لم تكد البلاد تلتقط أنفاسها بعد ظلام أربعة قرون من الاستعمار العثماني الذي نخر جسدها وأنهكها وتركها مثقلة بمشاكلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى بدأت فرنسا تكشر عن أنيابها مستهدفة البلاد بالاتفاق مع بريطانيا بما عرف وقتها باتفاقية سايكس - بيكو .
أمام هذا التحدي الكبير قرر وزير الحربية السوري يوسف العظمة مواجهة الغزو الفرنسي القادم ، ورغم فارق العدد والعدة سطر يوسف العظمة ورفاقه ملاحم البطولة والفداء مؤثرين أن تمض الدبابات الفرنسية على أجسادهم من أن يسلموا ويقروا لها إقرار العبيد . لم تكن سورية لقمة سائغة تمضغها فرنسا بل يمكننا القول أنه طوال فترة الانتداب الفرنسي لم تعرف فرنسا طعم الراحة في سورية حيث واجهها السوريون بالمقاومة المسلحة والسياسية على حد سواء فاندلعت الثورات تعقبها الثورات وفي كل مناطق القطر من الساحل إلى الشمال إلى الغوطة إلى جبل العرب وتوجت هذه الثورات بالثورة السورية الكبرى التي قادها سلطان باشا الأطرش عام 1925 والتي قمعتها فرنسا بوحشية .
أما من الناحية السياسية فقد انبرى لتلك المرحلة ساسة سوريون كانوا على قدر المسؤولية حيث هبوا وفي جميع المحافل والمناسبات للدفاع عن قضية وطنهم حتى ولو كان دون ذلك السجن أو النفي أو حتى " الشهادة " ومن أبرز أشكال المقاومة السياسية آنذاك كان الإضراب الستيني الذي نفذته مدينة دمشق ثم امتد منها إلى باقي المدن والمناطق السورية واستعملت فرنسا مختلف أشكال القمع للحؤول دون تطور الأمور لكنها فشلت وفي النهاية أذعنت للمطالب الوطنية حيث تم عقد اجتماع بين قادة الكتلة الوطنية والمفوض السامي للانتداب دومارتيل يوم 28 من شباط 1936م حول إيقاف الإضراب وبحث القضية السورية وتم إبلاغ رئيس الوفد السوري أن وزارة الخارجية الفرنسية مستعدة منذ الشهر التالي (نيسان 1936) أن تستقبله مع أْعضاء الوفد الذين يقترحهم للتفاوض حول نص معاهدة فرنسية- سورية تحل أحكامها في تحديد العلاقات بين البلدين محل صك الانتداب وهكذا توقف الإضراب وأعمال العصيان وسافر أعضاء الوفد السوري إلى باريس بالقطار, برئاسة هاشم الأتاسي ومعه فارس الخوري وسعد الله الجابري.. وقضوا هناك حوالي ثلاثة أشهر في زيارات عمل ومفاوضات, وانتهوا إلى الاتفاق مع الوفد الفرنسي على نص معاهدة وقعه الطرفان في 9 أيلول 1936 وتنص المعاهدة على أن فرنسا تعترف بسورية كدولة مستقلة وأن عليها تهيئة جميع الظروف لقبولها عضواً في ( عصبة الأمم) ضمن مهلة لا تتجاوز ثلاث سنوات, وأن تنشأ بين الدولتين علاقة صداقة وتحالف بعد زوال الانتداب, وعلى أساس الحرية التامة والسيادة والاستقلال .
