سلطة الألقاب
الوحدة
الخميس 6 / 7 / 2006
حسن ابراهيم أحمد
يشغلني موضوع الالقاب منذ زمن , وقد أشرت إلى بعض جوانبه في كتابي « الثقافة المتوترة » , إلا أن ما ذكرني به أخيراً اشارة طيبة للزميل « عاطف ابرهيم صقر » في زاويته الرشيقة في الوحدة . والموضوع يحتاج إلى دراسة نفسية واجتماعية عميقة تتصل بجذور
الثقافة العربية .
سيد القبيلة ورئيسها مثلاً , لايخاطب باسمه , بل بلقبه « الشيخ » ومتى قلت الشيخ انصرف الذهن إلى المقصود دون غيره , ولا يجوز أن ينادى باسمه مجرداً من اللقب أو الصفه , ولا من جملة الدعاء « طال عمرك » مثلاً .
وهنا تمارس على السامعين سلطة معنوية حاسمه ونابعة من مكانة هذا السيد , تأخذ أبعادها من اللقب , حيث تجعل الآخرين يستحضرون في أذهانهم معاني التبجيل والاحترام المسبق .
اكتسبت هذه الميزة أبعاداً إضافية في الاسلام , حيث داخلتها شحنة من القداسة التي كان يتمتع بها النبي الكريم بما له من مكانة جليلة , فلقبه أو صفته « الرسول أو النبي » تعطي لاسم محمد البعد القدسي , ثم إننا لا نذكر الاسم دون أن نسبقه باللقب ونتبعه بعبارة التبجيل « صلى الله عليه وسلم » . ويعرف المسلمون ما لهذه العباره وما لهذا اللقب من وقع كبير في نفوسهم لم يلبث أن امتد إلى الصحابة الذين كانت لهم ألقابهم « الصحابي » وعبارات التبجيل مثل « رضي الله عنه » . وامتاز الخلفاء الراشدون بالقاب جليلة وكبيرة عن المسلمين مثل « الخليفة , أمير المؤمنين » . وكلها مستمدة من مناخ ديني مرتبط بالتعالي ومكانته ودوره في اسقاط سلطة الأرضي الدنيوي .
وإذا كانت هذه الالقاب قد التصقت بهذه الشخصيات الدينية الرفيعة كالنبي والصحابة وبعض التابعين والصالحين مقرونة بكل الاحترام والاعجاب والاجلال لشموخهم , فإنها عندما استمرت وتزايدت عند الأجيال التالية ونالها من يستحقها ومن لا يستحقها , بدأت تفقد الأثر النفسي لكن دون أن تفقد سلطتها في مصادرة النقد والسلب الذي يشعر به الناس تجاه بعض من استخدموا هذه الألقاب واستزادوا منها , حتى أصبح الاسم لا يذكر إذا كان صاحبه في موقع ما , إلا مسبوقاً بجملة من الألقاب ومتبوعاً بالمزيد من عبارات التبجيل الكاذب منها والصادق , حتى أصبحت القاب مثل « بيضة الدين , حجة الاسلام , شيخ الاسلام , عمود الدين » من الأمور العادية , وأصبح لكل خليفة لقبه المستمد من المعاني الخلقية والدينية الرفيعة « الهادي , المهدي , الرشيد , المعتصم ...»
دون النظر في مضمون اللقب وانطباقه على صفات الملقب .
في مرحلة لاحقة لم يكن يذكر اسم شخص مميز المكانة إلا مسبوقاً بصفة دينية أو لقب مثل « نور الدين - فخر الدين - عماد الدين ..» وبتتابع العصور أصبح لكل عصر ألقابه وعبارات التبجيل المستخدمة لشخصياته , بعضها عربي وبعضها من لغة مستخدميها النافذين مثل « باشا , بيك , اغا , أتابك ..» والتي لا يزال بعضها مستمراً حتى يومنا هذا . مع الاشارة إلى بعض عبارات التبجيل التي تلحق بالموتى مثل « قدّسه الله , قدس سره , المغفور له ...» .
هذه الألقاب التي تمارس دورها في المصادرة والغاء الرأي والنقد , لم تقتصر على شخصيات السلف , بل لا تزال مستمرة في المعاصرين , فمن غير الجائز أن يذكر اسم ملك عربي دون لفظ « جلالة ..» ومعروف ماللفظ الجلالة من هيبة ووقار ومدى ما يمارسه من الغاء ونفي للرأي المعارض أو السلبي مما يبقيه خارج سلطة النقد وتبقى سلطته فوق المحاسبة مهما كانت سيئه . والحال ذاته يذكر عندما يذكر لقب الأمير مسبوقاً بلفظ « سمو » والرؤساء والمسؤولون مسبوقة ب¯ « فخامة , سيادة , معالي , دولة ..» , والضباط أيضاً لا يجوز أن يخاطبوا من مرؤوسيهم دون الاشعار بتصاغر المرؤوس أمام الرئيس , مما يبقي الرئيس فوق النقد والعيب , ويعطيه سلطة النظرة الدونية تجاه من هم أقل دوراً منه , وبالتالي تعطيه سلطة التحكم بمن حوله في العمل وخارج العمل , وذلك لأنه يستخدم سلطة ألقابه وتأثير عبارات التبجيل والتسلط . وبعض المسؤولين . لا يأتي اسمه مسبوقاً بلقب واحد بل بسلسلة من الألقاب والفاظ التبجيل وهي تزداد كلما ازداد شعور المسؤول أن مكانته مهزوزة ودوره موضع شك وأداؤه ضعيف , ما يدفعه إلى التعويض بمزيد من الالقاب يطلقها عليه اتباعه ليسهل عليهم استغلاله وابتزازه .
لسادة الحقل الديني عبارات والقاب لا تزال تستخدم مثل « مولانا , سيدنا , شيخنا , غبطة , نيافة ...» ودخلت الالقاب حقل العلم والفكر فأصبحت الألقاب العلمية تستمد من الشهادات , وألقاب الدور والمكانة « مفكر , باحث , ناقد ..» منتشرة تساهم في تعبيد الطريق أمام هؤلاء ليقولوا الغث والثمين دون أن يعابوا ¯
في عالم الفن حدث ولا حرج , إذ يحتاج الأمر إلى موسوعة لوصف ما يجري في هذا الحقل من تكاذب وخداع فمن لا يسمعه أقرب الناس إليه من المطربين , قد يلقب نفسه بأعلى ألقاب الفن الرفيع « سيد الغناء , مطرب الرجولة , سيدة الشاشة ...» ومن غنى في عرس مثلاً أصبح مطرب الأمه حتى أن احدهم وصف نفسه في لقاء على فضائية بأنه مطرب عالمي , لأنه غنى خارج بلده . والقراء على دراية أكثر بهذه الألقاب التي تمارس سلطتها الالزامية علينا ساخرة من عقولنا وأذواقنا دون أن يكون لنا دور في اقرار هذه السلطة أو التصديق عليها , إنها سلطة الصوت المفروض من الاذاعات والفضائيات وحتى في سيارات النقل العام دون أذن . ولا حول ولا قوة إلا بالله .