيطاليا والتململات القومية في أوروبا الوسطى والشرقية). وحتى هذه الحريات الديمقراطية التي أشرنا إليها كانت منقوصة وغير مكتملة، وقد تطورت لاحقاً في عملية متواصلة خضعت لعملية شد وجذب بين الشرائح المسيطرة على السلطة، من جهة، والقطاعات الأكثر تقدماً وتنوراً في هذه المجتمعات والحركات الشعبية التي كانت تقودها، من جهة أخرى.
حق المرأة في الاقتراع والترشيح أقرّ به في أوروبا وأميركا...في القرن العشرين!
فعلى صعيد الحقوق السياسية للمرأة، مثلاً، قد يفاجأ البعض منّا عندما يعلم أن حق المرأة في الاقتراع والترشيح، في دول أوروبا والولايات المتحدة، لم يتم الإقرار به إلا في القرن العشرين: بين العامين 1906 و1921 في الدول الاسكندينافية (شمال غرب أوروبا)، وبعد ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، وفي العام 1920 في عموم الولايات المتحدة الأميركية، وفي العام 1928 في بريطانيا، وفي العام 1931 في اسبانيا (الجمهورية آنذاك)، وبعد الحرب العالمية الثانية (1945) في فرنسا وإيطاليا... وفقط في العام 1971 في سويسرا!! فهل كانت هناك "ديمقراطية" في هذه البلدان قبل منح المرأة حق الاقتراع والترشيح؟ وهل ديمقراطية اليوم، كما تتم ممارستها في هذه البلدان، متكاملة وجاهزة للتصدير الى دول العالم الأخرى، خاصة دول منطقتنا وبعض بلدان العالم الثالث الأخرى، كما تزعم الإدارة الأميركية، مثلاً، في محاولتها لتبرير حروبها الكونية والتغطية على أهدافها الحقيقية، وخاصة حربها على العراق؟ ينبغي أن نقول بوضوح، وكما توضح المسيرة التاريخية للبلدان التي تطورت فيها الحريات الديمقراطية خلال القرنين الماضيين ونيّف، أن الديمقراطية، كما تمارس اليوم في هذه البلدان، ليست وصفة جاهزة قابلة للتطبيق في أي بلد أو منطقة بمجرد إدخال اسطوانة مدمجة في عقول الناس أو حكامهم، سواء القدماء أو الجدد، الذين جرى تنصيبهم في سياق الحروب الاستعمارية القديمة أو الجديدة، الأميركية خاصة. وهو ما شاهدناه بوضوح، مثلاً، في تجربة الانتخابات الرئاسية في أفغانستان في مطلع شهر تشرين الأول/اكتوبر 2004، حيث مورست على نطاق واسع عمليات غش وخداع، بعضها مقصود وموجه من مركز القرار في البلد، وبعضها ناجم عن الجهل، كحالة اولئك المواطنين الأفغان الذين كانوا يظنون أن تعدد البطاقات الانتخابية للشخص الواحد يشكّل مدخلاً لتوفير مساعدات تموينية إضافية، كما نقلت بعض وسائل الاعلام. وكان الرئيس الأفغاني المعيّن، ثم "المنتخب"، حامد كرزاي، قد برّر علناً، عشية الانتخابات، وأمام عدسات التلفزيون العالمية، تعدّد البطاقات الانتخابية للشخص الواحد وممارسة الشخص الواحد لحقه الانتخابي أكثر من مرة في نفس الانتخابات!! وقد مورست فعلاً هذه "التعددية" العجيبة في الانتخابات، كما كشف العديد من المراقبين والصحافيين والمرشحين الآخرين للرئاسة الأفغانية، الذين أعلنوا انسحابهم من التنافس على خلفية هذه الفضائح.
المكتسبات الديمقراطية تتعرض باستمرار لمحاولات الانقضاض والالتفاف عليها
ولا نريد أن نقول هنا أن الديمقراطية، ولو بالأشكال التي وصلت إليها في عدد من بلدان العالم، ليست مهمة. بل العكس تماماً. فكل هذه الحريات والحقوق الديمقراطية جرى انتزاعها في عملية صراع تاريخية طويلة الأمد. وبعض محطات هذه العملية كانت محطات عنيفة، أي إن المواجهة بين الجماهير الواسعة التي لها مصلحة في توسيع نطاق الحريات والحقوق الديمقراطية، من جهة، والقلة الحاكمة والنافذة والمستبدة أو المسيطرة، من جهة أخرى، وصلت أحياناً الى حد المواجهات الدامية، كما في الثورة الفرنسية (1789) وكومونة باريس (1871) والنضالات العمالية في بريطانيا وفي انحاء أوروبا وفي بلدان أخرى من العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية، منذ أواسط القرن التاسع عشر خاصة (اختير يوم الأول من أيار/مايو كيوم عيد عالمي للعمال إحياء لذكرى شهداء مجابهة بين العمال ورجال الأمن في الولايات المتحدة في أواخر القرن التاسع عشر).
