:cry:
كلمة وفاء
شهادة من الأديبة: دعد إبراهيم
أيها الحضور الكريم
سيدي الشاعرَ
قال الشاعر الإنكليزي سبندر:
الشعراء جمعية سرية يتخاطبون فيما بينهم بلغة سرية من صوب إلى صوب. في العالم. خلال العالم. فوق العالم.
وقال الأديب توفيق يوسف عواد حين سئل عن الشعر:
لغة الحب شعر. لغة الحنان والغفران شعر. لغة الغضب شعر. لغة التمزق واليأس شعر. الصلاة شعر.
ونحن نعرف ونعترف أن الشاعر يرى أبعد مما يراه الناس.
إنها مرحلة الرؤيا. وسموها الوحي والإلهام. واللاوعي إذا شئنا.
وفي حضرة الشعر ماذا يمكن أن يقال؟! فهو بحر لا ضفاف له.
واليوم نحتفي بشاعر فرض حضوره الإنساني المميز في هذه المحافظة. شاعرٍ يضع عينيه في أحداق الناس. وقلبه بين أضلعهم. ثم يلجأ إلى اللغة يستودعها أشعة روحٍ لا تقف عند حد.
شاعرٍ حمل جروح وطنه وهمومه دائماً. وسقى أشعاره كلها من خلال الحياة المنهمرة بدموعها كالأمطار. ملتزماً بالقضايا العامة يلوذ بها وكأنها همٌ خاص به.
خلال مسيرته الحياتية كان صادقاً حتى في إظهار دهشته الدائمة والعفوية أمام الأشياء.
ومع أن حياتنا هي مجموعة متناقضات ومفاجآت. وجوه متداخلة متغيرة أبداً. لكنه لم يسمح لها بالاستيطان داخل روحه. لأنه يحمل مبادئ اجتماعيةً، وقيماً أخلاقيةً، وتعاليم سماوية. تبعده عن متغيراتها الخاطئة. لذلك ظل يعيش أحلامه صدقاً قدر ما يستطيع. إنه الإنسان الطيب. ابن الأرض المباركة الطيبة. المتعلق بها تعلقه بروحه. فهل يبيع الإنسان روحه. ويمزق قميص أحلامه وأمانيه. أم يبعثرها فوق سماء وطنه لتزيده بهاءً وهذا ما فعله.
نراه وقد أدّى رسالته التي آمن بها. فهو يرى في الشعر بعض الألوهة. ويمارسه بشيء من التقديس والكثير من الاحترام للذات.
ويعاني مع كل نظمٍ ليعرض علينا لوحات جميلة منسجمة. لا يقتصر فيها على مظهر الأشياء. بل ينفذ إلى الجوهر.
حضوره يضفي الطيبة على من حوله. فما زال الجيل الذي علمه ونثر فيه مُهج فؤاده. يذكره المعلم صاحبَ الضمير الحي.
وحين كان نقيباً للمعلمين. حمل هموم المعلم وحارب من أجلها.
وحين أصبح رئيساً لفرع اتحاد الكتاب العرب في طرطوس –كان يستقبل الجميع بصدق ومحبة. ويبث الطمأنينة والراحة في القلوب. وجميل أن يطمئن الإنسان ويعرف أنه يتعامل مع إنسان صادق سوف يحفظ غيبته.
لم يجرح أحداً مرة حسب معرفتي به بل كان يستوعب الجميع ويفتح صدره لمشاكلهم متجاهلاً الإساءة إن بدرت مترفعاً عن سفاسف الأمور.
وللبيئة تأثير واضح على شاعرنا. فهو مخلص لكل نبضة نبع ولكل صخرة ولكل معمر ولكل عشبة يسقي منها أشعاره فتزهر في روحه تلك المحبة حتى تتحول إلى جداولَ تحفر بيوتاً للحب وللوطن وهذا يذكرني بالشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف الذي خلّد داغستان في قلوب أبنائها وفي قلوبنا نحن.
