:lol: قراءة في ديوان أناشيد البحر
للشاعر /عبد اللطيف محرز/
(لمحاتٌ في آفاق التاريخ الإنساني... في الوجودِ والكون والصيرورةِ العالميةِ)
يوسف مصطفى
كانت سعادتي دافئةً جداً.. عندما رنَّ جرسُ هاتفي يوم الأربعاء 25/9/2002... كان صوتٌ أدبيٌ آخرٌ على الطرف المنادي يهتف بالمحبةِ والسلام ويقولُ: نودُّ مشاركتَك في الحفل التكريمي... الذي سيقام احتفاءَ محبة وتقديرٍ للشَّاعرِ /عبد اللطيف محرز/... وتابع المهندسُ الأديبَ /غسان ونوس/ قائلاً بماذا تودُّ المشاركة ووعدتُه بالجواب لاحقاً... عدتُ لإبداع الشَّاعر /عبد اللطيف محرز/ ودواوينه: العصفورُ الأخضرُ ـ أناشيدُ البحرِ ـ أناشيدُ الحقِ في رحاب علي ـ شجراتُ الدِّماء... الخ وهي أعمالٌ شعريةٌ غنيةٌ... سبق أنْ قرأتُ قسماً منها، وعدتُ فقرأتُ ثانيةً بعضَ نماذجِها قراءةَ تدبرٍ ورويةٍ... فوجدتُها غالباً تحمل فضاءً شعرياً رحباً.. كما تحملُ وضوحاً مريحاً... وفي بنية النصِّ: تتداعى المفردةُ، والتعبيرُ، والجملةُ العاديةُ، والجملةُ الشعريةُ، تداعياً منطقياً... يؤدي غرضَهُ في رسمِ الصورةِ وبعدِها الدلالي... كما يحملُ شعرُه صفاءَ نفسه ووضوحها... ويسطَعُ نصُّهُ بينَ حينٍ وآخرَ بجرأةِ القولِ، والبعدِ عن المواربةِ، وإصابةِ المقصودِ... إلى العديد من الخصائص، والجمالياتِ في بناء نصِّه الشعري. عند حديثي مع الشاعر عبد اللطيف محرز شعرت أنَّ لديوانه /أناشيدِ البحر/ زاويةً خاصةً في نفسه، ورغبةً في أن يُقرأ هذا الديوان عبر نوعٍ من المقارباتِ النقديةِ الممكنةِ، التي تضيء فضاءَه، وتقدم الديوان معرفياً... بعد أن قدمه الشاعرُ بتكثيفٍ ملحميٍ جميلٍ.
يقع الديوان في مئتين وسبعين صفحة من القطع الصغير... بورقٍ جيدٍ، وإخراجٍ جميلٍ، وطباعة جيدةٍ،... أهدى الشاعرُ ديوانَه إلى: (كلِّ أديبٍ يغرسُ قلَمهُ في تربةِ التاريخِ رمزَ حبِّ الإنسانِ للإنسانِ.) إنَّهُ إهداءٌ قصيرُ العبارةِ.. لكنه دعوةٌ كبرى لقراءة التاريخِ قراءةَ محبةٍ إنسانيةٍ، تبني ولا تهدمُ... توحدُ ولا تفرق... تعترف بالحضارةِ ميراثاً عالمياً إنسانياً... خارجَ التعصب والظلم، وكم عانت الشعوبُ، وتعاني من سوءِ قراءةِ التاريخِ... لقد قُرئ التاريخُ العربي استشراقياً قراءةً حمل كثيرُها الظلمَ والتجني على العرب وتاريخهم... ولم يستطعِ العربُ لأسباب ذاتيةٍ وموضوعيةٍ أن يكتبوا تاريخَهم... ولا أن يردوا الردَّ الواجبَ عما كتبه الآخرون عنهم... وهذا بحث يطول.. اختارَ الشاعرُ لديوانه اسم (أناشيدِ البحر) وكلمة (أناشيد) في البناء الملحمي الشعري هي قديمةُ التداولِ فهناك: (أناشيد أوغاريت) ـ (أناشيد داؤود) ـ (أناشيد نديم محمد) في ديوان (آلام) إلى الكثيرِ العديدِ... لكن لكلٍ أناشيده وفضاءَه المعرفيّ... والتسميةُ بالأناشيدِ تُعطي القصائدَ البعدَ الفلسفيَّ والإنسانيَّ التاريخيَّ والحضاريّ أيضاً... وتتيحُ للشَّاعرِ الانتقالَ عبرَ أغراضٍ مختلفةٍ يُغني بها بناءَ فضائهِ الشعري الملحمي،... لكن بالمقابل وهذا حكمٌ عامٌ... وهو: أنَّ منْ يريدُ إطلاقَ تسميةِ الأناشيدِ على شعرِهِ، يجب أن يحسبَ إمكاناتَهُ في المقاربة الدلاليةِ لهذا اللون الشعري، وذلك بالقدرةِ على الفيضِ الشعري وامتلاكِ ناصيةِ القافيةِ، وقدرةِ تكييف المفرداتِ، والتراكيبِ، والمدى الشعري المطلوب... وهذه ليست أموراً سهلةً في كتابة الشعر التاريخي... فهي تحتاج الموهبةَ الشعريةَ، وطاقةَ التدفقِ الشعري، والغنى المعرفي، والإلمام التاريخي، واللمحات الفلسفية، التي تضيء مضمون البناء الشعريِّ... وفي تقديري وهذا ليس إطراءً مجانياً، أَنَّ الشاعر عبد اللطيف محرز استطاعَ أن يقدمَ أناشيداً امتلكت خصائصَ البناءِ النشيديِّ الملحميِّ في سياقهِ التاريخي، وإيماءاتهِ المعرفيةِ، وأن يوصل رسائلَه المجتمعيةَ في الحياةِ والكونِ والوجودِ، والحضارةِ والإنسان، واضحةَ المعالمِ، سهلةَ الفهمِ، متكاملةَ الصورةِ... وهذه قضايا سنمرُ عليها في عرضِ النماذجِ التطبيقيةِ.