وهكذا، ينبغي النظر الى الديمقراطية ليس كوصفة جاهزة وسلعة معلبة أو كبسولة دواء يتم ابتلاعها ليتحقق كل التحول المطلوب، بل كعملية صراعية متصلة، ليس في الماضي وحده، وإنما في الحاضر أيضاً، وفي كل يوم.
فالقوى السياسية والاقتصادية المسيطرة على البلدان المعنية تواصل، في كل يوم ولحظة، محاولاتها للأنقضاض والالتفاف والتحايل على هامش الحريات والحقوق الديمقراطية الذي اضطرت تحت ضغط الحركات الشعبية والطليعية الى التسليم به. وقد رأينا كيف تعرضت النقابات العمالية الى هجمة شرسة من أنصار "الليبرالية الجديدة" في عصر العولمة، خاصة منذ ثمانينات القرن العشرين، أبان حكم مارغريت ثاتشر في بريطانيا مثلاً. حيث شهدت النقابات العمالية إضعافاً كبيراً في الربع الأخير من القرن العشرين، ترافق مع الضربة التي تلقتها القوى اليسارية بانهيار التجربة السوفييتية وتفكك الاتحاد السوفييتي وما عرف باسم "المعسكر الاشتراكي".
كما شهدت، من جانب آخر، وسائل الإعلام الرئيسية في أنحاء العالم، ومنذ عدة عقود، سيطرة متنامية عليها من قبل مالكي كبار الاحتكارات والشركات متعددة الجنسية. ويسيطر بعضهم على إمبراطوريات إعلامية كونية، في العديد من بلدان العالم، تشمل مجالات الإعلام والترفيه المكتوب والمسموع والمرئي، الخ... والأمثلة كثيرة في الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا، بما في ذلك في السنوات الأخيرة روسيا وبلدان جوارها، وكذلك في أستراليا واليابان وغيرها من البلدان، وحتى في اسرائيل. ففي الولايات المتحدة، مثلاً، تسيطر زهاء العشرين من الشركات الاقتصادية العملاقة على الغالبية الساحقة من الصحف والمجلات ومحطات الاذاعة والتلفزيون ودور النشر والإنتاج السينمائي.
وعندما يكون مالك السلطة الاقتصادية، وهي السلطة الفعلية خلف الستار السياسي في البلدان الرأسمالية، خاصة في عصر العولمة النيوليبرالية، يكون أيضاً مالكاً لقسم كبير ومؤثر من وسائل الإعلام والاتصال التي تعرّف أحياناً بكونها "السلطة الرابعة"، لا يبقى هناك هامش كبير متبقٍ من الحريات الديمقراطية الحقيقية لغالبية الناس في أي بلد من بلدان هذا العالم... وإن كانت الأمور متفاوتة بين بلد وآخر.
النموذج الأميركي السياسي... ديمقراطية الأثرياء!
وإذا أخذنا حالة الولايات المتحدة، بامكاننا استخدام مقولة شهيرة للكاتب والروائي البريطاني جورج أورويل، الذي عاش في النصف الأول من القرن العشرين، بشيء من التعديل، لنقول أن الناس في البلدان الرأسمالية أحرار ولكن هناك أناس أحرار أكثر من غيرهم. حيث الحرية في هذه البلدان هي بمقدار القوة المالية والثراء. فالقدرة المالية أو القدرة على اجتذاب التبرعات المالية للحملات الانتخابية، في الولايات المتحدة، هي شرط ضروري للنجاح في معظم هذه العمليات الانتخابية، وخاصة انتخابات الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب وحكام الولايات. وهكذا ندرك أن الأغنى أو المدعوم من الأغنى هو الأقدر على اختراق حواجز السلطة السياسية. وليس صدفة أن النظام السياسي الأميركي قائم عملياً على أساس الحزبين الرئيسيين، الجمهوري والديمقراطي، بينما يجري تهميش العشرات، وربما المئات، من الأحزاب والقوى والتجمعات الشعبية الأخرى التي لا تتوفر لديها الإمكانيات لمنافسة متكافئة مع مرشحي الحزبين الكبيرين، المدعومين كلاهما من قطاعات واسعة ونافذة من رأس المال الكبير والشركات العملاقة الأميركية.
