سوف نتعاطى في البحث عن القيمة القانونية لمبدأ حق الدفاع من خلال رؤية الفقه للقيمة القانونية للمبادئ العامة بشكل عام، نتعرض في إطارها لقيمة مبدأ حق الدفاع باعتباره موضوع بحثنا فتكون لأحكامه ذات الصلة المطبقة على المبادئ العامة بشكل عام . هذه القيمة القانونية للمبادئ العامة للقانون تعتبر من أهم المسائل المتصلة بنظرية المبادئ العامة للقانون بوصفها مصدراً من المصادر المشروعية في القانون الإداري . ونقصد بالقيمة القانونية بيان موقع المبادئ العامة بين مختلف المصادر المتدرجة للقانون ابتداء من الدستور فالتشريع العادي فاللائحة فالعرف الإداري . الحقيقة ان هذه المسألة لم تكن تثير مشكلة في الفقه والقضاء الإداري قبل صدور الدستور الفرنسي الحالي لعام 1958 اذ كان الرأي السائد ان للمبادئ العامة قيمة التشريع العادي، والذي يظهر مضمونه في عرض خصائص المبادئ العامة للقانون وبالذات ان لها قيمة القاعدة الوضعية .
أما بعد عام 1958 انتهى عهد الاستقرار وباتت القيمة القانونية للمبادئ العامة تثير مشكلة حقيقية بين أوساط الفقه نتيجة العوامل والظروف القانونية التي طرأت في النظام القانوني العام الفرنسي . وقد تشعبت الآراء لترتقي معها قيمة المبادئ العامة للقانون الى مرتبة القواعد الدستورية يؤيدها جانب هام من الفقه الفرنسي . ولكن هذا الرأي ليس محل إجماع الفقه الحديث إذ هناك جانب لا بأس به يعترضون على تلك القيمة الدستورية ولا يسلمون بها بل يعترفون بموازاة قيمتها للتشريع العادي . هذا عدا عن رأي ثالث ينزل في المبادئ العامة لمستوى أقـل من التشريع ولكن يعطيهـا قيمـة أعلى من اللائحة .
ومن ثم سوف نقسم هذا المبحث الى ثلاثة مطالب على الشكل التالي :
المطلب الأول : الاتجاه الفقهي نحو الاعتراف بالقيمة الدستورية لمبدأ حق الدفاع المطلب الثاني : مبدأ حق الدفاع له قيمة التشريع العادي المطلب الثالث : مناقشة رأي الأستاذ Chapus ورأينا المختار
المطلب الأول : الاتجاه الفقهي نحو الاعتراف بالقيمة الدستورية لمبدأ حق الدفاع
ابتداء من عام 1958 اتجهت الغالبية من فقهاء القانون العام ومن ضمنهم بعض مفوضي الحكومة الفرنسية الى تأكيد القيمة الدستورية للمبادئ العامة للقانون، حيث باتت المبادئ العامة تأخذ مركزاً موازياً الى جانب القواعد الدستورية في قمة هرم القواعد القانونية . ففي نظر هذا الفريق تتمتع هذه المبادئ العامة بالقيمة الدستورية نتيجة أساسها وأصلها من إعلان حقوق الإنسان سنة 1789 ومقدمة دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة . أما بقية المبادئ العامة التي لم تذكرها هذه الوثائق صراحة مثل مبدأ حق الدفاع تتكون قيمتها الدستورية من انها تمثل "نتيجة للمبادئ الأولى"(1) .