أما اختيارُ البحر ناطقاً رسمياً لأناشيدِ الشاعرِ، وبالتالي مغنياً لها وعازفاً لألحانِها... فهذا يملك كلَّ المشروعيةِ.. فللبحرِ أزليتهُ واتساعهُ وامتلاكُه غالبَ مساحةِ الكرةِ الأرضيةِ، وله أعماقُه، وعوالمهُ وكائناتهُ، وعجائبُهُ وأساطيرُه، وتجربةُ الإنسان فوقَه وعلى شواطئهِ... فالبحرُ منشدٌ كبيرٌ ودويٌّ صوته دويٌّ عالمي وهو حاملُ رسائلٍ وحضاراتٍ، وسفنٍ وإبداعٍ، وممرُ تثاقفٍ وتلاقٍ، وداعي محبةٍ وائتلافٍ... لكنَّهُ أيضاً... الهائجُ المائجُ، والقاسي الصعبُ، لمنْ لا يحسن ركوبَ متنهِ... هكذا يملكُ البحرُ المدى والأسرارَ وقصةَ الكونِ.
تبدأ القصيدةُ الأولى منَ النشيدِ الأول بعنوان: "تساؤلات" يقول الشاعر:
قلتُ يوماً للبحرِ ذاتَ صباحِ
هاتِ، حدِّثْ، عنِ الليالي المِلاحِ
عن سماتِ الوجودِ، ما كتبتْهُ؟
ما محتهُ يدُ الزمانِ الماحي
عن حياةِ الإنسانِ في هذهِ الدنيا؟
وما خطَّ في سجلِّ الكفاحِ؟
عن عصورٍ قد أينعتْ ثم شاختْ؟
وغدتْ مسرحاً لعصفِ الرِّياحِ
عن بلادي، وكيفَ طارتْ صعوداً؟
ثمَّ سفَّت تشكو ارتخاءَ الجناحِ
يتابع الشاعر أسئلتهُ في أصلِ النشأةِ:
كيفَ جاءَ الإِنسانُ؟ منْ خطَّ في
عينيهِ، ظلاً من نُعمياتِ الصَّباحِ؟
أتنامى منَ القرودِ صعوداً؟
واحتمى في شريعةِ التمساحِ؟
أمْ تهاوى مِنَ الجنانِ هبوطاً؟
بعدَ أنْ ذاقَ لذَّةَ التُّفاحِ؟
أنتَ يا بحرُ تعرفُ السِّرَّ، قلْ لي
وتجاوزْ عن شدَّةِ الإلحاح
أطرقَ البحرُ برهةً وتزيَّا
بسماتِ الوعَّاظِ والنصَّاحِ
قالَ: مهلاً يا صاحبي، لا تغطي
صحوةَ العقلِ، عتمةُ الأشباحِ
لا تسافرْ في الغيبِ فهو سرابٌ
أبديٌ، يلفُّ كلَّ النواحي
سِرْ مع النَّاسِ منذُ أنْ عمَّروا الأرضَ
وشدوا في جَيئةٍ ورواحِ
منْذ أنْ أشعلوا بليلِ المتاهاتِ
عصيرَ العقولِ في المصباحِ
منذُ أنْ ذوَّبوا الحياةَ طموحاً
في دماءِ الإنسان كالأملاحِ
كما يبدو مطلعُ النص... فإنَّ لقاء الشاعرِ مع البحر كان صباحاً، وللصباح رواقُهُ، وصفاؤُهُ، وهدوءه، وحوارُ الصباح يفتحُ فضاءَ الكونِ، وتتجلى فيهِ مشهديةُ طاقةِ الوجودِ،... هكذا يبدأُ الحوارُ، بعديدٍ من الأسئلةِ التي شغلت كبارَ الفلاسفة والمفكرينَ والباحثينَ... ولا زال قسمُها الكبير قاصرَ الجواب... لكنَّ الأسئلة تلحُ في خاطر الشاعر ويدلي دلوَه بين السائلين: عن سمات الوجود... عن حياة الإنسان في هذا الوجود.. عن حضاراتٍ ازدهرت ثم شاخت.. ولا يكاد يبدأُ بأسئلةِ الوجودِ... حتى تزحمَ السؤالَ حالةُ الهمِّ الوطني والقومي... في البيت الخامس من قصيدة النشيد الأول:
عن بلادي، وكيف طارتْ صعوداً
ثمَّ سفَّت تشكوا ارتخاء الجناحِ
إنَّهًُ سؤالُ النهضةِ، الذي بدأ الفكر العربي يطرحُهُ بأسبابهِ ونتائجهِ، منذ مَطْلَعِ القرن العشرين،... ولا زالت أسئلة الحال العربي.. وأسئلةُ النهضةِ العربيةِ قائمةً... تبحث عن جوابٍ وخلاصٍ... فيما آل إليه الحال العربي... يتابع الشاعرُ أسئلتَهُ: من أين جاء الإنسان؟! هل تنامى تدرجاً من كائناتٍ أخرى؟ /نظرية داروين في التدرج/... أم هبطَ من الجنةِ بنظريةِ الخطيئة لآدم وأكله التفاح؟! هل نحنُ أبناءُ آدمَ واحدٍ؟ أم هناك أكثر من أصلٍ في النشأة البشرية؟... لم يكنِ البحرُ سريعاً في جوابه... بل أخذَ الجواب بالأناةِ، والعقلِ، والتدبرِ... إنَّها بالإسقاطِ الاجتماعي: أدبيةُ الوعي والتأني في مسألةِ الردِّ والحوار وأدبياتِ الحوار... خارج المباشر والسريع في رد الجواب... يقول الشاعر:
أنتَ يا بحرُ تعرف السِّرَ قلْ لي
وتجاوزْ عن شدَّةِ الإلحاحِ
أطرقَ البحرُ برهةً وتزيَّا
بسماتِ الوعَّاظِ والنصَّاحِ
ثم يأتي البيت الثالث عشر وما بعده ليقررَ منهجَ البحث في أسئلة الوجود:
لا تسافرْ في الغيبِ فهو سَرابٌ
أبديٌ يلفُّ كلَّ النواحي
سِرْ مع النَّاس منذُ أنْ عمَّروا الأرضَ
وشدّوا في جَيئةٍ ورواحِ
منذ أنْ أشعلوا بليلِ المتاهاتِ
عصيرَ العقول في المصباحِ
إنَّهُ منهج العقلِ العلميِّ، القائمِ على المشاهدةِ، والتجربةِ وقراءةِ النتيجةِ، خارجَ الخيال، وتداعياتِ ما وراء الوجود، التي لن تنتهي... ولن تؤدي لحقيقة نهائية، إنه منهج البحث التاريخي في قراءة المُشاهدِ، واستبصار عبره ودروسه، والبناء على ما هو إيجابيٌ فيه... هكذا قدم الشاعر منهجَهُ في قراءته الشعرية للتاريخ... وتقديم رؤيته في فلسفة الحياة والوجود.
