الفساد في سورية ليس حالة مستجدة ، و لا هو بالحالة الطارئة ، و لا هو بالحالة التي تتفرد فيها سورية عن غيرها من دول العالم ، و الجهود المبذولة لمكافحة الفساد ومحاصرته قديمة و إن كانت في حاضرنا أكثر جدية من ذي قبل ، إلا أن حصيلتها لا تحظى برضا المجتمع بمختلف مؤسساته و شرائحه.
و الفساد في سورية ليس حكراً على صغار الموظفين في الإدارات و المؤسسات الإنتاجية و الإنشائية و الخدمية المختلفة في المركز و الأطراف ، و إنما يشاركهم فيه كبار الموظفين الحكوميين ، فقد اعتقل رئيس وزارة سابق و نائبه ووزير النقل و مدراء عامون و رؤساء اتحادات ومنظمات شعبية بتهمة الفساد و الإضرار بالمال العام و المصلحة الوطنية ، التي أقل ما يقل عنها أنها ترتقي إلى مرتبة الخيانة العظمى.
و الصحافة السورية الرسمية منها و الخاصة تنشر بين الحين و الآخر قرارات صادرة عن وزارة المالية و الجهات المختصة بالحجز على أموال فلان و فلان بتهمة اختلاس المال العام و تقديهم للقضاء ، و لكن دون السماح لها بنشر الأسماء و تفاصيل الصفقة ، و إن سمح بنشر أسماء المتورطين و المتواطئين فإنهم في الغالب يكونون من صغار الموظفين لا من كبار الموظفين الرسميين الذين في الغالب – وحسب ما نعتقد - يطلب منهم تقديم استقالتهم أو نقلهم إلى مكان آخر .
تعريف الفساد
و الفساد تعريفاً هو استغلال المنصب العام لغايات شخصية، أو لتحقيق مكاسب خاصة مثل الرشوة و الابتزاز، و المنصب العام كما عرفه القانون الدولي هو منصب ثقة يتطلب العمل بما يقتضيه الصالح العام.
- أشكال الفساد في سورية :
يتخذ الفساد في سورية أشكالاً متعددة منها:
1 – استغلال المنصب العام : يلجأ بعض ممن هم في مواقع المسؤولية في سورية إلى استغلال مواقعهم ومناصبهم لتحقيق مكاسب مادية ، وهؤلاء يتحولون مع مرور الزمن إلى رجال أعمال أو شركاء في تجارة يديرون أعمالهم و أموالهم .......إلى جانب كونهم مسؤولين حكوميين ، يصرفون جل اهتمامهم ووقتهم للبحث عن طرق و أساليب تمكنهم من زيادة حجم ثرواتهم الخاصة، على حساب الاهتمام ببرامج التنمية و تحقيق قدر من الرفاه الاجتماعي للمواطنين .
2 – الاعتداء على المال العام : غالباً ما يقوم بهذا السلوك مسؤولون في الجهاز الحكومي و المصرفي ، كتسهيل حصول رجال الأعمال و التجار على قروض مصرفية بفوائد منخفضة وبدون ضمانات مقابل حصوله على جزء من القرض على سبيل الرشوة أو العمولة ، كذلك التلاعب في تقدير قيمة الضمان المقدم مقابل الحصول على القرض، و التآمر و التواطؤ مع رجال الأعمال في منح أشخاص مستأجرين يحملون أوراق تسجيل في غرف التجارة و الصناعة و بيانات إشغال و تكليف ضريبي جرى استصدارها دون التأكد من صحة البيانات المسجلة، كبيانات الملكية ( ملك – استئجار – استثمار ) وقيمة الضمان المقدم . كذلك تم حتى وقت قريب التلاعب في رخص الاستيراد و التصدير عن طريقين، الأول: منح رخص استيراد و تصدير لرجال أعمال مقابل عمولات، و الثاني: عن طريق التلاعب و التواطؤ، كأن يقوم أحد رجال الأعمال بطلب رخصة استيراد أو تصدير باسم أحد الأشخاص الذين لا يملكون قوت يومهم بعد استصدار أوراق ومستندات غير صحيحة لشخص لا ينتمي كما ذكرنا إلى عالم أصحاب الثروات و الأعمال ، تؤهله للحصول على الرخصة مقابل بعض المال لقاء قيامه بهذا العمل ، ويسلك رجال الأعمال و التجار هذا السلوك تهرباً من الضرائب و إخفاء حجم أرباحهم الحقيقية عن وزارة المالية المكلفة بتحصيل ضرائب على الدخل .كذلك يقوم البعض بالاعتداء على أملاك الدولة الزراعية و تلك التي تقع على أطراف المدن ، ويقومون ببناء محاضر سكنية يتم غض النظر عنها من قبل الجهات المسؤولة المنوط بها مراقبة هذه الأراضي و حمايتها من أي اعتداء ، إلى حين الانتهاء من أعمال البناء و السكن ، الأمر الذي يتعذر معه هدم المحاضر و إخلاء السكان ، و يتم ذلك مقابل رشاوٍ و عمولات تدفع لمسؤولين حكوميين و موظفين من الصف الثاني و الثالث.