لقد قام الاستقلال على يد رجال وطنيين لم يبخلوا بالغالي والرخيص لتحقيق سيادة الوطن ومن هؤلاء الرجل كان الزعيم الكبير فارس الخوري الذي جسد الوحدة الوطنية بأرقى صورها وأسمى معانيها . ولد فارس الخوري في بلدة كفير في لبنان سنة 1877 ودرس في المدرسة الأمريكية بصيدا وفي الكلية الأمريكية ببيروت. عمل مدرسا للرياضيات في الكلية الأمريكية – ثم مديرا لمدرسة الآسية في دمشق،كما تعاطى المحاماة، وانتخب في سنة 1912 نائبا عن دمشق في مجلس (المبعوثان) العثماني حيث اتهم بعدها بالعمل ضد الحكومة التركية فسجنه جمال باشا وتمت محاكمته و خرج بريئا. عين في عدة وظائف في الدولة العثمانية، وتولى وزارة المالية سنة 1920 حين أعلن استقلال سورية وعاد إلى المحاماة بعد الاحتلال الفرنسي . وفي سنة 1922 عين عضوا في مجلس الاتحاد السوري وأستاذا في معهد الحقوق العربي . أسس فارس الخوري وعبد الرحمن الشهبندر وعدد من الوطنيين في سوريا حزب الشعب رداً على استبداد السلطة الفرنسية، وإثر ثورة 1925اعتقل فارس الخوري وآخرون حيث تم نفيهم إلى جزيرة أرواد. وفي عام 1926 تولى فارس الخوري وزارة المعارف ثم ما لبث أن استقال بعد ذلك بفترة قصيرة فاعتقل ونفي إلى الحسكة ثم إلى بلدة دوما في لبنان . شارك وعدد من الوطنيين في تأسيس الكتلة الوطنية وكان نائباً لرئيسها، وكانت من أكثر الهيئات السياسة توفيقاً وفوزاً مدة تقارب العشرين عاماً وفي سنة 1936 انتخب عضوا في الوفد السوري المفاوض لعقد معاهدة مع فرنسا . كان له العديد من المشاركات السياسية الفاعلة على الساحة المحلية والعربية حيث مثل سورية في اجتماع توقيع ميثاق جامعة الدول العربية في آذار 1945 كما ترأس في العام نفسه الوفد السوري الذي كُلّف ببحث قضية جلاء الفرنسيين عن سوريا أمام منظمة الأمم المتحدة حيث اشترك بتوقيع ميثاق الأمم المتحدة نيابة عن سورية كعضو مؤسس، وقصة جلوسه على كرسي المندوب الفرنسي في هيئة الأمم المتحدة في الاجتماع الذي طلبته سوريا لرفع الانتداب الفرنسي عنها تدل دلالة كبيرة على براعته السياسية حيث دخل قبل الاجتماع وجلس مكان المندوب الفرنسي متجاهلا دعوة المندوب الفرنسي المتكررة ليخلي الخوري الكرسي ويعود إلى مكانه المخصص له ، واستمر فارس الخوري في الجلوس مكان المندوب الفرنسي حوالي الخمسة والعشرون دقيقة دون أن يهتز له جفن حتى كاد المندوب الفرنسي يفقد أعصابه وقد أصبح ملفت نظر الحاضرين جميعا وأخيرا رمق فارس الخوري المندوب الفرنسي بنظرته الساخرة قائلا له :
سعادة السفير جلست على مقعدك لمدة خمس و عشرين دقيقة فكدت تقتلني غضبا و حنقا و سوريا استحملت سفالة جنودكم خمس و عشرين سنة، و آن لها أن تستقل ". وعندما حاول المندوب الفرنسي تبرير احتلال بلاده لسوري ولبنان بضرورة حماية المسيحيين وقف فارس الخوري ليقول " أنا نصراني بروتستانتي من أصل أرثوذكسي أقول: إن دعوة حماية النصارى مضرّة بالنصارى أنفسهم، لأنها تجعل الأكثرية المسلمة تنظر إليهم نظرة عداء، باعتبارهم سبباً لتدخل الأجانب في ديارهم، عدا عن أن هذه الحجة إنما هي لتبرير بسط الحكم، إذ لا يوجد في كثير من البلاد التي احتلتها فرنسا في آسيا وأفريقيا نصارى لحمايتهم، ولكن الاستعمار هو الغاية الحقيقية '
لقد كان فارس الخوري بحق فارسا نبيلا ومقاوما عنيدا ومناضلا شرسا جسد بمواقفه عمق التلاحم بين أبناء الوطن على اختلاف مشارب أبناءه وتياراتهم الفكرية والروحية وقد استطاع فعلا أن يعيد الاعتبار للشعوب الضعيفة برمتها عندما بسط سيطرته على كرسي المندوب الفرنسي في أكبر المحافل الدولية على الإطلاق .