في القصيدة الثانية /الإنسان والطبيعة/ من النشيد الأول يقدم الشاعر لوحةً (تراجيدية) للإنسان الأول، لكنها في السياق التاريخي: هي حقيقة، هكذا عاش الإنسان الأول يقول:
عالمٌ غامضُ الرُّؤى، شرسُ الآفاقِ
جهمُ المُنى، ثخينُ الجراحِ
وأبونا الإنسانُ بينَ الضَّواري...
في ظلامِ الغاباتِ والأدواحِ
يرتدي الشَّمسَ والسَّماءَ لباساً
والأعاصير فوقها كوشاحِ
يسكن الغابَ والكهوفَ ويقتاتُ
مساءً بنشوةِ الانشراحِ
يتابع الشاعر أسئلته عن البداية البشرية... كيف تهذبت طباع الإنسان؟... ومتى استيقظ داخلُه الضميري؟ وكيف تكوَّن المنزل الزوجي؟ يقول:
وارتضتْ أنْ تكونَ زوجاً وفياً
بعدَ رفضٍ للفارسِ الجحجاحِ
قد أحبتْ وأصبحتْ لهفةَ القلبِ
لبعلٍ، مدلَّلٍ، مرتاحِ
لا تلمها إذا قستْ ثم حنَّتْ
إنَّ هذا واللهِ، طبعُ المِلاحِ
في تقدير الشَّاعر أنَّ رفض حواءَ الأول للحبِّ والألفةِ... كان رفضاً خشناً، وطبعاً لبدائيةٍ مفرطةٍ... لكنَّ إصرار آدم على ترويضها، ودوامَ التودد إليها، ألان طباعها، ونقلها إلى موقع الأليف... وبالتالي سهَّل استئناسها... تقدم هذه الرؤيةُ حقيقةً معرفيةً... هي أنَّ الأنثى لا تؤخذ ولا يكسب ودُها، حبيبةً، أو زوجة، بالضغط أو الإكراه.
فهي بحكم تكوينها الجمالي العاطفي الحسَّاس... تحتاج التوددَ والكلمةَ الطيبةَ، والمعاملةَ الحسنةَ، والمثل الطيب، ونموذج القدوة لتقتدي... وأنَّ دلالها القاسي هو مقدمة الحنين:
لا تلمها إذا قسَتْ ثمَّ حنَّتْ
إنَّ هذا واللهِ طبعُ المِلاحُ
في القصيدة الثالثة /مهد الحضارة/ من النشيد الأول يتحرك الهاجس القومي عند الشاعر، وحالةُ استنهاض التاريخ، لقراءة مجد الأمة العربية، وما قدمته للعالم،... يقول الشَّاعر على لسان البحر:
وأطلَّ التاريخُ رعشة إبداعٍ
وطفلاً يحبو، غنيَّ المراحِ
وعلى وجنتيهِ رسمُ بلادي
بحروفٍ، تهمُ بالإفصاحِ
قال: مِنْ بوح تُربكم يا صديقي
نبعتْ، أبحرتْ معي أفراحي
في ذراكم عِشُّ الشموسِ تنامي
يسكبُ النور فوق كل البطاحِ
ولدَ الحرفُ من عيونِ روابيكم
ربيعاً من نَرجس وأقاحِ
عانقتْ أرضُكم طفولةَ محراثٍ
وغنَّتْ لـهُ، بلَسنٍ فصاحِ
وأتى فارسٌ ليكشفَ أسراري
وما خاف من شرور اجتياحي
من جذوعِ الأشجارِ صاغَ لجامي
وسرى سابحاً على ألواحِ
بوركَ الحرفُ يزرعُ النجمَ في اللَّيلِ
سراجاَ لمدلجين طِلاعِ
في بلادي تلونَتْ برؤى الخلق
شفاهُ الإمساءِ والإصباحِ
كُتبتْ في الحياةِ، نون الحضاراتِ
وكافات نورِها الوضَّاحِ
أيُّ شعبٍ سما ولم ينهلِ المجدَ
رضيعاً من نبعنا النضَّاحِ
أيُّ زهرٍ نما ولم يغسُلِ الأجفان
في عطر أمسنا الفوَّاحِ؟
أيُّ نجمٍ رنا ولم يرشفِ النشوةَ
من فيء كَرْمِنا المسماحِ؟
أيُّ نصرٍ هدَّ الظلام ولم يشتقَّ
من دوحِنا وميضَ الرِّماح؟
رَحمُ الأرضِ موقعاً وصنيعاً
واخضراراً غضاً طليق السّراحِ
عاشَ في موطني وسالَ على الدنيا
ضياءَ الهدى، ونورَ السّماح
في تقديري أنَّ هذه القصيدة.. هي طليعة المتقدم من قصائد ديوان /أناشيد البحر/ كونها قدمت استنهاضاً تاريخياً لماضي الأمة العربية.. وشهادة شعرية جمالية للعناوين الكبيرة في هذا النهوض.. فمن أرض الأمة العربية بدأ الفرح العالمي وعبر أنوارها من حرف أغاريت بدأ الإبصار العالمي..