3 – التهرب الضريبي و الجمركي:يقوم بمثل هذا السلوك الفاسد رجال أعمال من القطاع الخاص ، فهؤلاء يدفعون الرشاوى للمسؤوليين الحكوميين في الوزارات المعنية بغية حصولهم على تخفيض ضريبي أو إعفاء ضريبي أو تخفيض الرسوم الجمركية أو إعفاء ضريبي لفترة طويلة نسبياً ، أو تخفيض الرسوم الجمركية أو إعفائهم من الرسوم وفق استثناء أو تلاعب على القوانين ، وفي كثير من الأحيان يقوم رجال الأعمال عن طريق دفع رشاوى لمسؤولين حكوميين تغيير مواصفات السلع المستوردة على الورق لتخفيض حجم الرسوم الجمركية الواجب دفعها لخزينة الدولة ، و هذا بحد ذاته يعتبر من الوجهة القانونية احتيال و تزوير و تلاعب على القوانين و نهب للمال العام
4 – الرشوة المحلية: تطرح الحكومة السورية عن طريق وزارتها و مؤسساتها مشاريع للتنفيذ من قبل القطاع الخاص ، وذلك عبر مناقصات يتقدم لها أشخاص من القطاع الخاص المحلي ، و التنافس على مثل هذه المناقصات يدفع بالقطاع الخاص لدفع رشوة لبعض المسؤولين الحكوميين للحصول على مثل هذه المناقصات عن طريق عقود بالتراضي أو بكشف أرقام العطاءات أو بحجب هذه المناقصات و عدم إعلانها ، و إعلام أشخاص بعينهم بهذه المناقصات و شروطها و بذلك يتقدم أشخاص محدودين لهذه المناقصات الذين يرتبطون فيما بينهم بمصالح مشتركة أو يتناوبون على هذه المناقصات ، و يترتب على مثل هذا السلوك الفاسد للمسؤول الحكومي زيادة أسعار المواد و السلع المورد و زيادة في القيمة الإجمالية للمشاريع الاقتصادية و الخدمية المتوسطة و الكبيرة ،حيث يقوم القطاع الخاص بإضافة الرشاوى و العمولات إلى إجمالي التكاليف مما يؤدي إلى تحميل الدولة نفقات إضافية تتراوح ما بين 25 – 50 % من قيمة العقود و المشاريع وفي بعضها وخاصةً في مجال المشتريات الحكومية إلى 100 % .
5 – تهريب الأموال : يقومون بعض المسؤولين الحكوميين ذوي السلوك الفاسد من المراتب المختلفة بتهريب أموالهم التي حصلوا عليها بطرق غير قانونية و غير شرعية إلى الدول المجاورة و الأجنبية لاستثمارها على شكل ودائع في بنوك تلك الدول لقاء فوائد مرتفعة أو في شراء أسهم في شركات أجنبية أو في شراء عقارات ، و يبرر كثير من المسؤولين المرتشين هذا السلوك ليس في سورية وحسب و إنما في مختلف الدول النامية و المتخلفة بأنه ضرورة تفرضها الأوضاع السياسية في الداخل و المنطقة ، و حرصهم على تأمين حياتهم بعد عزلهم أو استبعادهم من مناصبهم مستقبلاً.