ومن مفوضي الحكومـة أيضاً نذكر المستشار (2)Braibant لـه مقالـة هامـة في مجلـة Etudes et Documents du conseil d`état يدافع فيها عن القيمة الدستورية للمبادئ العامة للقانون . يبقى لنا استعراض الأسباب التي دفعت الفقهاء للارتقاء بالمبادئ العامة الى المرتبة الدستورية، وهي كما يلي : 1 – القيمة الدستورية ضرورية لرقابة اللوائح المستقلة والقرارات بقانون : يعود الفقه في رقي المبادئ العامة لمرتبة الدستور انها "ضرورة" لا بد منها حتى نضمن رقابة موضوعية فعّالة من مجلس الدولة على كل من اللوائح المستقلة التي نص عليها الدستور في المادة 37 منه والقرارات بقانون التي وردت في المادة 38 منه(3). ومن التجديدات التي أتى بها دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة، انعكاس الصورة في إصدار التشريعات ما بين البرلمان والحكومة فالمادة 34 نصت على تحديد موضوعات معينة محجوزة للبرلمان في حين أطلق المشرع الدستوري في المادة 37 يد الحكومة في إصدار اللوائح خارج إطار موضوعات المادة 34 والتي تسمى اللوائح المستقلة . وبالتالي خارج إطار الموضوعات التي حددها الدستور للبرلمان يكون اختصاص السلطة اللائحية، مما يشكل سداً منيعاً وخطيراً أمام القانون . وتضيف المادة 37 الفقرة الثانية انه يجوز للحكومة تعديل القوانين التي سبق صدورها في هذه الموضوعات بمجرد مراسيم أي بمجرد لائحة تصدر عن السلطة التنفيذية .
أمام هذا الواقع، والذي قد يحمل في طياته تماد يد الحكومة وتسلطها في إصدار اللوائح، كان لا بد من إيجاد حلول تحد من فلات اللوائح وإيجاد رقابة موضوعية على محتوى مضمون اللوائح المستقلة يستند عليها قاضي الإبطال . هنا رأى هذا الفريق من الفقه في المبادئ العامة للقانون الأساس الحقيقي لرقابة قضائية موضوعية وفعالة، ولكن كيف يتم ذلك وما زالت المبادئ العامة في مستوى القانون فالحكومة تستطيع في لوائحها المستقلة ان تخالف او تعدل هذه المبادئ، مثـل تسلطهـا دستورياً مع أي قـانون سابق في ميدانها(1). الحل الوحيد والضروري بنظر هذا الجانب من الفقه، هو الارتقاء بالمبادئ العامة الى قمة هرم القاعدة القانونية بما يكفل تحقيق الرقابة القضائية الفعالة على اللوائح المستقلة . في نفس المعنى، فان الارتقاء بالمبادئ العامة للقانون الى مستوى الدستور يكفل أيضاً رقابة القرارات بقوانين التي نصت عليها المادة 38 من دستور 1958 والتي تجيز للحكومة إصدارها في شكل مراسيم موقعة من رئيس الجمهورية بناء على تفويض تشريعي من البرلمان .
2 – صياغة حكم (2)Syndicat général des ingénieurs-conseils ما يركز عليه الفقه قاطبة في هذا الحكم موقف مجلس الدولة الذي أعلن فيه رقابته لكل سلطة لائحية على أساس المبادئ العامة للقانون . فاللائحة محل الطعن تماثل تماماً في مركزها القانوني اللوائح المستقلة التي نصت عليها المادة 37 من دستور 1958 حيث كان لرئيس الوزراء وصف المشرع بالنسبة للمستعمرات الفرنسية إذ يعطيه الدستور وبموجب مراسيم تنظيم المسائل التي هي في العاصمة من اختصاص البرلمان .
من عبارات هذا الحكـم استخلص الفقـه فقرة وجد في عبارتها تأييداً من جانب مجلس الدولة للقيمة الدستورية الجديدة للمبادئ العامة للقانون، حيث ألزم رئيس مجلس الوزراء في ممارسته لسلطته اللائحية في المستعمرات الفرنسية احترام "المبادئ العامة للقانون التي، نظراً لأنها تستخلص على وجه الخصوص من مقدمة الدستور، وتفرض احترامها على كل سلطة لائحية حتى مع غياب النصوص التشريعية" . فبنظر هذا الجانب من الفقه تؤكد هذه العبارة القيمة الدستورية للمبادئ العامة للقانون لأنها تستخلص على وجه الخصوص من مقدمة دستور الجمهورية الفرنسة الرابعة ( 1946 ) .
