القضية لم تعد الأرض بل السلطة...
الفلسطينيون ينتحرون...!
نبيه البرجي
لن نبحث طويلاً عن عنوان لهذا المقال: الفلسطينيون ينتحرون...! هذه الساعة يظهر إسماعيل هنية على شاشة التلفزيون ويعلن استقالة حكومته، ويدعو صاحب الفخامة محمود عباس، الذي طالما حوّله ياسر عرفات، إلى تمثال زجاجي، إلى تشكيل الحكومة التي يريد والتي يقبل بها الأميركيون، والإسرائيليون، والعرب، بطبيعة الحال، والأوروبيون الذين يفاخرون بتراثهم الثوري والديموقراطي... هذا لأنه إذا لم يفعل هنية ذلك، فإن الفلسطينيين سيقضون جوعاً، أو أنهم سيظلون في ذلك الصراع الدموي حتى يرحل آخر واحد منهم (إما إلى العالم الآخر أو إلى أي بلد آخر) عن فلسطين. المعادلة أصبحت هكذا: الفلسطينيون يهجّرون الفلسطينيين... هذا قبل أن تقوم دولتهم، وقبل أن تصبح للسلطة نكهة ما. الآن، السلطة شكلية، بل وفولكلورية، ومع ذلك لم تجد كتائب الأقصى، والطائرات الإسرائيلية تصنع كل يوم غرنيكا فلسطينية في غزة، أفضل من أن تضرم النار في مبنى الحكومة في رام الله. أمام العالم، هؤلاء هم الفلسطينيون. القضية ليست الأرض بل السلطة. والمثير للذهول، أن وسائل الإعلام الغربية لا ترى أبداً ما يفعله الإسرائيليون. لا تظهر صور الأطفال قطعاً على الشاشات كي لا تثير المشاعر. التركيز هو على حرب الفلسطينيين ضد الفلسطينيين...
سوق عكاظ أم برج بابل
في بيروت، قال لنا النائب العربي في الكنيست عزمي بشارة إن هذا الذي يحدث لا يمكن أن يكون عفوياً، ولا يعكس فقط تشكيلنا القبلي الذي ما زال يسيطر على كل منطقة اللاوعي (والوعي) فينا، بل إنه مبرمج بدقة، وفي إطار استراتيجية بعيدة المدى. لماذا يصر الفلسطينيون على أن يلعبوا دور الدمى التي تغتسل، ليل نهار، بالدم! كل ما في الأمر أن الطائرات الإسرائيلية تكمل المشهد، لا تصنع المشهد. على مدى سنوات عقدت الاجتماعات تلو الاجتماعات من أجل الوحدة الفلسطينية. لم يتفقوا مرة واحدة، بل أن القادة كانوا يثيرون الملل إن لم يكن التقزز بسبب تلك اللغة الدائرية التي يستخدمونها. الثرثرة الهائلة على شاشات التلفزيون. شيء ما من سوق عكاظ كان لا بد أن يتحول إلى برج بابل. أي فلسطين يريدها الفلسطينيون.. كثيرون يرون أن حركة «حماس» تطرح أفكاراً تعود إلى زمن الانحطاط. تعود؟ أليس هذا أسوأ أزمنة الانحطاط؟ ولكن أليس هذا الاستنفار الإيديولوجي ضرورياً في مواجهة العقل الإسرائيلي الذي ما برح يرقص، دموياً، حول شخصية يوشع بن نون، فيما يرى كثيرون في حركة «فتح» تلك الحالة العجيبة. مهراجات يمتلئون بالمال، وآخرون يتسكعون حولهم، أما أهل الأرض فليس أمامهم سوى الفتات، بما في ذلك الفتات الديبلوماسي... واقعياً، وصلت «حماس» إلى الطريق المسدود. أي حكومة تصل إلى السلطة لكي تنفذ برنامجها. منذ اللحظة الأولى وقعت بين فكي الحصار، مع أن الكثيرين حذروها من إغواء السلطة، لكن الكثيرين أيضاً دفعوا الفلسطينيين إلى لعبة الدم لغايات جيوبوليتيكية معروفة. إذاً، الفلسطينيون يستخدمون وقوداً. هم قابلون، ويهزجون بالبنادق أمام هذا المبنى أو ذاك. هكذا يتم تحرير فلسطين من الفلسطينيين...