أسباب الفساد و دوافعه في سورية
الفساد في سورية يتم بشكل سري ونادراً ما يتم الكشف عن العمليات أو الصفقات الفاسدة وخاصة منها تلك التي تتم في الأوساط الرسمية العليا ، أي تلك التي يقوم بها بعض من أصحاب النفوذ و المناصب العليا ( وزراء ومدراء عامون ...) فهذه الأوساط تشكل فيما بينها شبكة تقوم من خلالها بأعمال الفساد و تحيط أعمالها بالسرية التامة ونادراً ما يتم كشفها ومعرفة تفاصيلها، فغالباً ما تتم تلك الصفقات عن طريق ما يعرف في سورية بالمفاتيح ، فلان مفتاح لفلان و لفلان علاقات بوزارة ما ، أو مجلس بلدي ، أو السجلات العقارية ، أو المالية ، أو القضاء ، أو الجمارك ، أو الشرطة ، أو المصارف ، و هكذا .. ، أي أن هذه الصفقات يقوم بها وسطاء من العاملين في الدولة أو من غير العاملين في الدولة ، دون أن يكون للمسؤول ظهور شخصي كطرف مفاوض ، وهذا الأسلوب الذي يتصف بالذكاء يوفر للمسؤول الحكومي الحماية و يحول دون تعرضه للمساءلة لعدم توفر أدلة تدينه.
و لتنامي الفساد و تفشيه في سورية أسباب عديدة نوجزها في التالي:
1 – تمتع المسؤولين الحكوميين ( العموميين ) بحرية واسعة في التصرف و بقليل من الخضوع للمساءلة، فهؤلاء يستغلون مناصبهم لتحقيق مكاسب شخصية عن طريق قبول الرشاوى من شركات القطاع الخاص و المواطنين نظير حصولهم على امتيازات و استثناءات .
2 – إن الدافع وراء سلوك بعض المسؤولين الحكوميين الفاسد هو الحصول على ريع مادي ، يساعدهم على تحقيق هذا الكسب غير القانوني التدخل الحكومي و القيود و القوانين التي تضعها الحكومة ، ومن الأمثلة على ذلك ، قيود التجارة ( الرسوم الجمركية ، حصص الاستيراد والتصدي المجزي ، قائمة المسموح و الممنوع استيراده .. ) و السياسات الصناعية القائمة على المحسوبية و العلاقات الشخصية ، مثل : (الإعانات و الاستقطاعات الضريبة ) وتعدد قواعد تحديد سعر الصرف ، وخطط توزيع النقد الأجنبي ، وتوفير القروض تحت رقابة حكومية ، و احتكار حق منح التراخيص للمنشآت السياحية و الاقتصادية الإنتاجية و الخدمية .
3 – عرفت سورية تنامي هذه الظاهرة أو ما يمكن أن نسميه بالآفة في ثمانينات القرن الماضي نتيجةً للظروف التي مرت بها سورية و التآمر الخارجي و الحصار الاقتصادي الذي ضغط على الدولة ودفع بها إلى التقنيين وهو ما وفر فرصة لتنامي هذه الظاهرة ، و وفر لبعض كبار المسؤولين و وسطائهم ( مفاتيحهم ) فرصة تحقيق ثروات مالية مستغلين في ذلك مناصبهم ونفوذهم . و في تسعينات القرن الماضي التي شهدت تحولاً في السياسة الاقتصادية السورية التي مهدت إلى الانتقال من الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق و إتاحة الفرصة للقطاع الخاص للمشاركة في دفع عجلة التنمية المعطلة في هذا البلد المنهك ، ساهم هذا التحول في تنامي هذه الظاهرة بدلاً من محاصرتها ، وهو ما دفع بالرئيس الراحل حافظ الأسد إلى إعلان أو إطلاق حملة تطهير طالت المفسدين في مواقع مختلفة ، وقد تولى الرئيس الحالي الدكتور بشار الأسد هذا الملف الذي منحه جلّ وقته و جهده وكان من نتائجه - كما يعلم الجميع - عزل كثيرين من مناصبهم في مختلف المحافظات السورية و إحالتهم إلى القضاء السوري ، استمرت هذه الحملة حتى مجيء الرئيس الدكتور بشار الأسد إلى سدة الحكم الذي لم تشغله أعباء منصبه الجديد و المسؤوليات الملقاة على عاتقه عن متابعة هذا الملف الشائك الذي يشكل تحدياً حقيقياً لمسيرة الإصلاح التي طرحها الرئيس الأسد في خطاب القسم ، وبعد مضي قرابة الأربعة سنوات على توليه الحكم في سورية لا تزال هناك حاجة ماسة ووطنية لمتابعة ملف الفساد وخاصةً منه الفساد الصغير أي الفساد الإداري الذي ينغص حياة المواطن السوري بشكل يومي .