قال: منْ بوحِ تُربكمْ يا صديقي
نبعتْ، أبحرت مَعي أفراحي
ولدَ الحرفُ من عيونِ روابيكم
ربيعاً من نَرجسٍ وأقاحِ
كما أشارت القصيدة للإبحار الفينيقي الحضاري:
من جذوعِ الأشجارِ صاغَ لجامي
وسَرى سابحاً على ألواحِ
وفي الإشارة للشرائع والدساتير، التي قدمها العرب من حمورابي.. الخ ما قدموه من تشريع، عبر الرسالتين المسيحية والإسلام.. يقول:
أيُّ دستورِ أمةٍ لم نعطرُه
بروحِ القانونِ، عذبَ لِقاحِ...
هكذا تؤكد القصيدةُ أصالةَ الأمة العربية وإبداعَها.. وتأسيسَها وإضافاتِها الحضاريةَ للإبداع العالمي.
في البناء الجمالي الفني للنص، تتجلى العديد من القضايا.. فتعابير: الذكرياتِ الصِّباحِ.. والغنيِّ المِراح.. والحروف التي تهم بالإفصاحِ.. وعشُّ الشموس.. والسابحُ الطمَّاحِ.. ويُلبس اليبسَ.. والمدى الرحراحِ.. والمدلجين الطِّلاح.. والمصمتات الصِّفاحِ.. وكرمنا المسماح.. ورحمَ الأرض.. ونورُ السَّماح..
في تقديري جميعُها.. تعطي جرساً موسيقياً خاصاً.. ونمطَ دويٍ وتأثيرٍ في موسيقا اللفظ.. وإيقاع هذه الموسيقا إيقاعاً فرحاً تفاؤلياً.. يفتح أفق أملٍ ومدى أزرقاً جميلاً، يزينه قوس قزحٍ متعددَ الأطياف، لتتشكل (بانورامةٌ) لفظيةٌ تغني الفضاء الشّعري للنص، وتصل داخل المتلقي، بنوع من الإلفات لطبيعةِ اللفظِ، واشتقاقهِ من مصدرهِ وأصلهِ، بنوعٍ من التضعيفِ، والشدِّ، يخرجُ عن رتابة اللفظ الأصلي ومألوفه.. ربما تضعيف بعض هذه الألفاظ اقتضاها البناء العروضي للأبيات، ليستقيمَ الوزن بإضافة الحركات العروضية، التي يقتضيها التضعيف.. لكنَّها لم تشكل عبئاً على فضاء البيت الشعري، واستراحتهِ وانسيابهِ.. ومنطقية توارد المفرداتِ فيه، وموسيقاها الجميلة وبالتالي فنيَّة المنتج الشعري كأبياتٍ ومقاطعٍ.
أما النشيد الثاني من /أناشيد البحر/ فيضم ستة قصائد هي: الحضارة اليونانية ـ حرب طروادة ـ الحرب بين الفرس واليونان ـ الإسكندر ـ روما وقرطاجة ـ يوليوس قيصر وكليوباترا.
في قصيدة الحضارة اليونانية، يقدم الشاعر هذه الحضارة.. أنَّها وليدة المشرق العربي يقول:
وسرى الفجرُ فوقَ عرشِ البحارِ
يسكبُ الضوءَ في عيونِ النّهارِ
يوقظُ الغارقين في ظلماتِ التيهِ
واللابسين جلدَ الضواري
وينادي الإنسانَ كي يعصِرَ الغيمَ
ربيعاً على جديب القفارِ
وأجابَ النداءَ في لهفة الحالمِ
عبرَ الأثير أوَّلُ جار
إنَّه الجار اليوناني، الذي تلقى الحضارة العربية المشرقية.. من بلاد ما بين النهرين، وبلاد الشام.. تدل الدراسات التي يقدمها الدكتور الباحث: /أحمد شيخ داؤد/ مؤلف كتاب (تاريخ سوريا القديم تصحيح وتحرير)
/وبيير روسي/ الباحث الفرنسي الكبير، وسواهم أنَّ: المسرح اليوناني ولد في بلاد ما بين النهرين.. وأنَّ كلمة (تراجيديا) اليونانية أصلها (تراحي) وهي جلد الجدي البكر الذي كان يُلبس للحزن على موت الإله (أدونيس) إله الخصب، وأنَّ (كوميديا) هي كلمة سريانية عربية أصلها (قوموس) بمعنى (القيامة) وهي المظهر الفرحي لقيام الإله أدونيس في الربيع في عقيدة بلاد ما بين النهرين... وأنَّ الرقص والسيرك والغناء، قد ذهب من اللاذقية وبيروت وعسقلان إلى بلاد اليونان، وأن نظام العمارة والمسرح أساسه نظام عمارة مشرقي أرامي /نظام القبب والأقواس/ الخ ما هنالك.. وأن (هيرودوت) المؤرخ هو عربي سوري من (كيليكا).. وأن الحضارة اليونانية والأوربية، هي التطوير الذي حصل بانتقال الحضارة العربية السورية إلى بلاد اليونان.. من خلال التجار، والفنانين، والكتاب والمعماريين، وعلى رأسهم المعماري الكبير /أبولو دور الدمشقي/ الذي أشاد مدينة روما... لكنَّ الشَّاعر في سياق نشيده اليوناني، لا ينكر الإضافات اليونانية، سواء الفلسفية منها /أفلاطون ـ سقراط ـ أرسطو/ أو الفنيةُ الإبداعيةُ الأخرى.