ثم جاء المستشار (1)Braibant في معرض دفاعه عن القيمة الدستورية لجميع المبادئ العامة للقانون، محاولاً تدعيم هذا الاتجاه بما تم عرضه سابقاً، بالإضافة الى دلالة أخرى عن الحكم المشار، وهي ان رئيس الوزراء في ما يتعلق بالمستعمرات له سلطة التشريع كما يملكها البرلمان بالنسبة للعاصمة وبالتالي فان إخضاع اللوائح التي يتخذها للمبادئ العامة للقانون يعني تمتع هذه المبادئ بقيمة دستورية تشكل قمة هرم القواعد القانونية . ويفرق الدكتور فؤاد العطار(2) في تحديد طبيعة المبادئ العامة من حيث مدى قوتها الإلزامية، فهي لها القيمة الدستورية إذا كانت المبادئ العامة تستمد كيانها من مجموعة القواعد التي تحكم النصوص الدستورية، ومن ثم لا يجوز للسلطة التشريعية ان تقيد هذه المبادئ عن طريق قانون . ويدافع الدكتور العطار عن موقفه في ما يتعلق بالأحكام الدستورية الخاصة بالحقوق والواجبات العامة انها ترد على سبيل المثال لا الحصر الأمر الذي يستتبع جواز القياس عليها والاستنتاج منها، وهنا يضرب مثال المادة السابعة من الدستور المؤقت التي تقول : "الموطنون لدى القانون سواء وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس او الأصل او اللغة او الدين او العقيدة" وكذلك المادة العاشرة التي تنص على ان الحريات العامة مكفولة في حدود القانون .
ويستنتج من أحكام هذين النصين، أنها تحكم غالبية المبادئ العامة التي قررها القضاء سواء في فرنسا او الجمهورية العربية المتحدة ومنها مبدأ كفالة حقوق الدفاع الذي يمنع معاقبة شخص إلا بعد ان تسمع دعواه . اما المبادئ الأخرى التي تستمد كيانها من مجموعة القواعد التشريعية التي تحكم المجتمع في زمن معين وجب اعتبارها متماثلة من حيث القوة الإلزامية للقانون العادي، فلا تعدل إلا بنص من الشارع . 3 - أحكام المجلس الدستوري الفرنسي يعرض الفقه أحكام المجلس الدستوري الحديثة، لصالح القيمة الدستورية للمبادئ العامة او بعضها .
فالمجلس الدستوري وفي معرض ممارسته مهامه في رقابة مشروعات بعض القوانين، استند على تلك المبادئ العامة المستمدة من إعلان حقوق الإنسان ومقدمة دستور 1946 بالإضافة الى قوانين الجمهورية (تلك التي تتضمن المبادئ الأساسية)، فمن المعروف ان مقدمة دستور 1958 اعتبرت هذه النصوص الدستورية جزءاً لا يتجزأ منها . اما بعد دستور 1958 ومنذ عام 1971 نجد العديد من الأحكام الصادرة عن المجلس الدستوري أعلن بموجبها القيمة الدستورية للمبادئ العامة للقانون، نذكر منها : - حكم 16 juillet 1971 أعلن فيه المجلس الدستوري القيمة الدستورية لمبدأ حرية تأسيس الجمعيات استناداً الى القانون الجمهوري الخاص بتكوين الجمعيات(1). - حكم 23 juillet 1975 الذي أبرز القيمة الدستورية لمبدأ المساواة أمام القضاء متفرعاً من المبدأ الأصلي وهو مبدأ المساواة أمام القانون ، وفيه استند المجلس الدستوري الى المادة 6 من إعلان حقوق الإنسان(2). - حكم 15 juillet 1976 تناول فيه إعطاء القيمة الدستورية لمبدأ المساواة في معاملة الموظفين(3). - حكم صادر في 23 يناير 1987 أعلن فيه المجلس الدستوري القيمة الدستورية لمبدأ حق الدفاع(4). ما يهمنا من هذه الأحكام مناقشة الحكم الأخير موضوع بحثنا : بعد إقرار البرلمان بناء على اقتراح الكثير من النواب قانون يحيل الى القضاء العادي المنازعة في قرارات مجلس المنافسة، وقبل إصداره أحاله أكثر من ستين نائب الى المجلس الدستوري ناسبين اليه مخالفة سواء مبدأ الفصل بين السلطات الذي تؤكده المادة 16 من إعلان حقوق الإنسان او نصوص القانون العضوي المتعلق بالتنظيم القضائي . ما يهمنا في هذا الحكم الطعن في عدم دستورية نقل الاختصاص ما بين مجلس المنافسة ومحكمة استئناف باريس . وفي معرض تحليله يجد المجلس الدستوري ان نقل الاختصاص في القضية لم يكن غير دستوري، إلا أنه قرر عدم دستورية النص المعروض عليه لمخالفته حقوق الدفاع . فان اعتبر القاضي الإداري مبدأ حقوق الدفاع مبدأ عاماً للقانون، فقد اعتبره المجلس الدستوري مبدأ أساسياً تقره قوانين الجمهورية، وله على هذا الأساس قيمته الدستورية وبالتالي فلا يستطيع مجلس المنافسة ان يعطي قراره بدون احترام حقوق الدفاع، ويكون الطعن في قراراته بإجراء اختصامي . ولكن المجلس الدستوري قدر ان احترام حقوق الدفاع يوجب – بسبب حجم الجزاءات التي يمكن لمجلس المنافسة توقيعها – وجود إجراء لوقف تنفيذ قرارات مجلس المنافسة .