4 – و لطبيعة المجتمع السوري وبروز أهمية العلاقات الشخصية في الحياة الاجتماعية ، أثر كبير في تنامي الفساد و انتشاره في سورية ، فالمحاباة و المحسوبية و العلاقات الشخصية و علاقات القرابة هي نوع من أنواع الفساد ، و إن كانت شريحة واسعة من الشعب السوري لا تعتبر المحاباة و المحسوبية نوعاً من الفساد ، فهم يتساءلون كيف يستطيع شخص من فئة اجتماعية معينة ، متخلفة أو متأخرة أن يلحق بالمنافسين له من فئة اجتماعية أخرى إذا لم يجد عوناً له أو ظهيراً بين الذين ينتمون إلى نفس الفئة الاجتماعية أو الذين تربطهم به صلة قرابة أو نسب ؟.
5 – تم و يتم في سورية استحداث و إلغاء قوانين أو سياسات تتحقق عن طريقها مكاسب مباشرة للمسؤولين في بعض الأجهزة الحكومية .
6 – احتفاظ الدولة بثروة ( منشآت ومؤسسات خدمية و إنشائية و إنتاجية وممتلكات وموارد طبيعية ) الأمر الذي ساعد على منح بعض المسؤولين الحكوميين في مواقع مختلفة سلطات استثنائية ، وفرصاً كثيرة لالتماس الرشوة ، ونطاقاً واسعاً لنهب الثروات العامة، و عليه اعتبرت الخصخصة وسيلة من وسائل مكافحة ومحاصرة الفساد .
7 – أدى تهميش دور المجتمع المدني – الأهلي و المؤسساتي – و التنظيمات الاجتماعية المختلفة في سورية ، إلى غياب قوة الموازنة المهمة في المجتمع السوري ، الأمر الذي ساعد على تفشي هذه الظاهرة و استمرار نموها على الرغم من الجهود التي بذلت و المدعومة من قبل الرئيس بشار الأسد شخصياً.
8 – انخفاض الأجر الرسمي للموظفين الحكوميين يغري بالفساد، و الذي بدوره يمثل الحافز الرئيسي للبقاء و التمسك بالخدمة العامة في مؤسسات الدولة المختلفة.
9 – انخفاض المخاطر المترتبة على الانغماس في سلوك فاسد ، فالعقوبة المنصوص عليها في القوانين المعمول بها في سورية لا تشكل رادعاً عن ارتكاب الأعمال الفاسدة ، ناهيك عن أن ضعف الإشراف الحكومي بعيداً عن المركز ، وإضفاء الطابع الشخصي على العلاقات الاقتصادية ، والفضائح المالية ، كل ذلك يمكن أن يؤدي إلى تقويض معايـير السلوك الرسمي والخاص على حد سواء ، فمن الصعب معاقبة شخص ما على سوء التصرف إذا كان هناك تصور عام بأن الأشخاص الآخرين ، بما في ذلك بعض كبار المسؤولين الفاسدين ( وزراء سابقون، مدراء عامون و آخرون ) يفعلون الشيء نفسه ولا يتعرضون للمساءلة والخضوع للمحاكمة ، مما يعني انتشار أوسع وفترة انتعاش أطول للفساد في تلك البلدان
10 – هناك عوامل أخرى تتعلق بالإدارة ذاتها فانعدام أو ضعف الأخلاقيات الوظيفية للعمل الحكومي ، وغياب مفهوم المساءلة العامة والمسؤولية ، كلها تؤدي إلى الفساد وتمهد له .