السلام المعظم
لا أحد مستعد للإفادة من تجربة هوشي منه، مع أن ياسر عبد ربه كان أستاذاً بارعاً في الثرثرة الإيديولوجية ودون أن يفهم من الزعم الفييتنامي إلا كونه ماركسياً، ولا أحد مستعد للإفادة حتى من التجربة الإسرائيلية، إذ أن دافيد بن غوريون عرف كيف يضع مناحيم بيغن جانباً، ويوحد معظم الجماعات الصهيونية بمجرد أن قامت الدولة. لم يتبادل القذائف مع موشي شاريت بل الرسائل. لم يبتهج برجال الحرس وهم يقدمون له التحية (السلام المعظم كما في حالة عرفات)، بل أنه أوفد شمعون بيريس، وكان مديراً عاماً لوزارة الدفاع، إلى باريس للقاء صديقه الفرنسي غي موليه من أجل بناء مفاعل ديمونا... الإسرائيليون يركضون وراء اليورانيوم. يحصلون عليه. الفلسطينيون يركضون وراء الخبز. قلّما يحصلون عليه. لا منطق يحكم الحالة الفلسطينية. محمود عباس لا يتصرف كرئيس سلطة وطنية، بل كفريق يحرض ضد حكومة هنية، ويتفق مع عواصم عربية معنية على آلية لإسقاط شرعية هذه الحكومة. هل هذا هو الحل؟ الأوضاع تتدهور. ذلك العراق الآخر. ولعل الغريب هو أن كميات الأسلحة التي تصل إلى الضفة الغربية وقطاع غزة تثير الهلع من الآتي. لا أحد أخذ بتلك التحذيرات التي كانت تقول إن الفلسطينيين يقتربون، بخطى حثيثة، من السكين!
كل الوقت لتضييع الوقت
يقول عزمي بشارة «إن الرئاسة تتصرف كأن ليس لديها المزيد من الوقت للنقاش، والحكومة تتعامل مع الرئاسة كأن لديها كل الوقت لتضييع الوقت». وما يستشف من هذا أن الفلسطينيين يفتقدون الرجال القادرين على إدارة المرحلة الراهنة التي تضج بالاحتمالات وبالحساسيات... رجال يتكلمون من فوهات البنادق. كيف وأين تعمل الرؤوس أيضاً: فساد هائل هنا، وانغلاق هائل هناك، فيما يعمل ايهود أولمرت على إضرام النار أكثر فأكثر، إذ أن تنفيذ خطة الانطواء يحتاج إلى مستوى معين من الوهن، أو التآكل الفلسطيني. هذا ما يحدث، بصورة منهجية، ما دام محمود عباس لم يجد وسيلة للتصرف كرجل دولة، وكمنقذ، إلا بطرح وثيقة السجناء على الاستفتاء. ماذا لو أن نصف الشعب الفلسطيني امتنع عن التصويت، ناهيك عن أن الوثيقة تغفل، كلياً، فلسطينيي الشتات المعنيين، كغيرهم، بالوضع الفلسطيني العام... الذي يظهر على الأرض هو أن إسرائيل سيدة اللعبة في الوقت الحاضر. الدعم الأميركي غير محدود، فيما الرئيس جورج دبليو بوش يتعثر، استراتيجياً، في العراق، وحتى عندما زار بغداد أخيراً لـ «التهنئة» بقتل أبي مصعب الزرقاوي وباستكمال تشكيل الحكومة، ظهر مذعوراً حقاً. هذه هي الفرصة الذهبية أمام الدولة العبرية كي تذهب، بعيداً، في تنفيذ خططها. ليس مستبعداً أبداً أن تندلع حرب المائة عام بين الفلسطينيين. القادة، باستثناء القلة، هم الذين «صنعوا» الفلسطينيين هكذا: أن يستريحوا من قتال الإسرائيليين وينصرفوا لقتال أبناء قومهم...
