كان الرئيس جالساً في مكتبه الفاخر بقصره يقرأ في هدوء مقال بعدما انتهى لتوه من قراءة آخر وتقرير عن مدى تعلق الجماهير به.
ظهرت ابتسامة الرضا على مُحيّاه، ورفع رأسه ثم أدار وجهه ناحية النافذة وجال ببصره وكأنه يجمع في خياله في لحظة واحدة كل أحلام وسطوة القوة لسنوات قادمه
فجأة سمع الرئيس حركةً في غرفة المكتب فالتفت ليرى بجوار الباب إبليس متقدماً في اتجاهه دون أن ينظر إليه، ثم سحب مقعدا بمسندين وجلس بهدوء.
لم يضطرب الرئيس أو تزداد دقات قلبه فهو قائد وحاكم وبطل ورابط الجأش في أحلك لحظات الخطر حتى عندما رأى الموتَ بأمّ عينيه مرات كثيرة.. وفي وفي عدة محاولات انقلاب فاشلة قضى عليها ولفها صمتُ القبور.
نظر الرئيس إلى إبليس نظرة متفحصة فهو يعرفه جيداً،
ثم قال له: ما الذي جاء بك في هذه الساعة المتأخرة من المساء؟
إبليس: جئت لأحذّرك فقد عرفتُ أن قوى الخير والحرية تُصعّد معارضتها لك، وأخشى عليك أن تتوب إلى الله، وتفرج عن المعتقلين، وتنهي معاناة رعيتك، وتبدأ حملة مطاردة الفساد!
الرئيس: أحمق أنت أم ساذج؟ لقد كانت الفرصة أمامي عندما اختبرني رب العرش العظيم، وطرق عزرائيلُ البابَ عدة مرات وأنا على فراش المرض ولما شفيت عدتُ وأنا أكثر إصراراً وتشدداً وتمسكاً بالسلطة والسطوة ولم يدر بذهني قط أن أكون رحيماً أو رؤوفاً أو متسامحاً مع هذا الشعب!
إبليس: لقد بذلتُ جهداً كبيراً معك، وقدمتُ لك طوال حكمك مساعدات لا حصر لها جعلتك تدوس باطمئنان على رقاب هذا الشعب
الرئيس: في الحقيقة فإن الفضل فيما أصاب بلدي ورعيتي يعود إلي وحدي، أما أنت فدورك ثانوي!
إبليس وقد تطاير الشرر من عينيه وضرب على حافة المكتب بقبضته: ذاكرتك ضعيفة أيها السيد الرئيس، فبصماتي واضحة على فترات حكمك أذقنا فيها شعبك كل أنواع الذل والمهانة. هل تظن مقالات تدبيج المديح والنفاق والتزلف لك من كبار الكتاب والمثقفين خوفاً منك أم حباً فيك؟ إنها تحمل توقيعي بجانب اسم كتابها وناشرها. هل تظن صمت وسكوت وخوف أفراد الشعب من التمرد والانتفاضة ضدك نتيجة طبيعية لقوتك وسيطرتك الأمنية؟ إنها إيعازات مني لكل واحد على حدة بأن عذاباً مقيماً من جحيم سَعَر ينتظره على أيدي جلاوزة الأمن في عهدك فركن الجميعُ - إلا ندرة قليلة -
الرئيس: لكنك كنت توسوس لي ثم تتركني وقتاً طويلاً بمفردي أذيق أبناء شعبي مُرّ الحياة المهينة وأجعل زيارة عزرائيل لملايين منهم رفاهية لا يحلم بها أكثرهم تشاؤماً! كنت تطلب مني تقديم بعض أفراد الشعب على مذبح التعذيب والاغتصاب وانتهاك الحرمات في أقسام الشرطة ليسري الخوف بعدها في أوصال بقية أبناء شعبي، لكنني جعلت انتهاك كرامة المواطن عملية روتينية تجري في معظم أقسام الشرطة في طول البلاد وعرضها، بل إنني إمعاناً في إثبات قدرتي على منافستك قمت بتكريم ثلاثة ضباط متهمين بتعذيب مواطنين أبرياء في تخشيبات الرعب وغرف القهر والقمع. كنت تحرضني على النكث بالوعد في نهاية ولايتي الرئاسيه والآن تفوقت عليك وأستعد لولاية أخرى وأنا مريض إثباتاً وتأكيداً أنني السيد المطاع ولست في حاجة إليك، ولو تخليت عني لما تغير الأمر كثيراً.