11 - من العوامل أيضاً التي يمكن القول بأنها تهيئ أية دولة للفساد ، أن هناك أعداداً كبيرة تعمل في القطاع الحكومي والعام الذي له أثر كبير على حياة المجتمع فيما يتعلق بتوزيع السلع والخدمات ، وكلما كبر حجم القطاع العام واتسعت مجالات عمله وتخصصه ازداد الميل نحو الفساد ، وهذا يؤدي إلى بيروقراطية ذات توجهات تعنى بالتوزيع لا بالإنتاج .
12 – تغير نظرة المجتمع السوري للأشخاص الذين يقومون بأعمال الفساد من رشوة واختلاس واحتيال ونهب المال العام والخاص، من أشخاص منبوذين إلى أصحاب جاه ومكانة.
13 - أدى التغاضي عن معاقبة بعض كبار المسؤولين السابقين المتهمين بالفساد واستغلال المنصب العام إلى انهيار منظومة القيم الأخلاقية في سورية .
14– أدى هذا التغاضي وانتشار الفساد على نطاق واسع ، إلى استخفاف أفراد المجتمع بالقوانين المعمول بها في مختلف المجالات الحياتية والتنظيمية .
الآثار الاقتصادية و الاجتماعية للفساد
تعاني سورية كغيرها من دول العالم الثالث و المتحول من الآثار السلبية للفساد منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد ترتب على تنامي هذه الظاهرة آثار سلبية على مجمل الأوضاع الاقتصادية و الاجتماعية، وهي آثار تتبدى وتظهر نتائجها و انعكاساتها غير المواتية على المدى المتوسط، ويمكن تسجيل ورصد الآثار التالية:
1- يؤثر الفساد على أداء القطاعات الاقتصادية ويخلق أبعاداً اجتماعية لا يستهان بها . وقد أظهرت الأبحاث في هذا المجال أنه يضعف النمو الاقتصادي ، حيث يؤثر على استقرار وملاءة مناخ الاستثمار ويزيد من تكلفة المشاريع ويهدد نقل التقنية ، ويضعف الأثر الإيجابي لحوافز الاستثمار بالنسبة للمشاريع المحلية والأجنبية وخاصةً عندما تطلب الرشاوى من أصحاب المشاريع لتسهيل قبول مشاريعهم ، أو يطلب الموظفون المرتشون نصيباً من عائد الاستثمار . وفي هذا الصدد يعتبر الفساد ضريبة ذات طبيعة ضارة وبشكل خاص معيقة للاستثمار ، ويزيد من حدة المشكلة الطبيعة السرية للرشوة وعدم التأكد مما إذا كان الموظفون الذين يتقاضون الرشوة سينفذون دورهم في الصفقة أم لا ، ومع ازدياد الفساد يقوم المستثمرون بإضافة المدفوعات الناجمة عن الرشاوى والعمولات إلى التكاليف مما يرفع التكلفة الاجتماعية للمشروعات ويخفض العائد على الاستثمار .
2- يؤدي الفساد إلى إضعاف جودة البنية الأساسية والخدمات العامة ، ويدفع ذوي النفوس الضعيفة للسعي إلى الربح غير المشروع عن طريق الرشاوى بدلاً من المشاركة في الأنشطة الإنتاجية ، ويحد من قدرة الدولة على زيادة الإيرادات ، ويفضي إلى معدلات ضريبية متزايدة تجبى من عدد متناقص من دافعي الضرائب ، ويقلل ذلك بدوره من قدرة الدولة على توفير الخدمات العامة الأساسية ، كما يضعف من شرعية الدولة وسلطتها .
3- إضافة إلى ذلك يقوم الفساد بتغيير تركيبة عناصر الإنفاق الحكومي ، إذ يبدد بعض المسؤولون المرتشون – حفلت الصحافة بذكر عدداً منهم - موارد عامة أكثر على البنود التي يسهل ابتزاز رشاوى كبيرة منها مع الاحتفاظ بسريتها ، ويلاحظ أن الأجهزة الحكومية التي ينتشر فيها الفساد تنفق أقل على الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة ، وتتجه إلى الإنفاق بشكل أكبر على مجالات الاستثمار المفتوحة للرشوة .
4- ترفع الرشوة من تكاليف الصفقات وعدم التيقن في الاقتصاد .