أما قصيدة /حرب طروادة/ ففيها راوية حرب (إسبارطة وطروادة)... وحكاية /هيلين/ زوجة ملك إسبارطة التي خطفها /باريس/ ابن ملك / طروادة/ وأشعلت تلك الحرب..
كما يشير إلى /هوميروس/ وملحمته الإلياذة والأوديسة.
في القصيدة الثالثة من /النشيد الثاني/ يتحدث عن: الحرب بين الفرس واليونان.. وعن انتصار اليونان في معركة /سلاميس/ وعن جري أحد الجنود من /المارتون/ إلى اثينا لينقل أخبار النصر ثم موته متعباً ليضاف / السباق الماراتوني/ كتقليد رياضي إلى /الألعاب الأولمبية/.. ثم عودة الخلاف بين /إسبارطة وأثينا/ بعد التوحد أمام الفرس.. وقيام الحرب الأهلية... وتدخل (مكدونيا).
القصيدة الرابعة تتحدث عن (الإسكندر) وفتوحاته، وتقدُمُه صاحبَ رسالة ووحدةٍ عالميةٍ.
القصيدة الخامسة بعنوان /روما وقرطاجة/ وحروب (هانيبال) وانتصاره ثم انكساره، وتدمير قرطاجة من قبل روما.
القصيدة السادسة تحدثت عن (يوليوس قيصر وكليوباترا).
النشيد الثالث.. يتحدث في القصيدة الأولى عن /عالم الشرق.. عالم الروح/
عالمُ الشرقِ، عالمُ الروحِ والإنسان
والحلمِ في خلودٍ أكيدِ
عالمُ الدينِ، يملأ الكون حباً
دونَ قيدٍ ودونَ أيِّ حدود
القصيدة الثانية بعنوان /الهند موطن الأرواح/ وفيها يتحدث الشاعر عن العقائد، وقضاياها في الموطن الهندي، وعن الروح والجسد ومسائلها يقول:
من خلالِ الوجود أدركُ نفسي
وبنفسي أعي جَميعَ الوجودِ
فالنفوسُ الأجزاءُ ليستْ فُرادى
هي خمر يضيء في عنقود
وبنسغ من حبةِ القمحِ يحيا
بهدوءٍ جميعُ حبِّ الحَصيدِ
نحنُ أمواجُ دافقٍ أبديٍّ
يتخطى في السيرِ كلَّ السدودِ
لا صلاحٌ للجزءِ إلاَّ مع الكلِّ
نشيداً يتلوهُ عذبَ نشيدِ
لا بريقٌ للحرفِ إلا إذا صارَ
لهيباً على شفاهِ القصيدِ
فلنضحِّ كي ينهضَ النَّاسُ عِزاً
ولنناضلُ بكلِ جهدٍ جهيدِ
إنَّها عناوين في فلسفة الحياة والكون، وما يجب أن تكون عليه..
القصيدة الثالثة عن /الصين وكونفوشيوس/: وفيها يتحدث عن /كونفوشيوس/ وتعاليمه.
في القصيدة الرابعة يتحدث عن /فارس وزراديشت/ وما قدما من أفكارٍ وعقائد.
النشيد الرابع: القصيدة الأولى في /الدين وعظمة الإنسان/ يقول:
هاتِ حدِّثِ على اسم ربِّ السَّماءِ
واقطفِ النجمَ من كرومِ الضِّياءِ
وارشف النورَ من جفونِ السَّماواتِ
انسكاباً في مقلةِ الغبراءِ
وازرعِ العطرَ في النفوسِ أريجاً
مِنْ رسالاتِ سائرِ الأنبياءِ
فلأنتَ الإنسانُ، أعظمُ مخلوقٍ
بكونٍ، رحبِ المنى، لا نهائي
القصيدة الثانية: /التوحيد وتجربة أخناتون/: وفيها حديث عن عبادة التوحيد لدى أخناتون.
القصيدة الثالثة: /موسى والتوحيد/: وفيها الحديث عن عقيدة موسى، وما ألحقه بنو إسرائيل في هذه العقيدة من تشويه، وما اقترفوه بحق شعوب المنطقة، والعالم والدين.