وبينما يوجد هذا الإجراء أمام مجلس الدولة بمقتضى نص المادة 48 من أمر 31 تموز 1945 فهو غير موجود أمام محكمة استئناف باريس في الحالة التي يعالجها القانون محل بحث القاضي الدستوري . ولهذا السبب قضى بعدم دستورية القانون، وبعد ذلك جعل قانون 6 juillet 1987 الإختصاص لمحكمة استئناف باريس مع إنشاء إجراء وقف تنفيذ قرارات مجلس المنافسة أمامها .
هذه هي الأسباب التي دفعت الفقه للقول بدستورية المبادئ العامة للقانون، ولكن ما زال جانب آخر من الفقه يعتبر المبادئ العامة للقانون في مستوى التشريع العادي وهو ما سنظهره في المطلب التالي . المطلب الثاني : مبدأ حق الدفاع له قيمة التشريع العادي القيمة التشريعية للمبادئ العامة يتنازعها فريقان . يؤكد الفريق الأول القيمة التشريعية لجميع المبادئ العامة للقانون، في حين يميز الفريق الثاني بانفصال المبادئ العامة الى مجموعتين مجموعة ذات قيمة دستورية بالنظر لمصدرها ومجموعة أخرى ذات قيمة تشريعية تمثل المبادئ التي لا تجد أساسا لها في مقدمة الدستور(1). نذكر من الفريق الثاني الأستاذVedel والأستاذ Rivero والأستاذ Morange، وينتهي هذا الاتجاه لإعطاء القيمة الدستورية لعدد من المبادئ العامة المستمدة من إعلان حقوق الإنسان ومقدمة دستور 1946، مما أدى الى الاعتراف بانفصال المبادئ العامة الى مجموعتين الأولى لها قيمة دستورية بالنظر لمصدرها والمجموعة الأخرى تبقى ذات قيمة تشريعية تمثل المبادئ التي لا تجد لها أساساً في مقدمة الدستور والنصوص التي أحالت اليها .