5- يضعف الفساد من شرعية الدولة ، ويمهد لحدوث اضطرابات وقلاقل تتهدد الأمن والاستقرار السياسي كما حدث في اندونيسيا و نيجريا و الأرجنتين و البيرو ، و غيرها من الدول.
6- يؤثر الفساد على روح المبادرة والابتكار ويضعف الجهود لإقامة مشاريع استثمارية جديدة
7- تنطوي الرشوة على ظلم ، إذ أنها تفرض ضريبة تنازلية تكون ثقيلة الأثر بشكل خاص على التجارة والأنشطة الخدمية التي تضطلع بها المنشآت الصغيرة .
8 - يقود الفساد إلى التشكيك في فعالية القانون وفي قيم الثقة والأمانة إلى جانب تهديده للمصلحة العامة من خلال إسهامه في خلق نسق قيمي تعكسه مجموعة من العناصر الفاسدة أو ما يسمى Public bads وهو ما يؤدي إلى ترسيخ مجموعة من السلوكيات السلبية .
9- وعلى صعيد آخر يؤثر الفساد على كل من العدالة التوزيعية والفعالية الاقتصادية نظراً لارتباطه بإعادة توزيع أو تخصيص بعض السلع والخدمات ، حيث يسهم الفساد في إعادة تخصيص الثروات لصالح الأكثر قوة ممن يحتكرون السلطة .
10 - تتبدى أهم مخاطر الفساد في تغيـيرها للحوافز والدوافع السلوكية بحيث تسود نوع من الأنشطة غير الإنتاجية الساعية إلى الربح السريع إلى جانب إهدار جانب من الطاقات الإنتاجية المحتملة من خلال جهود ملاحقة ومتابعة الفساد التي تستأثر بجانب كبير من الموارد .
11- يزيد الفساد من سلطة الأثرياء ويوسع الفجوة بين الطبقات ، ويؤثر سلباً على الشريحة الفقيرة من المجتمع ويزيد من نسبة المهشمين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً .
12 – إن عبء الفساد – الخسائر المادية الناتجة عن الفساد – تتحمله الدولة ، الأمر الذي سينعكس سلباً على فعالية ومستوى الخدمات التي تقدمها الدولة ، وفي هذه الحالة غالباً ما تلجأ الدولة إلى فرض ضرائب إضافية على مواطني الدولة ، أو تقوم بقطع وإلغاء بعض البرامج المدعومة حكومياً أو تلك المخطط لها.
13 – إن التأثير الذي يتركه فساد بعض المسؤولين في سورية و غيرها من الدول يتعدى خسائر الاستثمار العام ( الاستثمارات الحكومية ) وضياع الدخل في الميزانية الحكومية . فبعض كبار المسؤولين يلجؤون إلى اختيار مشاريع وعقد صفقات مع أشخاص من القطاع الخاص و رجال الأعمال تفتقر إلى المنطقية و الجدوى الاقتصادية ليتسنى لهم تحقيق مكاسب مادية ضخمة بل وفلكية .
بعض الحلول المقترحة
يعتبر الفساد نتاجاً لتضافر مجموعة من العوامل السياسية و الاقتصادية و المؤسسية ، و عليه فإن أية حلول مقترحة يجب أن تغطي جميع هذه الجوانب ، وفيما يلي بعض الحلول المقترحة:
1 - إن أولى الخطوات التي تقود إلى مكافحة و محاصرة الفساد هي فتح ملفات الفساد القديمة المحفوظة وتلك التي تم التغاضي عنها وتجاهلها ، و استرجاع المال العام المنهوب و المستولى عليه بطرق غير قانونية و غير شرعية إلى خزينة الدولة ، وما لم يتم هذا الأمر فإن أية جهود مهما عظمت لن يكتب لها النجاح و لن تمكن من القضاء على الفساد في هذا البلد . ومن الوطنية أيضاً المطالبة بالأموال التي هُربت خارجاً و بالأشخاص الفاسدين و تقديمهم للمحاكمة ، هذا الأمر لم يعد بالعسير بعد التوقيع على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد التي أعدتها الأمم المتحدة في 2 / 10 / 2003 وهي أول اتفاقية دولية لمكافحة الفساد،وكما هون معلوم فإن الاتفاقية تلزم الدول التي توقع عليها بتجريم ومقاضاة أعمال الرشوة و الاختلاس و غسل الأموال و إساءة استعمال السلطة ، كما تلزم حكومات الدول الأعضاء بسن قوانين تحظر أنواعاً من الفساد مثل وضع إجراءات تجبر السياسيين و الأحزاب السياسية على الإعلان بصراحة عن كيفية تمويل حملاتهم الانتخابية . وتقول الأمم المتحدة إنها تريد اتخاذ إجراءات ضد الزعماء المستبدين الذين يُفقرون دولهم عبر استيلائهم على ثرواتها و إيداع تلك الأموال في أماكن آمنة في الخارج ، ويتوقع أن تحدث الاتفاقية اختراقاً في مكافحة الفساد بعد أن وقعت عليها نحو 95 دولة من بينها الولايات المتحدة و دول الاتحاد الأوروبي .