فإذا تابعنا الحملة الانتخابية الرئاسية في العامين 2003 و2004 ندرك كم ان من المتاح دائماً لأصحاب النفوذ المالي في هذا البلد التأثير على عملية الإنتخاب بشكل حاسم، سواء عبر التدخل المباشر في التمويل أو حجب التمويل، أو من خلال الحملات الإعلامية المنسقة والموجّهة، لـ"قتل" هذا المرشح أو لدعم وإنجاح ذاك (تعبير "القتل" استخدم من قبل بعض الكتّاب والصحافيين الأميركيين للحديث عن إسقاط المرشح للرئاسة عن الحزب الديمقراطي هيوارد دين، منذ بدء حملة الانتخابات التمهيدية للتنافس على ترشيح الحزب في مطلع العام 2004، بعد أن كانت استطلاعات الرأي في أواخر العام 2003 تعطيه كلها الأولوية بين سائر المرشحين عن الحزب الديمقراطي).
وما يبقى هو تنافس بين مرشحين اثنين لا غير، وأي مرشح ثالث أو رابع أو عاشر، محكوم بالتهميش والحصار المالي والإعلامي سلفاً. وكلا المرشحين الرئيسيين يدافعان عن مصالح الاحتكارات الأميركية الكبرى أولاً، مع ميل هنا أو هناك لاستقطاب أوساط معينة من المجتمع، المحافظين واليمين التقليدي والمتدينين المتزمتين والمسيحيين الأصوليين بالنسبة للمرشح الجمهوري، والأوساط الليبرالية والسود وأقليات عرقية وقومية أخرى، والفئات الوسطى والشرائح العليا من الحركة النقابية، بالنسبة للمرشح الديمقراطي.
فهكذا، يعبّر النظام السياسي الأميركي عن نفسه بالقول لكل فئات المجتمع وقواه وتياراته: لديكم الحق في قول رأيكم أو كتابته في منشور أو صحيفة، قد لا يقرأها سوى حفنة من الناس، أو حتى على الإنترنت التي فتحت منافذ جديدة ولكنها محكومة أيضاً بالامكانيات المالية في مجال التأثير الأوسع...، ولدينا، أي لدى كبار المتمولين وأصحاب النفوذ الاقتصادي والإعلامي، الحق في حجب رأيكم عن جمهورنا الواسع، أو تشويهه أو تهزيئه. وقد كتب الاستاذ الجامعي الأميركي التقدمي البارز نوام تشومسكي الكثير عن هيمنة أصحاب النفوذ المالي على وسائل الإعلام الأميركية، بما في ذلك في مجال تغطية الصراع الفلسطيني والعربي – الإسرائيلي، وأظهر بأمثلة ملموسة كيف يتم "ردع الديمقراطية" في الولايات المتحدة.
***
إذن، في واقع الحال، يمكن أن تقدم الشرائح الحاكمة والمسيطرة في أي بلد تنازلات للفئات الشعبية الواسعة وقواها المتقدمة، لكنها تعمل بعد ذلك بشتى السبل على الالتفاف على جوهر هذه التنازلات، لتفرغ المكاسب الديمقراطية للجمهور الواسع من مضمونها، أو تحدّ من مفاعيلها. وهذا يحدث في كافة الدول الرأسمالية المتطورة... ولكن بدرجات متفاوتة، لها علاقة بقوة وتنظيم الحركة الشعبية التقدمية وموازين القوى الداخلية بينها وبين الشرائح المسيطرة على السلطة الحقيقية، السياسية والاقتصادية وغالباً أيضاً الثقافية- التوجيهية- الإعلامية (نموذج سيلفيو بيرلوسكوني، رئيس الوزراء الحالي في إيطاليا، معبّر تماماً في هذا المجال، حيث تمكن هذا المالك لعدد كبير ومؤثر من القنوات التلفزيونية الخاصة في البلد من تحويل هذه الملكية الى منصة للسيطرة على السلطة من خلال الانتخابات، التي بات التلفزيون أداة التأثير الكبرى فيها).