ويدخل ضمن الفئة الثانية من المبادئ العامة مبدأ احترام حقوق الدفاع إذ لا يمكن الادعاء بأن له أساس من نص دستوري محدد وبالتالي يبقى مبدأ حق الدفاع في قيمة التشريع . إلا أنـه لم يخـل هذا الاتجـاه من النقد خصوصـاً ما أشار اليه بعض الفقه(2) : "ومما يضفي على المشكلة قدراً هاماً من الخطورة ان بعض الفقهاء المدافعين عن القيمة الدستورية للمبادئ العامة لا يعترفون بتلك القيمة لجميع تلك المبادئ بل لقطاع منها، أي تلك المبادئ المستمدة من النصوص الدستورية التي أحالت اليها مقدمة دستور 1958 . ومن ثم تنعكس المشكلة على الطبيعة الذاتية للمبادئ العامة للقانون كمجموعة قانونية متميزة ومستقلة بين مصادر المشروعية، إذ تنقسم هذه المجموعة الى طائفتين او مجموعتين مما يهدد النظرية ذاتها ودرجة أصالتها" . وقد أبرز الفقه المؤيد للقيمة التشريعية لمبدأ حق الدفاع تفنيد ونقد الاتجاه المنادي بالقيمة الدستورية للمبادئ العامة بشكل عام (او لجزء منها) محاولاً إثبات ان القيمة الدستورية لا تقوم على أسس علمية مقنعة، فالفقه هنا يترك المبادئ العامة على قيمتها التقليدية كما كان مجتمعاً عليها قبل صدور دستور 1958 وهي قيمتها المعادلة للتشريع . كما ان فئة لابأس بها من مفوضي الحكومة لا زالت تنادي بالقيمة التشريعية لمبدأ حق الدفاع، نذكر منهم : - الرئيس (1)Bouffandeau يعتبر ان المبادئ العامة هي قواعد قانونية غير مكتوبة، لها قيمة التشريع، ومن ثم فهي تلزم السلطة اللائحية والسلطة الإدارية، طالما لم يخالفها نص قانوني وضعي . Les principes généraux sont : Règles de droit non écrit, ayant valeur législative, et qui par suite s`imposent au pouvoir réglementaire et a l`autorité administrative tant qu`elle n`ont pas été contredites par une disposition de loi positive . مفوض الحكومة (2)Chenot بيّن في حكم Guiesse ان المبادئ العامة للقانون لها قيمة التشريع التي تتطبق على كافة أقطار الأرض الفرنسية . A ces règles vous reconnaissez, sur toute l`étendue du territoire francais, Force législative . مفوض الحكومة (3)Letourneur يرى في حكم Société des concerts du conservatoire ان "الاجتهاد، يرى منذ فترة طويلة الى جانب النصوص القانونية المكتوبة، مبادئ عليا، ومعرفتها كقواعد قانونية ضرورية ليكمل الصرح القانوني . أول ما يتذرع فيه هذا الجانب من الفقه ما تشير اليه أحكام مجلس الدولة بعبارات صريحة لا تحمل الجدل ان "المبادئ العامة للقانون ذات القيمة التشريعية"(4)، اذ كان القضاء الإداري في تطبيقه للمبادئ العامة يكتفي بالقول انها من المبادئ العامة الواجبة التطبيق حتى بدون نص . Principe général qui s`impose même en l`absence de texte دون أن يعين القيمة القانونية للمبادئ العامة . لكنه في حكم Syndicat des propriétaires des forets de Chênes-lièges d`Algérie، أكد مجلس الدولة الفرنسي القيمة التشريعية للمبادئ العامة . Que la disposition législative précitée, autorise le gouvernement a déroge tant a des dispositions de lois expresses, qu`a des principes généraux du droit ayant valeur législative. واستخدم العبارة ذاتها بعد صدور دستور 1958، إذ يقرر صراحة بعد استخلاص وإنشاء المبدأ العام ان "من حق المشرع وحده ان يحدد او يوسع او يضيق من نطاق المبدأ"(1). فالأمر واضح كما يقول الدكتور محمد رفعت على ان "مادة المبدأ العام تصبح من اختصاص المشرع وحده الذي له تحديد او توسيع او تضييق المبدأ، والحكمان يرتبان هذا الأمر كنتيجة مباشرة على تقرير المبدأ العام . فهذا لا يعني شيئـاً آخـر سوى ان المبـادئ لهـا قيمـة معادلة للتشريع العادي"(2). ومع إلقاء نظرة على الحكم الصادر تاريخ 16 juin 1969عن المجلس الدستوري يؤكد فيه مواقف مجلس الدولة، ويؤكد اختصاص المشرع وحده بالاستثناء على المبدأ القانوني العام . ويكون ذلك بنظر بعض الفقه إعطاء القيمة التشريعية لا الدستورية للمبادئ العامة للقانون(3). الوضع في مصر الوضع في مصر كما هو الحال في فرنسا، تعتبر المبادئ العامة من المصادر غير المكتوبة أي لا تستند الى نص مكتوب، إنما يستخلصها القاضي الإداري من مجموعة القواعد التي تحكـم المجتمع في بلد وزمن معين ويجبر الإدارة على احترامها عن طريق إبطال كل عمل صادر منها مخالف لهذه المبادئ . فكما يقول الدكتور فؤاد العطار "تجد المبادئ العامة حدها الطبيعي في روح التشريع العام الذي ينتظم المجتمع ممثلاً في ظروفه السياسية والاقتصادية والاجتماعية بل والفكرية والروحية"(1).
