محرك الحياة ...
--------------------------------------------------------------------------------
لماذا شجيرات كرمنا صفراء؟ وعنبها هزيل وقليل؟
في طفولتي كان هذا السؤال المر المحير يطرح نفسه علي بحدة كلما ذهبت الى كرمنا في «حيارة الدييبات» لقطف العنب. كنت آخذ معي سلة من القصب أو حقيبة قماشية على أمل أن أملأها بالعناقيد، لكن الموسم بأكمله لم يكن في بعض الأحيان ليملأ الوعاء. ما كان يزيد من شعوري بالحيرة والمرارة هو أن كرم عمي أحمد سلمان، ابو حسن، الملاصق لكرمنا كان يبدو يانعاً ومثقلاً بالعناقيد، وقد كان عمي، رحمه الله، يلاحظ مرارتي وارتباكي، عندما كان يتصادف وجوده في كرمه، لذا كان يناديني عبر الجدار الحجري الفاصل بين الكرمين، فيأخذ الوعاء الذي معي، ثم يعيده لي بعد أن يملأه بالعناقيد الصفراء التي امتلأت حباتها بحلاوة الشمس!
مرة تجرأت وسألت عمي عن سر الفرق بين كرمنا المجاور لكرمه؟ فابتسم لي بطريقته الرحمانية وعيناه تلمعان كما لو أن نبعاً من الطيبة يتدفق فيهما: « عين عمك.. الأرض متل المرآة، كما تريها تريك. إن أعطيتها أعطتك، وإن ضحكت عليها ضحكت عليك».
كان ذلك أول درس كبير يفرض نفسه على عالمي الصغير، وقد ظل ذلك الدرس حياً معي دائماً، ففي ضوئه اكتشفت مبكراً أن التعب هو محرك الحياة.
بعيداً عن التواضع الزائف، الذي أعتقد أنه أسوأ من الغرور، أعترف أن عدداً من أبناء جيلي كانوا أكثر مني موهبة، لكنهم، لأسباب مختلفة، اختاروا الطرق السهلة، فلم يتعبوا في خدمة مواهبهم، وبالتالي لم يوفروا لها القوة التي تمكنها من اختراق سماكات الواقع وإعلان نفسها في الضوء.
لقد كان أجدادنا يحترمون التعب الى حد كبير، فهذا الشاعر البحريني ابن المقرب العيوني يجد النقيض في نقيضه:
«وفي تعبِ الأعضاءِ للقلبِ راحةٌ ولا تصلحُ الأعضاءُ والقلبُ رازحُ»
أما الشاعر الأندلسي ابن حمديس فيجد راحة النفس في تعب الجسد:
«وطفنا في البلاد طواف قومٍ يريح نفوسهم تعبُ الجسوم»
ويوافقه علي الجارم في ذلك فيعيد طرح الفكرة بصياغة أوضح:
«تعبُ الحياة يجيءُ من لذاتها ولذيذها يجنى من الإجهاد»
وقد سمع الأحنف رجلا يقول: «ما أبالي أمدحت أم هجيت! فقال: «استرحت من حيث تعب الكرام!» قبل بضع سنوات قرأت حكاية مجهولة المؤلف تعبر عن أهمية التعب بشكل مدهش، لذا أسمح لنفسي أن أترجمها لكم بتصرف.
ذات صباح، خرج المدرس العجوز الذي توفيت زوجته قبل عامين، ليشرب القهوة على شرفة منزله الريفي الذي تحيط به الأشجار، وبينما كان يرشف القهوة ويتأمل الشمس وهي تصعد قبة السماء، لاحظ حركة في الشرنقة التي تتدلى من غصن شجرة قرب الشرفة. اقترب الرجل من الشرنقة فرأى فيها فراشة تحاول الخروج من ثقب صغير أسفلها.
كانت الشرنقة تنفتح ببطء شديد وكانت الفراشة تحاول، بجهد بالغ، توسيع ذلك الثقب للخروج منه. بعد مدة سكنت الفراشة وكفت عن الحركة، فظن الرجل انها قد أعلنت عجزها واستسلمت لقدرها.
شعر الرجل العجوز بالعطف على الفراشة فقرر ان يساعدها لتحرير نفسها، دخل الى البيت، وأحضر مقصاً صغيراً يستخدمه لتشذيب شواربه، نظف المقص، ثم اقترب من الشرنقة وقام بقصها مبدياً حرصه الشديد على عدم إيذاء الفراشة. عندما انتهى الرجل من قص الشرنقة سقطت الفراشة منها بسهولة ووقعت على الأرض. راقب الرجل الفراشة وهي تتحرك ببطء، منتظراً ان تطير تعبيراً عن امتنانها لمساعدته، لكن الفراشة ظلت تمشي على الأرض بسبب جسمها النحيل وأجنحتها الضعيفة الذابلة.
طول اليومين التاليين ظل الرجل يراقب الفراشة معتقداً أن أجنحتها ستقوى وأن جسمها سينمو لتصبح قادرة على الطيران، لكنه عندما جاء يبحث عنها في اليوم الثالث اكتشف ان النمل لم يترك منها سوى أجنحتها.
لم يكن ذلك الرجل العجوز يعلم أن معاناة الفراشة أثناء خروجها من الشرنقة تشكل جزءاً جوهرياً من عملية خلقها قبل بدء مشوارها في الحياة، فضيق الشرنقة يرغم الفراشة على بذل جهد كبير للخروج منها، وأثناء عملية الخروج الشاقة يقوم جسم الفراشة بتغذية أجنحتها بسوائل معينة تساعدها على النمو بحيث تستطيع الطيران فور خروجها من الشرنقة.
بعض الآباء يريدون أن يكبر أبناؤهم دون أية معاناة، وهم لا يعلمون ان بعض الضربات ضرورية للظهر كي يقوى!
hmyousef@scs-net.org