إبليس: أنت ناكر للجميل، ولو نظرت حولك لوجدت استمرار حكمك بفضلي أنا! هل تعرف أن لي مقعداً ثابتاً في مكاتب كبار المثقفين والكتاب والإعلاميين، وعندما تمرر عينيك صباح كل يوم على مقالات تعدد إنجازاتك ومكتسبات الشعب وتزيف الواقع فهي ممهورة بهمساتي في آذان كبار مثقفي بلدك؟ لماذا لا يجتمع رؤساء الأحزاب الكبرى والجماعات المناهضة لحكمك على كلمة سواء في حب الوطن؟ لأنني أقف لهم بالمرصاد، وأجعل كل فئة أو طائفة أو جماعة تظن أنها صاحبة الحق في تولي السلطة بعد غيابك. إنني أجعلهم يخشون عيون أمنك، ويشعرون بإحباط شديد، ويعقدون الأمل على لجوئك إلى الملائكة بدلا مني لعل قلبك يرق لرعاياك، وينفطر حزنا لآلامهم، وينزل الله سكينته عليك. لقد قدمت لك دعماً معنويا وأدبياً لم أقدمه من قبل لأي زعيم عربى في العصر الحديث! معظم رجالك ووزرائك ومحافظيك وأعضاء مجلس الشعب تربطني بهم علاقة عاطفية شديدة، يطيعونني، ويغضون الطرف عن الفساد، ويكرهون الأمانة، وينافقونك، ويتزلفون إليك، ويقومون بتزوير أوراق وطن كاد يشهر إفلاسه.
الرئيس: لا أنكر دورك في إقناعي بالاحتفاظ بأكثر الفاشلين، وبإدخالك الطمأنينة إلى قلوبهم بأن الفشل والتراجع والفساد والنهب والسرقة والهبر والإجرام كلها أمور لا يكترث لها رئيسهم ماداموا مطيعين كالخدم، وجبناء كالفئران، وجشعين كأشعب، لكنني كنت أراقبهم، وأوحي لكل منهم بأن الولاء لي قبل الوطن، وأبتهج لتملقهم إياي ليلاً ونهاراً، حقاً أو كذباً.
إبليس: هل تعرف أنني أسبغت عليك حمايتي من غضب الشعب عندما تخفيت في صورة العقلانية والصبر الممزوج بالخوف من قبضايات أمنك وجعلت مواطنيك يمارسون أقصى درجات السلبية، ويتهكمون على المناهضين لحكمك، ويسخرون من معارضيك، ولا يكترثون لطوفان يرونه رأي العين وهو يقترب من ديارهم وأنفسهم وأهلهم وأولادهم؟
الرئيس: هذا ليس صحيحا بالمرة فأنا فى فتره حكمى صنعت العبودية المختارة، وجعلت لذة الذل أشهى طعماً من الشهد، بل إنني تركت آلاف المعارضين يناهضون حكمي في صحافة يقرأها أبناء شعبي ثم يلقون بها خلف ظهورهم لأن الأمل مفقود تماماً في استبدالي أو العثور على وطنى واحد يأتي من بعدي ويحل محل ابني الذي أصبح سيد البلاد رغم أنوفهم.
إبليس: ظنونك من هوى الغرور، سيدي الرئيس، لأن استمرارك مرهون بوجودي الدائم بجانبك
الرئيس: لعلك نسيت، صديقي العزيز، أن الملائكة لم تعد تنزل على قلوب الكثيرين كما كانت تفعل من قبل مما سهّل مهمتك، أما أنا فأضرب بعُرض الحائط كلَّ القيم والمبادئ والمثل والأخلاق، وأجدد قانون الطوارئ، وأرفض الإفراج عن المعتقلين الأبرياء، وأطرب كلما أفرغ لصوص عهدي بنكاً أو شركةً أو مصنعاً يملكه عرق الشعب، ويخرج اللصوص من المطار الدولي كأنهم أسياد سامسوناتية ترفع رؤوسها بوقاحة وتبصق مثلما أفعل في وجوه الناس التي تنتظر ملائكة مسومين ترسلهم العناية الإلهية.
إبليس: لكنني أفرق المعارضة، وأجعل قوة أحزابهم وجماعاتهم ضعفاً يتخفى خلف إدارات فاشلة، أو مساومات على ثمن السكوت، أو خشية وثوب واحدة منها على كرسي الحكم.
الرئيس: لعلك تشير إلى المظاهرات التي تندلع في كل مكان، ثم تذوب كما يذوب لوح الثلج في صيف حار
إبليس: إنني، سيدي الرئيس، أعمل أوفر تايم في فترات حكمك المديده
الرئيس: لا أريدك، عزيزي الشيطان، أن تغضب مني أو تعاتبني فنحن نستعد لأكبر تحالف وتعاون بيننا منذ أن توليت حكم البلاد.