القصيدة الرابعة: /عيسى رسول السلام/: وفيها الحديث عن تعاليم الدعوة المسيحية وإنسانيتها يقول:
جاءَ عيسى المسيحُ يغمرُ بالطِّيبِ
شفاهَ الأنصارِ والبشراءِ
يهزمُ الحقدَ بالمحبةِ والخيرِ
وشرّ الأذاة بالإعفاء
إنْ تواجَهْ بصفحة من حقودٍ
فتسلَّحْ بالصفحِ والإغضاءِ
من رؤى الحبِّ ينبتُ العشبُ في الرملِ
ويكسى الهجيرُ بالإنداءِ
القصيدة الخامسة: /محمد خاتم الأنبياء/ يقول:
نضجت ساحةُ الحياةِ لدينٍ
أبديِّ الآفاقِ والإمدءِ
يعجنُ الغيبَ في مدى الواقعِ الحيِّ
ضياءً لأرضنا المعطاءِ
زغردتْ رايةُ العروبةِ شوقاً
وتعالت أصواتُها بالحُداءِ
وتلاقت قبائلُ العُربِ في أصدقِ
وعدٍ، وفي أشدِّ ولاءِ
القصيدة السادسة: /العروبةُ والإسلام/ من النشيد الرابع:
هلَّ إسلامنا على النَّاسِ فجراً
أخضرَ الغيمِ، عاطِرَ الإيحاءِ
أنزلتهُ السَّماءُ رايةَ توحيدٍ
مجيدٍ ووحي راءٍ وباءِ
عربيَّ النجارِ قلباً وسيفاً
ولساناً وأحرفاً لهجاءِ
يا لنعمى عروبةِ شاءَها اللهُ
حناناً تفيض بالنعماءِ
قبسَ النورَ والهدى من سناها
صاحبَ الدارِ والغريبَ النائي
لو أتوني يا عمُّ بالشمس والبدرِ
وساروا جميعهمْ مِنْ ورائي
ما تركتُ الحياةَ ثورةَ مظلومٍ
على ظالمٍ غشومٍ مُراءِ
وتلاقى المهاجرونَ مع الأنصارِ
لقيا أحبةٍ أصفياءِ
كان شخصُ الرسول في هائجِ
الأحداثِ والنائبات كالميناء
وتعالى الفرقانُ معجزةً كبرى
نشيدَ الأجيالِ والشرفاءِ
صاننا أمةً، حمانا لساناً
في مدى غفلة وسجنِ انطواءِ
رفرفت رايةُ العروبةِ بالإيمانِ
أفقاً طلقاً، مديدَ اشتهاءِ
كلنا مسلمونَ لله إيماناً
وإن عُدِّدت دروبُ اهتداءِ
ذا بهديِّ القرآنِ، ذاك بإنجيلٍ
وهذا بحكمةِ الحكماءِ
لو بنينا بقوةِ الروح جسماً
لصعَدنا منابرَ الجوزاءِ
فلتمتْ (لولواتُ) ماضٍ وإلا
سوف نبلي (بولولاتِ) شقاءِ
ولتكن (سيوفنا) سيوفَ مضاءٍ
في دروب العقيدة الغراءِ
تقع قصيدة العروبة والإسلام من النشيد الرابع، في مئة وتسعين بيتاً.. أرخت لمرحلةٍ هامةٍ في تاريخنا العربي، هي مرحلة الرسول الكريم، وما تلاها.. وقدمت مفاصلَ هامةً في التاريخ العربي الإسلامي، هي بدايةُ الدعوة المحمدية، والهجرةُ إلى المدينة والمرحلة الراشدية، وتداعياتها، والمرحلةُ الأموية والعباسية.. كما قدمت تقويماً عاماً لخصائصِ كلِّ مرحلةٍ.. ولم يكن الشاعر في موقع الحياد والرواية.. بل قدم رؤيتَهُ في الوقائع والأحداث وكيف يمكن أن يُقدم الأفضل.
إنَّ الإسلام الذي قدمته القصيدة.. هو إسلام الحق، واقترانه بالعروبة وقيمها.. ثم إنسانية الرسالة المحمدية.. وتلاقيها مع غيرها من الرسالات.. وختم القصيدة بخلاصة دروس الماضي.. وكيف يجب أن نستفيد منها في الحاضر يقول:
لو بنينا بقوةِ الروح جسماً
لصعدْنا منابرَ الجوزاءِ
ولروَّتْ حدائقَ النَّاس في الدنيا
غيومُ المودةِ البيضاءِ
ولكان التاريخُ أكثرَ عدلاً
واتزاناً في الأخذِ والإعطاءِ
ولتكن (سوفنا) سيوف مضاءٍ
في دروب العقيدة الغراءِ
النشيد الخامس: تتحدث القصيدة الأولى عن (الحروب الصليبية وأسبابها).
كما يتحدث النشيد الثاني عن (سير الحملاتِ الصليبيةِ) وبالتالي معركة وانتصار العرب فيها يقول:
صافحتْ مصرُ في الوغى وثبةَ الشامِ
وضمَّتْ أعضاءَها الأبدانُ
هي (حطينُ) فاخرجوا من ربا القدسِ
وإلا: فسيفنا والسِّنانُ
يا صلاحاً للدين إنْ صفَّقَ المجدُ
فأنتَ الكتابُ والعنوانُ
تتحدث القصيدة الثالثة عن (الغزو المغولي) يقول:
واستبيحتْ بغدادُ هل جُنَّتِ الأفلاكُ
واختلَّ في السَّما الميزانُ؟
حرقوا الفجرَ والصلاةَ ولم ينجُ
من الحرقِ في المساءِ الآذانُ
إيهِ بغدادُ، أين سامرُ ليلٍ
بل وأينَ الكؤوسُ والنُدمانُ؟
أين مأمونُك الكبيرُ حكيماً
أين عصرُ التأليف والتُرجمانُ؟
واستطالت في أمتي ساحةُ الحقِ
ودوى في صدرِها العنفوانُ
إنَّهُ النَّصر هلَّ في عين جالوتَ( )
فزغرد يا أيّها الإنسانُ
وإذا ازَّاحمت خطوبٌ جِسامٌ
فبشعبٍ مقاتلٍ يُستعانُ
تتحدث القصيدة الرابعة عن (فشل الحروب الصليبية):
صحصحَ الحقُ، حُوصروا بهدوءٍ
وتداعى غرورُ بغيٍ ولانوا
واضمحلتْ حرب (الصّليبِ) ولكن
ظلَّ من سوءِ غدرهمْ حسبانُ
ترتدي الثوبَ والنسيجُ قديمٌ
لم يُبدَّل، بلْ بُدلت الوان
بلْ وصهيونٌ، إنَّها الطارق الأقوى
بأيدي الأحقادِ والسِّندانُ
هي أعتى الأمواجِ قد نسجتها
نصبتها في بحرنا الحيتانُ
زمرٌ من طغاةِ شرقٍ وغربٍ
عبروا أرضنا زماناً وبانوا
نسي الدهرُ كيف يختزنُ النارَ
بأعماقِ قلبهِ الصوّانُ
إنْ يَنَمْ في الجذورِ بركانُ شعبي
فغداً سوفَ يضحكُ البركانُ
في تقديري أنَّ الأبيات واضحةٌ خلاصتها إرادةُ الشعوب لا تقهر.
