هذا زمان تتأكد فيه شخصيات الأمم بتسخير طاقاتها للبناء والتعمير لتصب قوية في عالم لا يؤمن إلا بالقوة، فلا مكان في هذا العالم للضعيف ولا للكسول ولا للمقلد، وإنما المكان فيه للقوي في الروح والعقل والجسد. وسبيل القوة الاعتماد على قدرة الذات المادية والمعنوية. ولا يكون ذلك إلا بالإيمان بأصالة هذه الذات، والثقة بقدرتها على إحداث التغيير، الذي لا يكون إلا من الداخل، مصداقاً لقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
وقد ضعف إيماننا بأنفسنا وبقدراتنا على التقدم، بسبب ظروف التخلف التي عشناها جهلاً وتسلطاً واستعماراً، فانفصلنا عن منابع القوة والأصالة في شخصيتنا، وأصبحنا عبيداً للعادة والتقليد، فتجمد فكرنا، وجفت أصالتنا، وانفصلت عقيدتنا وإيماننا عن حياتنا، فاختلف القول عن الفعل، وانبتر الإيمان عن السلوك، وانعكس ذلك على حياتنا العامة في هذا التحلل والتفسخ والاستهتار، وظهر في هذه الثنائية التي نؤدي بها أعمالنا، فنخلص في الأداء حين يكون العمل خاصاً بذواتنا، ونتنكر للعمل العام لصالح المجتمع ونتهرب منه. وأصبحنا ننظر إلى أنفسنا وإلى قضايا مجتمعنا بعيون الآخرين وأفكارهم، فلا نزداد إلا امتهاناً لأنفسنا وتبخيساً لقدراتنا، وتكالباً على تجارب الآخرين ومعاناتهم.
وقد تخلصنا الآن من كثير من الظروف التي كانت تقف بيننا وبين أنفسنا، وتهيأت لنا الأسباب لتفجير طاقات الخير والإبداع الكامنة في نفوسنا. فما نحن سوى النموذج الحي لكل قيم ديننا وأصالة تراثنا. وقوتنا الحقيقية تكمن في ربط كل تقدمنا بهذه الأصالة، بحيث يصبح هذا التقدم تحقيقاً لكل الجوانب الخيرة في شخصيتنا، وبذلك يصبح العمل الوطني تحقيقاً لكل القيم والفضائل المترسبة في نفوسنا. ومفتاح شخصيتنا هو هذه الوحدة القائمة في نفوسنا بين ما هو لله وما هو للناس، لأن كل الفضائل والقيم التي ترتكز عليها شخصيتنا فضائل وقيم اجتماعية، وهي في ذات الوقت فضائل وقيم دينية، لأن ديننا دين اجتماعي روحي، لا يفرق بين العبادة والعمل، وبين الدنيا والآخرة، بل يرى في كل منهما السبيل لتحقيق الآخر. ومعنى ذلك أن الفضائل الإنسانية، والقيم الروحية التي تشحذها العبادة، ويقويها التبتل والانصراف إلى الله، تعود في قوتها وعنفوانها بذلاً وعطاءً وتضحية في سبيل الصالح العام، ومن أجل بناء المجتمع القوي، الذي يليق بالمسلم القوي. فهذا الفصل بين الدين والدنيا، وبين العبادة والعمل الوطني، شيء غريب على حياتنا، التي كانت حتى عهد قريب المثل الحي لتمازج العقيدة بالعمل في بناء الوطن.
وليس من مثل نضربه لهذا التمازج أقرب مما نفعله في المسجد. فإن ما نفعله في هذا البيت من بيوت الله، لهو النموذج والمثال لما يجب أن يكون عليه الحال خارج المسجد. فنحن هنا نلتقي رئيساً ومرؤوسين، لا فرق بين كبيرنا وصغيرنا، ولا بين فقيرنا وغنينا صفاً واحداً دلالة التوحد والانسجام والاخاء المتبادل، نتجه كلنا إلى قبلة واحدة، ونأتم بإمام واحد، دلالة وحدة الهدف، ووحدة القيادة، لتحقيق أمر الله في الأرض. وكلنا يلقى أخاه في أحسن زي وأنظف جسم وأطيب حال. وقد فرض الله علينا أن نتجمع في مكان واحد، ليبين لنا أن قوتنا في تجمعنا وتكاتفنا، وأمرنا أن نستمع إلى الإمام يخطب فينا ليعالج مشاكلنا وفي ذلك دعوة صريحة إلى أن يلتقي الناس ويتفاكروا في أمورهم ويتدارسوا شؤونهم لأن في ذلك صلاح دينهم ودنياهم.
إن الله غني عن صلاة المصلين جماعة أو فرادى، ولكه فرض عليهم الصلاة، وفضَّل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، لأنه يريدهم أن ينقلوا هذه التجربة الروحية في العمل الجماعي، حيث خلصت النوايا، وتطهرت النفوس، إلى حياتهم المعاشة، فتكون حياتهم في المجتمع شبيهة بحياتهم في المسجد، طهارة ونقاء وإخلاصاً ومحبة وتعاوناً، وتوحداً في الهدف والقيادة، لترجمة القيم الروحية التي تغذيها العبادة إلى حقائق في حياة الناس. ومن هنا كانت كل العبادات في الإسلام مربوطة بحياة المجتمع. فالصلاة نهي عن الفحشاء والمنكر، والصيام كبح لشهوات النفس وإحساس بحاجة المحرومين، والزكاة دعم للتكافل الاجتماعي والحج مؤتمر عالمي لمعالجة قضايا المسلمين وتدعيم وحدتهم. ومن هنا كانت شخصية الرجل المسلم شخصية دينية اجتماعية، تتجه كل دوافع الفعل الدينية فيها لخدمة المجتمع، وبذلك يكون ضمير الفرد ضميراً اجتماعياً يفعل الخير ويلتزم بالخلق بدافع داخلي ينبع من شخصيته ولا يفرضه عليه قانون، ومن هنا يكون البعث الديني الذي نحن بسبيله بعثاً لحقيقة أنفسنا، وبعثاً لحضارتنا، لأن ديننا ليس أخلاقاً فحسب، وليس مسئولية اجتماعية، فحسب، وإنما هو انتماء حضاري أيضاً.