حوار مع المتنبي في كراج العلاوي
جمال حافظ واعي
بينما كنت نائما على مصطبة في كراج العلاوي سقط عليّ ذلك الرجل خائفا مذعورا..
قلت له ناهرا: هل أنت أعمى؟
قال: معذرة يا ولدي فقد أربكتني هذه الأصوات التي لم اسمعها من قبل وهذا الدوي المرعب وأنا رجل غريب عن هذه الديار.
قلت: تقصد أصوات الانفجارات... تلك أمور أصبحت عادية في حياتنا.
حدقتُ في وجهه مليا وقلت له: إن شكلك غريب فعلا.
قال: ألا تعرفني!؟
قلت: لا
قال: ألم تسمع بشاعر الخيل والليل والبيداء؟
قلت: أنت المتنبي إذن.
قال: لقد عرفتني... الحمد لله فما زالت الأجيال تتذكر شاعرها العظيم.
قلت ممازحا: هل استقر بك التاريخ أخيراً في كراج العلاوي!!
وأضفت: ما هي وجهتك ؟
قال: أريد أن اذهب إلى المنطقة الخضراء!!
قلت: ومن أرشدك إلى هذا المكان؟
قال: دفن بقربي رجل قبل أيام وقال لي إنه قتل بمفخخة.
قلت: أنت تعرف المفخخات إذن.
قال: لقد حكى لي صديقي الميت عنها.
قلت: ولماذا طلبت منه أن يرشدك إلى المنطقة الخضراء دون سواها، هل حدثك صاحبك عن دكاكين الولايات والأقاليم فيها فهيّج طموحك التاريخي المعروف.
(صمتَ وكأنه أدرك مغزى سؤالي)!
قلت: في المنطقة الخضراء هناك كل ما تصبو إليه نفسك فهي تضم أمراء الطوائف والملل والنحل الجديدة فربما بقصيدة واحدة منك تحصل على ولاية أو إقليم أو فدرالية خاصة بك وبذلك تثأر –تاريخياً- من كافور الإخشيدي الذي حرمك منها.
(تلفتَ إلى جميع الجهات وكأنه أراد أن يغير وجهة الحديث إلا أنني لم أعطه فرصة).
قلت: لكنك لا تستطيع أن تدخل المنطقة الخضراء بسهولة.
(وهنا انتفضَ، ربما شعر بالإهانة).
قال: أنا المتنبي جميع أبواب الملوك كانت مفتوحة أمامي.
قلت: ولكن أبواب المنطقة الخضراء غير أبواب الملوك وهناك ستخضع إلى تفتيش شامل تطال حتى الأعضاء الداخلية من جسدك، هذا بعد أن تشمك الكلاب البوليسية طبعا.
قال: إنهم سيخشون هجائي.
قلت: أتهجوهم كما فعلت ذات يوم مع أحد الأمراء الذين لم يسمحوا بدخولك وجعل انتظارك يطول على باب قصره.
قال: أنت تسعى إلى الحط من شأني فأنا رمز من رموز هذه الأمة.
قلت: وكيف لا وأنت رمزها الدموي! ألم تقل يوما:
سقاني الله قبل الموت يوما
دمَ الأعداء من جوف الجروحِ
حتى في غرغرة الموت تتمنى الدم فأية عقدة مستحكمة فيك؟!
كما أن قاموسك الشعري يزخر بالكثير الكثير من هذه الدموية... هل أذكّرك بذلك؟
قال: أنت تجرد الوقائع من دلالاتها ومن مطابقتها لواقع الحال وتجتزئ من شعري بما يسيء لي.
قلت: أليست الأجزاء هي مجموع الكل وربما هناك جزء صغير جدا يرجح قضية الاتهام؟!
قال: سأقتحم المنطقة الخضراء بهيبتي التي يعرفها الأبناء وستسبق يد التاريخ يدي في الطرق على أبوابها.
قلت: ولكنهم لن يستقبلوك، هذا إذا سمحوا لك بالدخول، فأنت لستَ مثل باسم الكربلائي!! قال: مَنْ باسم الكربلائي هذا؟ فانا لم اسمع به في شعر العرب.
قلت: هو اليوم اشهر قارئ للقصائد منذ معلقة: (جابر يجابر ما دريت ابكربلا اشصار) وحتى معلقة: (زينين احنه وداعتك....)
قال: ولكنه قارئ وليس شاعراً كما تقول ؟
قلت: لا فرق بين هذا وذك في عكاظ المنطقة الخضراء!!
قال لي بعد أن شعر باليأس والإحباط وخيبة الأمل:
أرجوك دلني على طريق المقبرة لكي أعود إليها ثانية فقد اشتبهت عليّ السبل، فما زال النكران والجحود صفة الأبناء في هذه الأمة.
قلت: لا تتعب نفسك بالذهاب إلى المقبرة فالمفخخة القادمة ستتكفل بأن تدلك عليها!!
نقله للمنتدى عن جريدة المدار المحامي أحمد صالح الحسن