شاعرنا لم يزرع أشجاره إلا في التربة التي تصلح لتكون أماً لهذه الأشجار لأن التربة الغريبة عن البذار لا تعطي ثمراً.
تحدث بلسان بيئة ليُخرجَ ما بأعماقه كي يُصغي إليه.
قد يضع إصبعه على جرحٍ سال في قلبه فإذا هو جرحك. أو على خاطرٍ في ذهنه فإذا هو خاطرك. أو على غصةٍ تتحير في حلقه بين الحلاوة والمرارة فإذا هي غصتك.
كلماته تفوح برائحة الأرض المختلجة بالحياة. المجنحة بالروح. الحُبلى بالأسرار التي تحمل اختلاجات روحه. تراه يباغت أو يداعب صخرة أو شجرة أو يفجر غديراً. أو ينفر عصفوراً. يريد من كل هذا أن يصطاد النجوم.
شعره أغانٍ. عندما يتحدث عن الوطن تكون الكلمة هي الأصفى. تنهل كالمطر في السلم. وتهب كالريح في الحرب. تنداح كالنور. تكبر كالموجة وتأتلف مع أخواتها كحبة رملٍ على الشاطئ عندما يتحدث عن مشاكل الناس وعواطفهم. ضميره مفتاح مشاعره. فهو يحمل مشاعر بصيرةً لأنه يحمل في صدره ضميراً بصيراً وكما قال المبدع جبران خليل جبران:
دعوا العشب الأخضر ينمو فوق ضمائركم لأنه حيث يكون يسكن السلام.
والأستاذ عبد اللطيف محرز إنسان يحترم الآخر ويعرف أن الشعر بحرٌ.
أقديماً كان أم حديثاً. على النواميس والمقاييس أم متمرداً ثائراً.
مفغورة له خطاياه شرط أن يكون شعراً. فالشعر الحر يرفض الشرطي الذي يعين له وجهة السير.
وشاعرنا لا يأخذ على الجيل الجديد حداثته ولا يرفضها. فحياتهم غير حياته ومقاييسهم غير مقاييسه. ولذلك فهم يعبرون عن أنفسهم بطريقتهم وهذا حقهم.
وكم مرة راقبته في أمسيات الشباب فأراه مبتسماً مشجعاً بهزة رأسه لكل كلمةٍ جميلةٍ يسمعها منهم.
لقد غنى الجمال والحب والحق والحرية وسوريا والعروبة وشعره ليس سجلاً لآلامه وآماله فحسب بل لآلام جيل كامل وآماله.
هو يعرف أن بلاده تعاني الثكل والترمل. ويغرق نحيبها في لجة الانتظار ولكن لكل شيء نهاية. الخيط واهٍ نعم. لكنه منسوج يعرقنا ومحبوك بأفواهنا إذا قطعه قاطع وصلناه بصمت وصبر. وإذا داسه بقدميه نتجاهله ونتناسل بلا انقطاع في الفصول المؤاتية. نعم هذه هي أمتنا رغم إحساسنا بفجيعة ما يجري في هذا الوطن. فالقتيل ينام مدهوشاً لجهله أسباب مقتله. والمدن أصبحت خارج المدن واُختصر الوطن إلى مخيمٍ كبير تنتفي فيه العدالة. ويمد الشر جذوره داخله. من فلسطين إلى العراق إلى غيرهما ولا نعرف من البلد القادم في قائمتهم.
وأخيراً حين أخبرت أحد الأصدقاء الذين أعتز بصداقتهم عن تكريم الأستاذ عبد اللطيف محرز قال:
هذا الشاعر ضمانةٌ أخلاقية.
شكراً أستاذ عبد اللطيف لحضورك الرائع والدائم بيننا.
وشكراً لأنك ضمانة أخلاقية. ولأنك تجسد قيم الإنسان النبيل. في هذا الزمان الصعب وشكراً لحضوركم.