حين يحقق الحاكم نصراً عسكرياً، يجله العلماء وتكبره العامة، فما بالنا إذا كان الحاكم قد حقق نصرا غير عادي، ودحر عدوا شديد البأس، هنا لا يمكن أن يقف أمامه ناصح أو يجابهه عالم.
فإذا عرف عن هذا الحاكم نصرته للدين ودفاعه عن السنن، وإبطاله للمنكرات، إذا فعل الحاكم كل ذلك فماذا عسي العالم أو الفقيه أن يطالبه، وبماذا يستزيده؟
إنني أتحدث عن الظاهر بيبرس الذي قهر التتار، ورويت عنه الأساطير، وتغني به أصحاب السير، إلا أن كل ذلك لم يكن ليغر العالم الفقيه محيي الدين أبوزكريا يحيي بن شرف النووي، شيخ المذاهب وكبير الفقهاء في زمانه.
فقد روي عن بيبرس أنه حين غزا التتار بلاد المسلمين، اقتربوا من دمشق، أراد الظاهر أن يجبي الأموال من العامة من أهل الشام لتعينه علي نفقات الحرب وإعداد الجيوش وتجهيز المؤن، واستفتي بيبرس العلماء فأجابه أغلبهم إلي طلبه، حتي سأل السلطان
«هل بقي أحد لا يجيز؟» فأجابه نفر من حاشيته: «نعم.. بقي الشيخ محيي الدين النووي»، ولما كان بيبرس يعرف الشيخ ويقدره حق قدره، فقد استدعاه ليعلم سبب امتناعه، أليست هذه الأموال لنصرة الدين؟ لكن الشيخ أصر علي الرفض وأفتي بعدم جواز أخذ الأموال من الرعية، وواجه السلطان بما آلمه، فقال: أعرف أنك كنت في الرق مملوكا للأمير البندقدار، وليس لك مال، ثم منَّ الله عليك وجعلك ملكا، وسمعت أن عندك ألف مملوك، يتحلون بالذهب، ولك مائتي جارية لكل منهن جواهر غالية، فإذا أنفقت ذلك كله، وبقي مماليكك بملابسهم دون الذهب، وبقيت جواريك بثيابهن دون الحلي، ولم يبق في بيت المال شيء، ساعتها أفتيك بأخذ المال من الرعية.
هنا لم يتمالك السلطان نفسه، فقد وخزه الشيخ في أصله، وفي ذمته، وظن الحاضرون أن الرجل هالك لا محالة، إلا أن السلطان صرخ فيه «اخرج من بلدي»، وهكذا أصبحت دمشق بقدرة قادر بلد «بيبرس» المملوك الذي جاء من وراء النهر، «بلدي».. هكذا يظن كل الحكام فتكون الكارثة. خرج الشيخ من دمشق إلي قريته «نوي» وسئل السلطان عن امتناعه عن قتل الشيخ، فقال: كلما هممت بقتله وهو يتكلم شعرت بالذعر، وكأني أري علي عاتقه سبعين يريدان افتراسي.
ولم يستطع السلطان أن يجبي مالا من الرعية، بل باع ما عند مماليكه، وما عند جواريه من ذهب وحلي، فكفاه ذلك مؤنة الحرب، وانتصر بيبرس، وتوطدت أركان سلطانه، وأجلي التتار عن أرضه بالشام، وحسنت في عينه أرض القوطة في ظاهر دمشق، فبما إنه حررها من التتار فبالتالي ما المانع أن يأخذها لنفسه؟ ألم يقل للشيخ «اخرج من بلدي»؟
ووجد السلطان من يبرر له الأمر ويزين له، وأفتي للسلطان بعض المشايخ بجواز الحوطة عليها، أي بحجزها وتكليف من يضع يده علي شيء منها بإثبات ملكيته وإبراز وثائقه، ومن لا يمتلك وثيقة أو سندا فلا أرض له. فكتب الإمام إلي السلطان كتابا يعظه فيه ويطالبه بإعادة الأرض لأهلها، لكن مراسلة الإمام لم تحقق المراد، ولم تثن الملك عن رغبته المحمومة في أخذ ما لا يحل له، فمشي النووي بنفسه إليه وقابله، وتحدث إليه، ولم يقل له قولا لينا، فاللين لم يعد يجدي في ظل الغطرسة والاغترار بالنصر. قال بيبرس للشيخ: لمَ لم تبد هذه الشجاعة عندما اغتصب التتار تلك البساتين؟، فقال الشيخ: كانوا غزاة غاصبين وكان الناس يجاهدونهم، أما أنت فولي الأمر، عليك أن تقيم العدل وتنصف الرعية، ثم دعاه الشيخ أن يتذكر نعمة الله عليه إذ آتاه الملك بعدما كان مملوكا، ومن شكر النعمة ألا يغتصب حق أحد.
. ها هو الشيخ يسكب الملح مجددا فوق الجرح الذي يواريه السلطان ويخجل منه، وغضب السلطان وطرد الشيخ من مجلسه، وبعدما انفضت الجلسة الساخنة، وانصرف الشيخ عازما علي ألا تجمعه بهذا السلطان أرض، لم يجد بيبرس بد من إبطال أمر الحوطة خشية أن يثور الناس عليه، كما أنه في قلبه لم يكن يدري سببا لإجلال وإكبار هذا الشيخ العنيد، الذي لم يداهنه شأن كل الشيوخ والعلماء.
وهكذا انقطعت الصلة بين الفقيه والسلطان، فلم يلتقيا حتي لقي الشيخ ربه في عام ٦٧٦ للهجرة، دوما تنقطع الصلة بين السلطان والفقيه الحق.