ومن هذه الزاوية، لا يمكن الحديث عن ديمقراطية مكتملة وقابلة للنسخ والنشر في أي بلد من بلدان العالم الراهن، وإن كان بالإمكان الحديث عن بعض النماذج الأكثر تطوراً من غيرها. وليس النموذج الأميركي من بين هذه النماذج، حيث الحريات والحقوق الديمقراطية للمواطنين منتقصة ويجري التحايل عليها والالتفاف حولها، كما ذكرنا... وحيث الثراء الفاحش والقدرات المالية الهائلة لحفنة محدودة من الناس، في الغالب غير خاضعة للرقابة الشعبية عبر الانتخابات والمحاسبة والمكاشفة، هي التي تحرّك المسرح السياسي وتوجهه وفق مصالح أصحابها أو مصالح قطاعات منهم. وهكذا، لا تكون القيادات السياسية للبلد، على الأغلب، إلا واجهة لهذه الكتل الاقتصادية والاستراتيجية الهائلة، وهي الواجهة التي تتعرض للأضواء وللمحاسبة والنقد نيابة عن الحفنة المتنفذة فعلاً. وقد شكّلت هجمات 11/9/2001 في نيويورك وواشنطن مدخلاً ومبرراً إضافياً للحد من الحريات وحقوق المواطن، وللتمييز والتقييد الاضافيين، خاصة تجاه المواطنين الأميركيين العرب والمسلمين.
وقد بني النظام الأميركي السياسي بشكل يبقي جوهر السلطات الفعلية بأيدي هذه الحفنة، من خلال نظام الحزبين الكبيرين والتصفية المسبقة لمرشحيهما، وإن كان الأمر في الظاهر يبدو وكأن الناخبين هم الذين يختارون. ولا يعني ذلك أن ليس بإمكان نائب أو عضو في مجلس الشيوخ أن ينجح وهو من خارج نطاق القوى الاقتصادية المتنقذة، ولكن هذا النجاح بالغ الصعوبة، وفي كل الأحوال هو، في حال حصوله، ظاهرة هامشية لا تؤثر على الخارطة السياسية بغالبيتها الساحقة. ويمكن تفسير ظاهرة الموالاة المريعة لإسرائيل ويمينها الحاكم من قبل الغالبية الساحقة من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، ليس فقط إنطلاقاً من قوة اللوبي الاسرائيلي (وخاصة "ايباك") المالية والسياسية والدعاوية، وهي قوة فعلية ومؤثرة، وإنما أيضاً إنطلاقاً من خيار استراتيجي لصنّاع القرار وأصحاب المصالح الكونية في الولايات المتحدة، له علاقة بالدور الذي تقوم به اسرائيل في الشرق الأوسط في خدمة وتدعيم هذه المصالح، وخاصة تلك المتعلقة بالسيطرة على مصادر الطاقة هناك، والنفط بالدرجة الأولى.
ويبدو النهج الدعاوي لإدارة جورج بوش في ما يتعلق بنشر الحرية والديمقراطية في العراق وعموم منطقتنا، من هذه الزاوية، مخادعاً ومضللاً ومنافقاً الى أبعد الحدود. فليس من مصلحة الولايات المتحدة نشر الديمقراطية الحقيقية في منطقتنا، لأنها، أي هذه الديمقراطية، إذا مورست فعلاً، ستقود الى اختيار شعوب المنطقة لحكام وممثلين يدافعون عن مصالح وحقوق هذه الشعوب في ثرواتها، وليس عن حق الولايات المتحدة وشركاتها الكبرى في السيطرة، بشتى السبل والأدوات، على هذه الثروات... من مصادرها وحتى طرق نقلها ومصباتها.
وفي واقع الحال، عندما تتحدث رموز هذه الإدارة الأميركية عن الحرية، فهي تقصد أولاً، وقبل كل شيء، حرية الحركة للرأسمال الأميركي وأصحابه للسيطرة على مقدرات بلد كالعراق، وعبره وعبر غيره على مجمل المنطقة النفطية الهامة في الخليج وحوله... كما على مجمل أنحاء العالم ومناطقه الاستراتيجية.