وبالعودة الى تحديد القيمة القانونية للمبادئ العامة وبالذات مبدأ احترام حقوق الدفاع نجد غالبية الفقه يؤيد القيمة التشريعية للمبادئ العامة كافة، نذكر منهم : - الأستاذ الدكتور محمد فؤاد المهنا(2) يقول ان "لهذه المبادئ القانونية قوة إلزامية بالنسبة للإدارة ما لم تتعارض مع نص تشريعي صريح . فاذا أصدرت السلطة الإدارية قراراً تنظيمياً او فردياً مخالفاً لمبدأ قانوني عام أقرته أحكام القضاء، وقع قراراها باطلاً لمخالفته لمبدأ الشرعية بمعنى ان اللائحة او القرار الفردي يعتبر في هذه الحالة مخالفاً للقانون" . وهو يعتي ضمناً ان المبادئ العامة لها قيمة معادلة للقانون . - اما الدكتور مصطفى أبو زيد فهمي(3) يقول : "ان تكرار هذه المبادئ العامة، وتأكيدها بواسطة القضاء يجعل من العسير انتهاكها، حتى من المشرع نفسه" . قد نفهم من قوله ان "من العسير انتهاكها حتى من المشرع نفسه" علو المبدأ العام على القانون لكن قوله كان في سبيل تأكيد القيمة التشريعية للمبادئ العامة . فهو وفي موضع آخر يقول "الأمر يتعلق بنظرية قضائية جريئة كل الجرأة لأنها تؤدي الى خلق قواعد لها قوة القواعد التشريعية ذاتها وتوضع بغير وساطة المشرع، وهذه النظرية حديثة نسبياً في قضاء مجلس الدولة الفرنسي" .
ويقول الدكتور محمد رفعت(4) "بعد ان أثبتنا او حاولنا ان نثبت – فيما سبق – ان القيمـة الدستوريـة للمبادئ العامـة لا تستند على أسس سلمية مقنعة، فان هذه المبادئ تظل كما كانت دائماً ذات قيمة معادلة للقانون او للتشريع العادي . والواقع انه كان من الممكن ان نكتفي بالعرض السابق الذي فندنا فيه الاعتبارات التي قدمها الاتجاه المدافع عن القيمة الدستورية، لأنه طالما ان تلك القيمة المعادلة للدستور لم يعد لها أساس قانوني قوي يسندها فالمبادئ العامة تكون لها قيمتها التقليدية التي كان الفقه مجمعاً عليها من قبل وهي قيمتها المعادلة للتشريع العادي" .
يتبين لنا ما سبق ان المبادئ العامة لها قيمة التشريع في مصر . بالرغم من أهمية إعطاء القيمة الدستورية للمبادئ العامة للقانون ومنها مبدأ حق الدفاع، لأن تحديد قيمة المبادئ العامة في مصر لها أهميتها الخاصة، اذ يمكن لأطراف الدعوى اذا تبين لهم تعارض نص تشريعي مطلوب تطبيقه في الدعوى مع مبدأ عام دستوري يمكنهم الدفع بعدم الدستورية، عندها يؤجل القاضي النظر في الدعوى اذا تبين له جدية الدفع ثم يحيل صاحب الشان الى المحكمة الدستورية العليا .