2 - توعية المواطنين بالآثار السلبية للفساد على عملية التنمية بمختلف جوانبها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية عبر وسائل الإعلام المختلفة المرئية و المسموعة و المكتوبة .
3 – التشهير برموز الفساد وخاصةً أصحاب النفوذ و السلطة و المناصب الرفيعة.
4 – إنشاء هيئة مشتركة حكومية شعبية تابعة في مرجعيتها لمكتب رئيس الدولة لتجنب حدوث تدخلات وضغوطات من أطراف مختلفة قد تكون وزارية ، وظيفتها مكافحة الفساد في المؤسسات الحكومية المختلفة ويمكن في هذا المجال الاستفادة من تجارب دول عديدة في هذا المجال مثل كوريا و ماليزيا وسنغافورة .
5 – تعريف المواطنين من خلال اللوحات التعريفية و الإرشادية في كل مؤسسة حكومية مدنية أو أمنية وخاصة أقسام الشرطة و الجوازات و مفارز الحدود و الجمارك و مجالس المدن و البلديات ومصالح الضرائب و المصالح العقارية و البريد .... ، بما لهم من حقوق وما يترتب عليهم من واجبات منعاً للابتزاز الذي يتعرض له المواطن، وقد يكون للجهود التي تبذلها الحكومة في بلورة تجربة الحكومة الالكترونية إلى حيز الوجود حلاً لبعض ما يعانيه المواطن في الدوائر الرسمية المختلفة.
6 – تبسيط القوانين وجعلها أكثر شفافية ووضوحاً و إزالة الغموض الذي يفسح المجال لتأويل وتفسير القوانين حسب مقتضيات مصالح فئة دون أخرى.
7- تشديد العقوبة على من يثبت تلقيه لرشوة أو ابتز مواطناً أو شركة مقابل تقديم خدمات أو منح ترخيص أو امتياز مخالفاً بذلك القوانين و اللوائح المعمول بها الناظمة لعمل المؤسسات الحكومية المختلفة في تعاملها مع الغير ، على أن ترقى هذه العقوبة إلى عقوبات الخيانة العظمى أو عقوبة الاتجار بالمخدرات ، كون ما يترتب على الفساد من آثار سلبية مدمرة لا تقل خطورةً عن الآثار المترتبة على خيانة الوطن أو الاتجار بالمخدرات ، إن توقع العقوبة القاسية غالباً ما يردع الفساد .
8- تفعيل دور البرلمانات و المجالس المحلية و البلدية و مؤسسات المجتمع المدني في مجال مكافحة الفساد .
9- زيادة دخول المواطنين إلى درجة تكفل لهم حياة كريمة ، ويمكن توفير اعتمادات ومستحقات هذه الزيادة من خلال ترشيد الإنفاق الحكومي وخاصة منه التفاخري ومن الوفر المالي الذي كان عرضة للنهب و الاختلاس وهي مبالغ ضخمة ، ومن حصيلة ما سيتم استرداده من الأموال العامة التي تعرضت للنهب و السرقة من قبل موظفي الصف الأول و الثاني وحتى الثالث على نحو مطالبة نيجيريا و أندونيسيا و غيرها بأموال زعمائها و مسؤوليها السابقين ، كذلك يمكن تأمين مستحقات هذه الزيادة من إصلاح نظام الضرائب و الحد من ظاهرة التهرب الضريبي و المتأخرات ومن خلال الحد من الهدر في المؤسسات الحكومية .