نأتي إلى النشيد الأخير /السادس/: حيث تبدأُ القصيدةُ الأولى بعنوان /النهضة الأوروبية/ وفيها تصوير لحال أوربا قبل عصر النهضة، حيث يذكِّر الشاغر الغربَ بالدور الحضاري العربي.. وما قدمته الحضارة العربية للغرب.. ويخاطب السيد المسيح شاكياً له ما يفعله الغرب وما فعله في العالم يقول:
واستفاقَ الغربُ القويُّ القدير
ينبشُ الأرضَ حولـهُ ويدورُ
بعد أنْ نامَ في الظَّلام طويلاً
وأناخت على رؤاه العصورُ
من بساتيننا بغرناطةَ الخضراءَ
شعَّ التنويرُ والتثويرُ
فاحَ وانداحَ من صقْليةَ زهراً
ـ دون شوكٍ ـ شهيقنا والزفيرُ
هاهو الغرب قام، تهتزُّ أوربا
وتُرمى في العاصفاتِ القشورُ
يلي ذلك قصيدة /الكشوف الجغرافية وحركة الاستعمار/ ثم قصيدة /الثورات البورجوازية والتنافس الاستعماري/.. وفيها يتحدث عن الثورة الفرنسية وظروفها.. وحملات نابليون على الشرق ونتائجها.. ثم يتحدث عن الوحدة الألمانية والإيطالية.. ويصف طغيان الرأسمالية يقول:
ثورةُ العلمِ والصناعةِ إنجازٌ
كبيرٌ، ممجدٌ، مأثورُ
كَثُرَ الخيرُ في الوجودِ ولكنْ
كثر الفقرُ فيه والتسخيرُ
رأسماليةٌ، مصانعها كبرى
وإنتاجُها غزيرٌ غزيرُ
قلةٌ ترتدي الكثيرَ هناءً
كثرةٌ حظُّها عطاءٌ يسيرُ
قلَّ سِعرُ الأخلاقِ في السوقِ
حتى يتعالى عن خيرِها القطمير
عبدو المالَ، ليس إلاَّهُ يُرجى
فإليه السجودُ والتكبيرُ
تتحدث القصيدة الرابعة /عن الغرب وميراث الرجل المريض/ تركيا /.. وفيها يتحدث الشاعر عن اقتسام الغرب إرث الإمبراطورية العثمانية وتقسيم منطقة الشرق العربي وشمال إفريقيا ويقول:
وبلادي تنامُ يحرسُها الهمُّ
لها من سيوفِ عثمانَ سور
غير أنَّ السيوفَ شاختْ، تراختْ
واعترى طيبَ حدِّها تخديرُ
قسموا إرثَهُ عليهم وهذا
الأمرُ فيهم محببٌ وأثيرُ
فهمُ الوارثونَ في لغةِ السَّيفِ
فهلاّ غيرَ السيوفِ نصيرُ
يشير الشاعر إلى تجربة (محمد علي باشا) النهضوية في مصر وكيف حطَّمها الغرب.. ثم كيف زرعوا إسرائيل في قلب الوطن العربي.
ويتحدث عن حال الشتات العربي يقول:
بينما نحنُ أمةٌ، زقزقَ التمزيقُ
فيها، ورفرفَ التنفيرُ
تتلاقى الأجسامُ والعضو فينا
عن تقاسيمِ جسمهِ مبتورُ
كلُّ حكامنا ينادون بالوحدة
والماءُ في مداها يَغُورُ
هو عهدُ الأشباحِ تستمطرُ الوحيَ
بما ينبغي، وما سيصيرُ
نحنُ للوحدةِ الكبيرةِ ما زلنا
ولو أحزنَ الطريقَ نسيرُ
هي حبلُ النجاةُ إنْ عبس الدهرُ
وروحُ الدواءِ والإكسيرُ
يتحدث في القصيدة الخامسة عن /الحرب العالمية الأولى والثورة الاشتراكية الأولى/: والأحلام التي حملتها الاشتراكية على أجنحتها يقول:
اشتراكيةٌ؟ طريقُ شعوبِ الأرضِ
عدلاً، فغردي يا طيورُ
حلمٌ عاشَ في قلوبِ الجماهيرِ
وسيقتْ لـهُ المُنى والنذورُ
هلْ سيبني الإنسانُ جنتهُ الكبرى
وتنمو ـ رغمَ الجفافِ ـ الزهور؟
أم ستلقين ما جرى في فرنسا
ثم يمتصُّ جانحيك غديرُ؟
في القصيدة السادسة يتحدثُ الشاعرُ عن (النازيةِ)، والحرب العالمية الثانية وحركات التحرر.