وهذا الكلام ليس كلاماً أيديولوجياً وموقفاً مسبقاً، بل إن ما جرى في العراق منذ اجتياحه في الشهرين الثالث والرابع من العام 2003 من تفكيك للملكية العامة في البلد وتسليم معظمها الى شركات كبرى أميركية وحليفة هو أوضح مؤشر على حقيقة هذا القول. وكما ذكر أحد الشبان العراقيين في ندوة متلفزة لإحدى الفضائيات العربية، فإن الولايات المتحدة لم تأت لتخليص الشعب العراقي من نظام تعتبره مستبداً ولتوفير حياة مرفهة للشعب العراقي وإقامة نظام ديمقراطي فيه، لأنها ليست بالتأكيد "جمعية خيرية" تضحّي بجنودها وأموالها من أجل سواد عيون العراقيين، بل هي تسعى لتأمين مصالحها الحيوية في هذه المنطقة الاستراتيجية من العالم. أما حرية التعبير والتعددية السياسية، فهي ضريبة محدودة التأثير تدفع لتدعيم هذا الإدعاء بنشر الحرية والديمقراطية، وفي كل الأحوال، يمكن دائماً الالتفاف عليها أو تحجيم دورها. وعندما لا يتحقق ذلك بالوسائل غير المرئية والظاهرة وغير العنيفة، فلا بأس من اللجوء الى وسائل العنف والقهر، وحتى القتل، كما جرى مع عدد من الصحافيين ووسائل الاعلام العربية والأجنبية ابان دخول القوات الأميركية الى بغداد في نيسان/أبريل 2004، وكما جرى لاحقاً مع مضايقة عدد من وسائل الإعلام المحلية والعربية وغير العربية، بدء بمنع صحيفة تيار مقتدى الصدر وإغلاق مكتب فضائية الجزيرة، الخ...
***
كل ذلك لا يعني أن حرية التعبير ليست أمراً مهماً ومكسباً تاريخياً لحركة تقدم البشرية نحو الأفضل. بل العكس تماماً. لكن هذه الحرية، كما وسائر الحريات الديمقراطية، حرية التنظيم والتجمع والإضراب وغيرها، وكذلك الحقوق الديمقراطية الأخرى، ينبغي، بعد تأمين الإقرار بها، العمل الدائم على حمايتها، والتنبه الى كل المحاولات التي تجري من قبل أصحاب النفوذ والهيمنة لتفريغها من مضمونها أو تحويلها الى هيكل عظمي شكلي، كما هو الحال في بلدان كثيرة من العالم الثالث، بما في ذلك في العديد من البلدان الموالية أنظمتها للولايات المتحدة والنظام الامبريالي العالمي عموماً...
بين الديمقراطية "السياسية" والديمقراطية "الاجتماعية"
ولا بدّ هنا من التطرق الى الحملة الدعاوية الضخمة التي حاولت أن تُظهر انهيار الاتحاد السوفييتي، ودول اوروبا الشرقية ذات الخيارات المشابهة، وكأنه تأكيد على أن النظام السياسي والاجتماعي السائد في الدول الرأسمالية المتطورة هو البديل الوحيد والخيار الأفضل، وهو متفوق على النظام السوفييتي في مختلف المجالات.
ومن المعروف أنه سادت في مرحلة الاتحاد السوفييتي مقولات تتحدث عن "ديمقراطية اجتماعية"، كتلك التي كان يوفرها النظام السوفييتي في مجال الحق في العمل والضمانات الصحية ورعاية الطفولة والشيخوخة وتقارب المداخيل، كبديل متفوق على الديمقراطية التي تتحدث عنها بلدان النظام الرأسمالي المتطور، والتي توفر أقساطاً متفاوتة من الحريات الديمقراطية وحقوق الفرد. ولا ينبغي التقليل من أهمية المكتسبات التي تحققت للمواطنين في بلدان التجربة السوفييتية (وهي مكتسبات حقق أقساطاً متفاوتة منها أيضاً بعض البلدان الرأسمالية المتطورة في مرحلة التنافس بين النظامين ابان "الحرب الباردة" خاصة، وكذلك بفعل نضالات القطاعات الشعبية الواسعة وطلائعها من أجل تحقيق هذه المكتسبات).
وتشير بعض التحقيقات الصحافية الحديثة التي تناولت، مثلاً، الوضع في شرق ألمانيا، في الأشهر الأخيرة وأبان بعض الانتخابات المحلية، كم إن قسماً واسعاً من السكان الذين كانوا حتى العام 1990 يعيشون في إطار نظام جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) ينظرون بشيء من الحسرة الى خسارتهم لهذه المكتسبات ويرون بمنظار سلبي ذلك النظام الرأسمالي في ألمانيا الموحدة، الذي بدا لهم أو لمعظمهم مغرياً في البدايات، بالرغم من أن الضمانات الاجتماعية في ألمانيا الموحدة كانت متقدمة على بلدان أخرى في العالم الرأسمالي (وهي ضمانات تتعرض حالياً للاهتزاز والانتقاص مع سياسات الحكومة الالمانية "الإصلاحية" التي تنحو باتجاه التراجع عن بعضها).