ديبلوماسية القاذفات
لنتذكر فقط أن وزير الدفاع هو عمير بيريتس، رئيس حزب العمال بالشاربين الشرقيين وبالخلفية النقابية لا العسكرية، وأن رئيس هيئة الأركان هو دان حالوتس الذي يقول بـ «ديبلوماسية القاذفات». الأفضل كثيراً للإسرائيليين، وبالإيقاع التوراتي إياه، أن يفاوضوا الموتى أو على الأقل الأشلاء، هذا لأن مطالب الإسرائيليين لا تحصى، خصوصاً إذا كانوا من ذلك النوع الذي لا يؤخذ سريعاً بجلسات الزوايا حيث الحديث حول كأس من الجعة أو النبيذ، عن المشاريع المشتركة، والصفقات التي تطاول هذه الدولة العربية أو تلك. في كل الأحوال، الفلسطينيون خاسرون، أَربح محمود عباس الذي حاول الانتفاض على ياسر عرفات لأنه عمل على الانتقاص من صلاحياته، أم ربح إسماعيل هنية الذي لن يستطيع أن يفعل شيئاً، لا بصيحات الاستغاثة، أو التحدي، ولا باستراتيجية الحد الأدنى، مع خسارة الورقة الأكثر فاعلية، وهي تنفيذ عمليات داخل الخط الأخضر لأن تل أبيب أبلغته، عبر جهة عربية، بأن أي خطوة من هذا القبيل تعني أن القاذفات الإسرائيلية ستحوّل حكومة هنية إلى أنقاض، وهذا يدخل في حسابات إيهود أولمرت منذ البداية: الإجهاز الكامل على قيادات «حماس»، بعدما قضت، بتلك الصورة الهمجية، على مؤسسها، وهو ذاهب أو آت من صلاة الفجر، على كرسيه المتحرك.
الضمير المفتوح
استطراداً، الفلسطينيون لم يعودوا موجودين بالنسبة إلى تل أبيب، أكان على رأس الحكومة إسماعيل هنية أم أحمد قريع أم صائب عريقات. حركة «فتح» في أزمة وحركة «حماس» في أزمة. التعبير يكون عادة في الشارع. بندقية ضد بندقية، ربما لتبرير ذلك الكلام التلفزيوني الفارغ، حتى ليقال إن الفصائل تنتج من الناطقين والمتحدثين باسمها أكثر مما ينتج العالم العربي من المغنين والمغنيات. إذاً، خطة الانطواء التي طويت موقتاً فقط، لكي يحفظ الأميركيون ماء الوجه قليلاً، ولكي لا يظهر الأوروبيون وكأنهم تخلوا عن شعار «الضمير المفتوح»، فالإسرائيليون الذين طوّروا أسلوب التعاطي العسكري مع الفلسطينيين (الغارات اليومية أو شبه اليومية) يطرحون أمام العالم المشهد الفلسطيني: قبائل تقاتل القبائل على طريقة داحس والغبراء، ومن دون استبعاد انتقال عدوى الانتحار إلى فلسطينيي الشتات ما دامت البندقية هي السبيل الفضائحي الوحيد للتعبير عن الموقف، ودون أن يكون أحد من الطرفين منزهاً: الأول الغارق في الفساد، وفي الشهوة إلى السلطة، والثاني الذي يعتبر أنه الناطق باسم أهل السماء وأهل الأرض، وأنه بالمواقف المغلقة (مع الشبق إلى السلطة أيضاً) يستطيع أن يفرض واقعه على واقع الآخرين.. كل الأبواب موصدة. أبواب الدم وحدها مشرّعة!.