القيمة القانونية لمبدأ احترام حقوق الدفاع في لبنان ان الآراء التي سبق تداولها سواء في فرنسا او في مصر، قد تجد تطبيقاً لها في لبنان، فالمبادئ العامة يستخلصها القاضي الإداري اللبناني من مجموعة القواعد التي تحكم المجتمع خلال فترة زمنية معينة، ويجبر الإدارة على احترامها عن طريق إبطال كل عمل صادر منها مخالف لهذه المبادئ . فالقانون الإداري اللبناني هو قانون غير مقنن على خلاف القوانين الأخرى كقانون الموجبات والعقود او القانون التجاري وهنا يقول الدكتور يوسف سعد الله الخوري(1) "عندما يقال القانون الإداري لا يعني إطلاقا التشريع الصادر من مجلس النواب بمدلوله الضيق بل يجب الأخذ بالمدلول الواسع العام الذي يفهم منه ان المقصود هو الشرع الإداري او الحق الإداري" . ففقه القانون الإداري في لبنان لم يبحث القيمة القانونية للمبادئ العامة، ولكن قد يعود ذلك الى ان الموضوع لا يحتـاج الى مناقشة القيمة القانونية للمبادئ العامة خصوصاً وان الدستور اللبناني يتشابه مع دستور الجمهورية الفرنسية الثالثة، وكما أوضحنا سابقاً فقد كان الفقه الى جانب مجلس الدولة الفرنسي يعطي للمبادئ العامة قيمة التشريع . بأي حال سوف نبحث القيمة القانونية للمبادئ العامة مع أحكام مجلس شورى الدولة . يكرر مجلس شورى الدولة في قرارات عديدة عند تحديد القيمة القانونية للمبادئ العامة عبارة واحدة، وهي "إذا تضمنت الأحكام القانونية نصوصاً صريحة تخالف المبادئ العامة للقانون يلجأ القاضي في هذا الحال الى التقليل بقدر الإمكان من أهمية مدى هذه النصوص تأميناً لتفوق المبدأ العام على الأحكام القانونية، باعتبار ان تلك النصوص تتضمن أحكامـاً استثنائيـة يجب تطبيقهـا بصورة حصرية وضيقة"(1). قد تحمل العبارة في ظاهرها بعض الغموض يوقع الشك حول القيمة القانونيـة للمبادئ العامـة، فعبارة "تفوق المبدأ العـام على الأحكـام القانونية" توحي لنا للوهلة الأولى ان المبدأ العام يتمتع بقيمة قانونية أعلى من القانون، ولكن العبارة الأخيرة "باعتبار ان تلك النصوص تتضمن أحكاماً استثنائية يجب تطبيقها بصورة حصرية وضيقة" (exceptio est strictissimae interprétations) تفك هذا اللغط وتؤكد القيمة التشريعية للمبادئ العامة، باعتبار ان تفسير هذه العبارة يجب ان يكون بترابط ألفاظها ويكون المقصود منها تطبيق قاعد "الخاص يقيد العام ويعتبر استثناء عليه"، وبالتالي يكون القانون المخالف للمبدأ العام استثناء عليه . لذا يكون التفسير الوحيد هو استمرار تطبيق المبادئ العامة باستثناء أحكام النصوص وهي تعتبر خاصة, وهنا تبقى المبادئ العامة في قيمة القانون، وليس في قيمة أعلى منها . وما يؤكد لنا ان هذه القيمة، هو استبعاد مبدأ حق الدفاع بقانون، فالمادة 11 من القانون رقم 54/65 تاريخ 2/10/1965 الذي يتضمن أحكام خـاصة تتعلق بصرف الموظفين وإحالتهم على التقـاعد، تنـص على انه "لا تقبل التدابير المتخذة بالاستناد الى أحكام هذا القانون أي طريق من طرق المراجعة بما في ذلك الطعن بسبب تجاوز حد السلطة" . هذا النص أساساً يستبعد مبدأ الطعن لتجاوز حدّ السلطة كمبدأ عام للقانون ولكنه في صلبه يستبعد من ناحية أخرى مبدأ حق الدفاع .
سوف نعود لاحقاً لتفسير هذه المادة ولكن المهم هنا انه تم استبعاد المبدأ العام بقانون، ويكون هذا القانون هو حالة استثنائية مؤقتة يجب تطبيقها بصورة حصرية وضيقة يستبعد تطبيق مبدأ الطعن لتجاوز حدّ السلطة ومبدأ حق الدفاع .
ننتهي مما سبق ان المبادئ العامة في لبنان ومنها مبدأ حق الدفاع، ليست في قيمة أعلى من القانون، ولا في قيمة أدنى منه، بل هي في قيمة موازية للقانون .
المطلب الثالث : مناقشة رأي الأستاذ Chapus ورأينا المختار
أولاً : مناقشة رأي الأستاذ chapus
يبين الأستاذ Chapus مستوى المبادئ العامة في مقالتين(1) مهمتين يرفض فيهما القيمة الدستورية للمبادئ العامة، كما يضع هذه المبادئ في مستوى أقل من التشريع البرلماني infra-legislatif ولكن أعلى من المرسوم (اللائحة) supra-decretal .