إبليس: لا تكترث بأحد أو تهتم فأنت في مرضك الشديد واستعداد عزرائيل صديقي سابقاً لزيارتك في خاتمة محاولاته التي أمد الله لك في العمر بعدها عدة مرات ، فأنت أكثر قوة من قبل، وستأتيك البلاد طائعة مختارة، وستركع تحت أقدامك ملايين من أبناء شعبك، فأنت تملك بين يديك أرواح شعب يستعذب الهوان ويغتبط بالظلم الواقع عليه.
الرئيس: هل بلغك نبأ الدعوة إلى عصيان مدني يبدأ في يوم شم النسيم
وهنا لم يتمالك إبليس نفسه من الضحك، وسقط على الأرض وجعل يتمرغ فيها وهو يقهقه ويرتفع صوته وكاد يصل إلى حراس مكتب الرئيس من لواءات أمن الدولة والمخابرات، والرئيس يفغر فاها ولا يفهم سبب هستيريا الضحك التي أصابت الشيطان.
ثم هدأ قليلا، وعاد إلى مقعده، وطلب من الرئيس أن ينتبه جيدا إلى ما سيقوله: لقد قرأت البيانين في مواقع عدة على الإنترنت، وتداولها طلاب في الجامعات وصحفيون ومثقفون ومهاجرون، وتابعت الردود التي كانت أكثرها سخرية وتهكماً، أو تمنيات بالنجاح مع أمل مفقود، أو تأكيد حقيقة واحدة أجمع عليها كل أفراد الشعب وهي أن الجبن هو القيمة الكبرى للأمن والسلام.
إنها دعوة ستموت قبل أن تولد، وسيغتالها معارضوك قبل مؤيديك، وسيهيل عليها الترابَ مناهضوك قبل منتقديك.
الرئيس: ماذا لو التقط هذه الدعوةَ مخلصون وشرفاء وشجعان في كل مكان، وانتشرت في الجامعات والمدارس
إبليس: ألا تثق في قدرتي على همسة واحدة مني في أذن من سيقرأها ويتحمس لها، فينساها قبل أن يقوم من مقامه أو يرتد إليه طرفه؟
بيان العصيان المدني : يدعو إلى المساواة الكاملة بين كل أفراد الشعب على اختلاف طوائفهم وعقائدهم ومذاهبهم وأفكارهم مما يستدعي رفضاً من قوى الغطرسة والتكبر والاستعلاء التي تظن أنها صاحبة الرؤية الصحيحة في إنقاذ الوطن.
وهو يدعو إلى المواطنة الكاملة لكل أفراد الشعب فلا تمييز في القانون أو السلوكيات أو المشاعر أو التعليم أو الإعلام أو الوظائف ولا أظن أن ثقافة التمييز التي قمت أنا بجهد في تثبيتها تقبل هذا البيان. وهو يدعو إلى محاكمة عادلة لك يقوم عليها قضاة شرفاء لا يخافون في الله والحق لومة لائم، ولا يكتفي فقط بطلب رحيلك، على الرغم من أن كل قوى المعارضة تكتفي برحيلك وعودتك مواطناً كأنك لم ترتكب جريمة واحدة في حق الوطن.
وهو يدعو إلى رفع أيدي القوى الدينية عن إقحام كلمات السماء في مشاحنات الأرض، وأن لا تكون البلاد مسرحاً لحرب أهلية أو مزايدة دينية أو تأثيرات لمؤسسات تستبدل طغياناً بطغيان، وأن يتوحد أفراد على كلمة سواء وهي الوطن والديمقراطية والحرية والمساواة والعدالة.
كل هذه الأسباب تجعل من العصيان المدني طريقاً إلى الفشل!
الرئيس: لكن الاختيار وقع على يوم شم النسيم حيث من الصعب تطبيق قانون الطوارئ على الملاين المنتشرين في الشوارع والحدائق ...
ثم تصعيد العصيان المدني في اليوم التالي ورفض العمل وعدم الدخول للمحاضرات والمصانع ودور العبادة، والانتشار في كل مكان، وإخراج النساء والأطفال حتى لا نستطيع أن نطلق النار أو نتهم القوى الأضعف بأنها مشاكسة أو مشاغبة.
