إذا كان المستقبل قي حياة الانسان عددا من سنوات الحصاد المصحوبة بالفشل أو النجاح أو بهما معا , فإن تاريخ الأمة ميراث الماضي وعطاءات الحاضر بسلبياته وايجابياته من أجل صناعة المستقبل .
قد يبدو مستغربا أن يثار السؤال حاليا عن فكرة القانون عما إذا كان ضروريا فعلا , أو أن السؤال له أهمية كبيرة لا يمكن ولايجوز لنا أن نعتبره أمرا مسلما به , ذلك لأنه ينبع من الشك القلق والمحير ليس فقط في أن القانون يمكن أن يستغنى عنه أو قد يكون غير ضروري لخلق مجتمع عادل . بل أنه أيضا قد يكون شرا في ذاته وبالتالي فهو عقبة خطرة في سبيل تحقيق طبيعة الانسان الاجتماعية .
ومهما بد ت وجهة النظر هذه غريبة لدى أولئك الذين يعيشون في مجتمع ديمقراطي منظم . ومهما يكن من نقائض في هذا المجتمع وعيوب فإن من المفيد أن نتذكر بأن سريان القانون ضروري أو يجب أن يكون ضروريا للانسان في مجتمع منظم , ولابد للاشارة إلى انه يوجد أفراد وجماعات يشعرون باستياء عام من كل سلطة ويستجيبون لمشاعر الاستياء هذه بالتنفيس عنها بمختلف الاعمال ضد النظام والقانون .
إن دور القانون كظاهرة اجتماعية وكذلك وظيفية من حيث هو جزء من لحمة الضبط الاجتماعي وعلاقته بمفهوم أو تصور المجتمع العادل . فعندما نقول عن فكرة أو مفهوم له طابعا ( أيديولوجيا ) فإننا نعني بذلك انه يشكل جزء من نظرتنا إلى العالم , أي إلى علاقتنا بالعالم والمجتمع بمختلف مظاهره . والقانون يشترك بالتأكيد في هذا الطابع الأيديولوجي , حين نجزم بأن القانون إما ضروري للانسان أو غير ضروري له فإننا لا نحاول فقط ذكر حقيقة فزيائية بسيطة , كقولنا أن الانسان لا يستطيع أن يعيش بدون طعام وماء , وإنما نحن نكون بصدد عملية تقويم . هو أن طبيعة الانسان من شأنها أن تمكنه من أن يصل إلى وضع بشري حقيقي حول فكرة وجود القانون أو عدمه .
ومن هنا نجد أن القانون هو الرادع الذي لاغنى عنه في كبح جماح قوى الشر والفوضى , وأن الفوضى وغياب القانون هو الخطاء الأكبر الذي يجب تفاديه وخصوصا في عصر الاصلاح الاقتصادي والاداري والاجتماعي , فلما يصل النظام القانوني على مرحلة التطور وهي المرحلة التي يكون فيها القانون قابلا للتحليل الفقهي , فإننا سنجد أن مفاهيم الحقوق والواجبات تشكل النقطة المحورية في تركيب الجهاز القانوني و الذي بواستطه يستطيع القضاء أن يؤدي دوره و وظائفه . إن المعيار القانوني بحد ذاته يبدو أنه يحمل معه النتيجة و الاثر لأن أولئك الأفراد مرتبطون إلى حد ما أو أنهم يخضعون إلى نوع ما من الالتزام .
إن فكرة كون المرء ملزما بالعمل ( أو بالامتناع ) على نحو معين هي المعبر عنها في اصطلاح الواجب على الرغم من أن الواجبات التي يفرضها القانون يجب أن تميز بعناية عن الواجبات الناجمة عن مصادر أخرى كالأخلاق والتقاليد الاجتماعية . بقي مع ذلك حقيقة اجتماعية تحظى ببعض الأهمية وهي أن القانون والأخلاق يستخدمان نفس المصطلحات بشأن الواجب والالتزام , وأنهما بعملهماهذا يأخذان بالاعتبار ليس فقط المظهر الخارجي للقانون والأخلاقي معا في فرض الأحكام على ألئك الأشخاص الذين يخضعون لها بطريقة أو بأخرى ولسبب أو لأخر بل أيضا على المزهر الداخلي الحيوي و ذلك إلى المدى الذي يحس به هؤلاء الأشخاص أنهم مرتبطون بتلك الواجبات ,إن هذا من وجهة نظر الواجبات القانونية هي أن المواطن يجب أن يشعر بأنه ملتزم للإذعان ليس فقط بطريقة رسمية لأنه ضمن نطاق اختصاص القانون وليس فقط لأنه يخشى العقاب نتيجة للإخلال بواجبه بل لأن سلطان القانون وحكم القانون نفسه هو جزء هام من الأخلاق الاجتماعية للمجتمع الذي يعيش فيه .
إن الرابطة بين الواجب والقانون والأخلاق يؤكدها ويشد عليها أيضا مصطلح (الحقوق) فكلمة (حق) تنطوي على مدلول أخلاقي وتشديد أخلاقي يحملان بين طياتهما معنى قويا فالقانون والأخلاق هما الوظيفة الحيوية للعدل . فالعدل مرتبط بالأصول القانونية و المفروض أن يطبق القانون باليسوي في جميع الحالات وعلى جميع الأشخاص الذين يتناولهم دون خوف أو محاباة ودون تفريق بين غني وفقير أو قوي أو ضعيف أو صاحب نفوذ والقانون الذي يطبق على الجميع بدون تمييز على هذا النحو هو تجسيد للعدل وفقا للحاجات الأخلاقية والاجتماعية للمجتمع.فضلا عن ذلك فإن معاملة الناس بالمساواة يمكن أن تتضمن ترتيبات خاصة لصالح الفئات الأفقر في المجتمع لتمكينها من نيل العدل على قدر المساواة مع الذين يملكون المزايا الطبيعية أو الاجتماعية أو الاقتصادية التي تلقي بثقلها لصالحهم
إن مطلب العدالة هو مطلب رئيسي من مطالب الضمير ومسعى رئيسي من مساعي التخلق وبناء الفضيلة و الخير , نعم إن العدالة لا تحدد بالقانون وحده, فهناك عدالة تجاوز القانون وتسمو عليه ويبقى القانون أداتها وسبيلا إلى بلوغها وحسب.
وعلى ضوء العدالة تفسر القوانين المرتبطة بالوجدان الذي يستنبطها عبر أنماط السلوك الذي يوحي بها أو يستخلصها من الأوضاع الاجتماعية التي ينظمها المجتمع لإقامة نظام اجتماعي يتصف بخط النزاهة والإنصاف .
وأخيرا فالعدالة تستهدف نظام معايشة المواطنين من حيث أن بعضهم يختلف عن بعض ومن حيث أن بعضهم ينبغي أن يماثل بعض . وهذا الاعتراف بالآخرين قد يساء النظر إليه حين تحرف العدالة عن موضها و تشوه حقيقة القواعد والقوانين ويتخذ الآخرون بمثابة فردية مستقلة ومغلقة ويعاملون معاملة المطايا لإرضاء نفوس لا تحمل بين طياتها الأخلاق والوجدان والضمير.
منقول عن محمد غياث سحلول : ( كلنا شركاء) 10/1/2005