***
فالديمقراطية الحقيقية لا يمكن إلا أن تؤمن للمواطنين كافة حقوقاً وضمانات وشروط حياة كريمة، بغض النظر عن القدرات والوضع الصحي والجنس والعرق والعقائد. فلا قيمة للحرية إذا ما كان الإنسان غير قادر على توفير مستلزمات الحياة الأولية في ظلها، وإذا كانت هذه الحرية، عملياً، حرية الأقوى في استغلال وتهميش الأضعف... الذين هم غالبية المواطنين. وربما من هذا المدخل، نفهم أيضاً امتناع نسبة كبيرة من المواطنين في بلد مثل الولايات المتحدة، وصلت أحياناً الى أكثر من نصف الذين يحق لهم الاقتراع، ليس فقط امتناعهم عن الاقتراع في الانتخابات العامة، وانما أيضاً عن التسجيل للحصول على البطاقة الانتخابية.
وبالمقابل، لا نستطيع أن نستهين بأهمية الحريات الديمقراطية العامة، مثل حرية التعبير والتنظيم والتجمع والإضراب الخ...، التي هي، في حال تحققها، مكسب للمجتمع المعني وأوسع القطاعات فيه، بمعزل عن محاولات الشرائح المهيمنة للانتقاص منها أو تفريغها من مضمونها. وهكذا، فالديمقراطية، في وضع متقدم، يجب أن تشمل ما سمي بالديمقراطية الاجتماعية وكذلك الحريات والحقوق الديمقراطية الأخرى المتعارف عليها، والتي هي نتاج لنضالات البشرية في شتى بلدان العالم، بما في ذلك بلداننا، للتقدم ولـ"أنسنة" المجتمعات والحياة فيها بشكل متزايد (أي جعلها أكثر إنسانية واحتراماً لحقوق وكرامة الانسان، كل إنسان، في هذه المجتمعات).
وبالنسبة لمنطقتنا، فإن النضالات لانتزاع وتثبيت الحريات والحقوق الديمقراطية ينبغي أن تتواصل وأن تنطلق من حاجات مجتمعاتنا وضرورات تلبية مصالح الغالبية الساحقة من المواطنين في الحياة الحرة الكريمة وفي التطوير الدائم للبنى السياسية والقدرات الإقتصادية لتحقيق أقصى درجات الاستقلال عن الأطراف الخارجية ذات المآرب المتناقضة مع هذه المصالح، خاصة في مواجهة محاولات الهيمنة والسيطرة وإدامة الإخضاع وسلب الأرض والثروات من قبل إسرائيل والولايات المتحدة بالدرجة الأولى. وتأتي الحريات والحقوق الديمقراطية، في هذا السياق، لتمتين الجبهة الداخلية وجسر الهوة بين الشرائح الحاكمة والمواطنين وإشراك المواطنين في تقرير مصير بلادهم ومستقبلهم وبالتالي إشراكهم في معركة الدفاع عن الحق في الاستقلال والسيطرة على الثروات الوطنية ورفض الاحتلال والسيطرة الخارجية على هذه الثروات على الأرض والبشر. ولا تكون الدعوة لهذه الحريات والحقوق، في هذه الحالة، مساهمة في عملية الخداع والتضليل التي تمارسها القوى المعادية للتغطية على الأهداف الحقيقية لعدوانها ولتسهيل عملية اختراق البلد والهيمنة على مقدراته.
يبقى أن نقول أن الذين يستخدمون تعبيرات "الحرية" و"الديمقراطية" للتغطية والخداع ولتمرير مشاريعهم للهيمنة والسطو على ثروات الشعوب والسيطرة على مناطق العالم الاستراتيجية، لن تخدع إدعاءاتهم هذه، في نهاية المطاف، الكثير من الناس، خاصة في البلدان المعنية بهذا السطو. ولا ينبغي، في كل الأحوال، التساهل مع هذا الخداع أو الوقوع في حبائله. وأغلب الظن أن حماقات وعنجهية أصحاب عملية الخداع والسطو هذه ستسرّع في كشف الطبيعة الزائفة لـ"حرية" الأغنى والأقوى ولـ"الديمقراطية" الأثينية الجديدة، ديمقراطية الأسياد على حساب الجمهور الواسع من "العبيد الجدد" في أنحاء العالم.