10 – العمل على إيجاد صيغة قانونية تنص صراحة على منح عفواً من العقوبة ومكافأة مالية لمن يبلغ عن حدوث صفقة فاسدة أو أعمال محظورة في أي مؤسسة حكومية ، و لعله من المفيد هنا طرح هذا الأمر في مجلس الشعب ليصبح قانوناً يحمي كل من يقوم بالإبلاغ عن عقد صفقة فاسدة .
الخاتمة
تعاني سورية كغيرها من الدول النامية من تفشي ظاهرة الفساد ، فقد تركت هذه الظاهرة آثارها السلبية على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، بل يمكن القول أنه أصبح للفساد في بيئة حاضنة وراعية وداعمة تكرس هذا الوضع ليتسنى لها القدرة على جني المكاسب المادية على حساب بناء مجتمع متقدم قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية .
وعودة إلى ما ذكرناه عن أشكال الفساد وأسبابه ودوافعه نلمس بوضوح حجم الانعكاسات السلبية للفساد على المسار التنموي في سورية ،فالفساد يضعف النمو الاقتصادي حيث يؤثر على استقرار وملاءة مناخ الاستثمار ويزيد من تكلفة المشاريع ويهدد نقل التقنية ، ويضعف الأثر الإيجابي لحوافز الاستثمار بالنسبة للمشاريع المحلية والأجنبية ، ويؤثر على كل من العدالة التوزيعية والفعالية الاقتصادية نظراً لارتباطه بإعادة توزيع أو تخصيص بعض السلع والخدمات ، حيث يسهم الفساد في إعادة تخصيص الثروات لصالح الأكثر قوة ممن يحتكرون السلطة . كما أن الفساد يعمل ضد الديمقراطية لأنه يزيد من سلطة ونفوذ الأثرياء ويوسع الفجوة بين الطبقات ، كما أنه يؤذي الشريحة الفقيرة من المجتمع ويزيد من نسبة المهمشين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً إلى جانب تشويهه للسياسات العامة وتفتيته للموارد ، ويضعف الفساد من شرعية الدولة ويتهدد الاستقرار السياسي والأمني ، مما يستدعي العمل على إيجاد حلول ناجعة لمحاصرة هذه الظاهرة التي تستنزف موارد هامة في تلك الدول يمكن أن توجه إلى الاستثمار في قطاعات مختلفة تعزز مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
إن مكافحة الفساد باعتباره أحد معوقات التنمية يتطلب توفر إرادة سياسية من قبل صانعي القرار الراغبين في الإصلاح ومنح هامش من الحرية لمؤسسات المجتمع المدني للقيام بدور فاعل ومؤثر ومساند للجهود التي تبذلها الحكومات والرامية إلى محاربة الفساد بمختلف أشكاله ومظاهره ، كما يتطلب تهيئة المناخ المناسب لجذب الاستثمارات الخارجية التي ترى في الفساد عبئاً إضافياً ، خاصة وأن تدفق الاستثمارات الخارجية على الدول النامية ومن ضمنها سورية يساهم في دفع عجلة التنمية وفي كسر احتكار التكنولوجيا والتقنية الحديثة المادية وغير المادية كالمهارات الإدارية والتنظيمية .
إن استمرار تنامي الفساد ستكون له انعكاسات غير مواتية على اقتصاديات هذه الدول ، وخاصة بعد التحول الكبير الذي طرأ على مواقف المجتمع الدولي من الفساد بمختلف صوره وأشكاله ، فالدول التي لا تعمل على محاربة ومحاصرة الفساد و تحد من تناميه سيكون مصيرها التهميش في الاقتصاد العالمي ، وربما يوفر الفساد الفرصة لأطراف خارجية للتدخل في سياسات الداخلية و الخارجية لهذه الدول ، و سيحرم هذه الدول من المساعدات والقروض الخارجية ، وسيعيق تنفيذ برامج الإصلاح السياسي و الاقتصادي والاجتماعي .
منقول عن زياد عربية ابن علي العربية نت
نقله للمنتدى عمر الفاروق