إبليس: لو نجحت هذه الدعوة وتبناها القيادات المناهضة وجماعات حقوق الإنسان فإنني أعزيك مسبقاً وأعزي نفسي، فلن يمر اليوم الثالث قبل أن تهرب أنت وأسرتك من الباب الخلفي لقصر ك المنيف، وربما تطلب اللجوء لسفارة واشنطن أو برلين أو باريس.
الرئيس: وهل هناك أمل في نجاحها؟
إبليس: قطعاً لا، وعليك أن تقرأ رسائل السخرية والتهكم والخوف، وأن تحصي أعداد من يقرءون الدعوة، وأن تعيد ثقتك في ملك العصاة فأنا أقف بالمرصاد لأي خير أو جمال أو شرف أو نزاهة أو حرية أو ديمقراطية أو الحفاظ على كرامة مواطنيك، ولذا فلن أجعل قوى المعارضة تتبنى هذه الدعوة.
الرئيس: وكيف ستساعدني؟
إبليس: أن أجعل كل وطنى يظن بأنه ينتمي لشعب من الجبناء، وأنه إنْ لبى الدعوةَ للعصيان المدني فربما لن يشاركه أكثر من حفنة تعد على أصابع اليد الواحدة، وأن الأمن المركزي لهم بالمرصاد، وأن لقمة العيش ستصبح أكثر مرارة مع العصيان المدني.
أما إذا استجاب خمسون فقط للدعوة، وأقنع كل من تصله عشرين آخرين فإن متوالية حسابية بسيطة تجعل البلاد بركاناً هائلاً قد يطيح بك وبابنك ويحاصر مجلس الشعب وقصرك وينضم إليه الجيش، أو يقف على الحياد، ويعصي أوامرك كبارُ ضباط مباحث أمن الدولة والمخابرات في ضرب أفراد الشعب.
الرئيس: حتى أنت، أيها الشيطان الرجيم، تخشى يقظة الشجاعة والنبل والخير والضمير والوطنية، وتشكك في وقوفي فوق رؤوس أفراد الشعب ما بقي لي من عمر ليكمل المهمةَ ابني ووريثي
إبليس: دعني أتركك الآن فلدي عمل كثير، وأمامي مانشيتات الصحف الكبرى، وزيارات لأقسام الشرطة، وتجميع مئات الآلاف من المغيبين والمخدَرين والخائفين والساذجين والبلهاء ومهمتي في إقناع أفراد الشعب بأنك أفضل من المجهول، وأن لا فائدة في حريتهم، وأنهم لا يساوون جناح بعوضة، وأن ابنك قادم لا محالة لاستحمارهم واستغفالهم وقهرهم وقمعهم.
إنني، سيدي الرئيس، أعتمد على ذاكرة أفراد الشعب الضعيفة، فأكثر الذين سيقرأون الدعوة للعصيان المدني لن يستجيبوا لها
الرئيس: هل ستبعث لي مقدماً بتهنئة لولاية جديده أُفَرّغ خلالها البلاد كلها من أي مشاعر كرامة أو شجاعة، وأجعل أفراد الشعب أفقر شعوب المنطقة، وأضاعف المعتقلات والسجون، وأمنح ضباط الشرطة مزيداً من الصلاحيات لإحراق أفراد الشعب أحياء في تخشيبات أقسام الرعب والفزع، وأعطي الضوء الأخضر لمن لم يستطع أن ينهب ويهبر ويحتال ويسرق في فترات حكمى السابقه أن ينتهز الفرصه لتفريغ الوطن من خيراته؟
إبليس: سأبعث لك قبلاتي الحارة عندما تفشل المظاهرات، ويرفضأفراد الشعب العصيان المدني ويعلن رئيس مجلس الشعب ترشيحك ولو أكل المرض كل جسدك، وتستطيع أن تقف في شرفة قصرك وتطل على بلدك العظيمة .. وتبصق على كل أفراد الشعب أو تخلع الحذاء وتطل عليهم من الشاشة الصغيرة متوعداً من يرفضك أو يرفض ابنك بمسح كرامته بتراب البلاد الطاهر.
وهنا سمع الرئيس رنين الهاتف، فرفع السماعة ليأتيه صوت تمتزج فيه المذلة والخنوع والتزلف قائلا: مبروك يا ريس أفراد الشعب كلهم يؤيدونك.
وخرج إبليس بهدوء وعلى وجهه علامة الرضا، وكانت الملائكة تحلق فوق القصر ظناً منهم أن الرئيس سيتوب إلى العلي القدير ويرفع الظلم والجور والعذاب عن شعبه، لكنه اختار طريقاً آخر لا رجعة فيه.