في القصيدة السابعة يتحدث عن /التغيرات الدولية/ يقول:
زُلزلتْ ساحةُ الحياة بأرضٍ
كانَ يُرجى لمجدِها تعميرُ
زُلزلت فجأةً وليسَ لهذا الأمرِ
في حجمِ وقعهِ تبريرُ
ويقدم الشاعر عدداً من التساؤلات فيما جرى في الاتحاد السوفياتي
السابق:
ألأجلِ الإصلاحِ، إصلاحُ تطبيقٍ
وقد طالَ في الضباب المسيرُ؟
أم لقفزٍٍ فوق العقيدةِ والأفكار
قد جاء في الأخير الخبيرُ؟
أم بفعل اليهودِ قضماً ونخراً
فإذا الصرحُ هيكلٌ منخورُ؟
إنَّ ما تمَّ يُعجزُ العقلَ فهماً
وشعوراً وإنَّهُ لمثيرُ
وأطلتْ كالديك قامة أمريكا
تُجافي بحكمِها وتجورُ
لا رقيبُ، لا رادعٌ، كلُّ شيءٍ
في مداها، في جيبِها محصورُ
لنْ ينام الثوارُ، لنْ تهدأَ الدنيا
ولا يرتضي الأذى مقهورُ
وسيبقى النضال ما دامتْ الأرضُ
على ساحةِ الوجودِ تدورُ
كل الأسئلة حول انهيار التجربة الاشتراكية هي مشروعة.. وتبدو في البيتين الآخرين حالة الانتماء للحياة والتقدم.. ودعوةٌ تفاؤلية للصمود والنضال.. وعدم اليأس، رغم رمادية المشهد الدولي العام.. إنها دعوةُ أمل وصيحةُ نضالٍ أطلقها الشاعر في الفضاءِ العالمي..
يختم الشاعرُ ديوانه /أناشيد البحر/ بنداءٍ قومي كبير، ودعوةٍ قومية صادقة، للنهوضِ وتلمس الطريق.. واستدارك ما فات يقول:
أصعدُ الشَّمسَ راجلاً وأنادي
يا بلادي قد طال عهد الرُّقادِ
آنَ أن نسْكُبَ النجومَ ضياءً
أبدياً في ساعةِ الميلادِ
آنَ أنْ نعصبَ الجراحَ جراحَ الكونِ
من ثوبِ فجرنا بضمادِ
وسطاً كنتِ، أمةً تزحمُ الدنيا
وتعلي راياتها بالجهادِ
قد منحتِ الوجودَ خيرَ الرسالاتِ
فسيري على خطا الأجدادِ
واكسري القيد وامسحي البرق سيفاً
وتصدي، بهمةٍ، للقيادِ
قدم الشاعر عبد اللطيف محرز في ديوانه أناشيد البحر:
عملاً شعرياً ملحمياً، غنياً بمواضيعهِ التاريخيةِ.. عبرَ محطاتٍ هامةٍ من حياة البشرية.. كذلك طرح الشاعر أسئلةً هامةً في الوجودِ والمصيرِ الإنساني، وعبرَ التاريخ، وقدَّم إجاباتٍ عريضةٍ، وعناوينَ هامةً فيما يجب أن يكون قائماً في السلوك الإنساني، وذلك بتمثلِ قيمِ الحق والخيرِ والجمالِ.. ولم يكن الشاعر مؤرخاً شعرياً فقط.. بل كان جريئاً في طرح آرائه في القضايا المثارة، ومن موقع انتمائه الإنساني الكبير.. في جميع النصوص التي قدمها الشاعر لا يبدو الإحراجُ لديه في تطويع المعنى الشعري لقضايا التوصيف التاريخي والحدثي.. ولا تبدو عثرةُ النصِّ الشعري في الأبياتِ والألفاظِ والانسيابِ والانتقالات في المجالاتِ التاريخيةِ المختلفةِ لديه.. وهذا دليل على غنى حالةِ التدفقِ الشعري عندَه، كما يتجلى مخزونُ مفرداتهِ، وغنى قاموسه اللفظي، وقدرة القوافي لديه، ولا يلحظ التكرار في بنيته الشعرية على صعيد المفردات والصور.. رغم جفاف المواضيع التاريخية، وغياب قضايا الحب والعاطفة، والطبيعة والجمال والرومانسيات.. التي تساعد جميعُها على غنى نسيج الصورة الجمالية.. من خلال المواضيع ومساحة أطيافها.. فإنَّ النصوص الملحمية التاريخية للشاعر عبد اللطيف محرز لم تخلو من لفتاتٍ جماليةٍ، وتشبيهاتٍ، وأمثلة، تخفف جفاف المواضيع التاريخية، وطبيعتها السردية.
إنَّ الكثير من الصور الواردة في النصوص والقصائد، غنيةُ الدلالة، جميلةُ الإيقاع، والفضاء الشعري، وقد أوردنا ذلك بإشارتنا لعدد من التراكيب اللفظية.
في إطار الشكل في الموضوع: كانَ هناك تدرج تاريخي في طرح القضايا، تبعاً لورودها الزمني وتدرج حدوثها التاريخي.
أشارت القصائد لإيجابيات الأمم وثقافاتها.. كما أشارتْ لسلبيات العديد ممن حملوا قضايا الحضارة ومسائلَها وانعكاساتهَا على الآخرين.. إنه داعيٌ لعالميةٍ ثقافيةٍ، ومنكرٌ للعولمة القائمة.
في تقديري وبحدودِ قراءتي للتاريخ الشعري، فإن أناشيد البحر وفَت غرضَها الشعري التاريخي، وقدمت رحلةَ شعر ملحمي يُقرأ ويعيد للذاكرة الكثير، ويقدم دروساً هامةً في الحياة والوجود الإنساني، والتاريخ البشري.. كلُّ الشكرِ للشاعر (عبد اللطيف محرز) ودعوة له بالتوفيق على دروب الإبداع الشعري، والعمر المديد.
لقد كان حارساً أميناً لكرمه الشعري
فهو بامتيازٍ حارس الكرم والنبع.
الأديب يوسف مصطفى