فقد بدا له في آن واحد ان "الأنظمة المستقلة تخضع للمبادئ العامة بدون ان يكون من الضروري الاعتراف لها بقيمة دستورية، وغير صحيح فلا يعود للقاضي الإداري تحديد مستوى القواعد المفروضة عليه" . وفرضية المؤلف ان بإمكان القاضي الإداري تحديد مدى القواعد التي يطبقهـا وليس قيمتهـا، فهو يبين القواعد المفروضـة عليه والقواعد التي يستطيع - لأنها مفروضة عليه – ممارسة رقابته استناداً اليهـا . غير ان رقابتـه (القـاضي الإداري) لا يمكن ان تذهب الى أبعد من هذا المسار ولا يمكن ان تفرض مذهباً بالنسبة الى الطبيعة الجوهرية للقواعد موضوع البحث . وقد ساق المؤلف البرهان على أسس قانونية قوية يعود الـى دليلين أساسين :
يرتكز الدليل الأول ان "للقواعد الاجتهادية قيمة فوق لائحية" مهما كانت القيمة التي قد يعلقها القاضي على هذه القاعدة او تلك في نظام لا يقبل رقابة دستورية القوانين من قبل القاضي العادي، فان هذا النظام خاضع للقانون وفي كل مرة يتعارض نص تشريعي صراحة مع مقتضيات مبدأ عام تكون الأولوية والغلبة لهذا النص التشريعي .
أما الدليل الثاني هو ان قيمة القاعدة القانونية تتحدد تبعاً لقيمة السلطة التي أصدرتها، وان القاضي الإداري يخضع للقانون serviteur de lois وهو يراقب اللوائح في أقوى مظاهرها (المراسيم اللائحية) فتكون المبادئ العامة التي يصدرها مجلس الدولة لها قيمة معادلة لمصدرها القضائي أي أدنى من القانون وأعلى من اللائحة . فالقواعد التي يطرحها القاضي هي أسمى من البادرة الأرفع للسلطان التنظيمي أي المراسيم اللائحية، وعليه لا تحتاج المبادئ العامة لصفات كي تكون له قيمة تشريعية، قيمة فوق تشريعية، او خارج القيمة الدستورية لكي تعتبر مفروضة على الإدارة : يكفي ان تكون لهذه المبادئ العامة التي يتحقق منها القاضي او يطرحها قيمة فوق لائحية لكي تبدو فوراً ضرورية للإدارة، التي حتى في المجالات حيث يكون لها سلطان مستقل، يجب ان تخضع لهذه المبادئ العامة .
ويبين الأستاذ Chapus في العلاقة بين اجتهادات المجلس الدستوري ومجلس الدولة انها نسبية ومزدوجة : فالأولى في انه يرفض إعطاء وجود للمبادئ العامة في ذاتها لأنها لا يمكن ان تكون موجودة إلا بالنسبة الى نشاط القاضي، وتكون العلاقة مزدوجة في ان مجلس الدولة والمجلس الدستوري، كنتيجة، لكل منهما نظام للمبادئ العامة. أي انه يصدر المجلس الدستوري ومجلس الدولة قرارات تتموضع في مستويات مختلفة . فلقرارات أحدهما قيمة "دون دستورية" و "فوق التشريعية" ولقرارات الآخر قيمة "دون التشريعية" و "فوق لائحية" . وهذه الهرمية في المستويين بالنسبة الى القرارات لا تناظرها هرمية بين القضاءين : فلا يستطيع المجلس الدستوري _ الا في الحدود الضيّقة لحجية الشيء المحكوم فيه التي لها دورها في الاتجاهين _ ان يقرض على مجلس الدولة حلوله .
لذا يمكن ربط هذه الوجهة في سلسلة من النتائج :
1 – في وسع مجلس الدولة ان يعطي كأساس لهذا المعيار او ذاك مبدأ عام للقانون استناداً على طبيعة اجتهادية، في حين يعطي المجلس الدستوري المعيار نفسه ولكن استناداً الى نص دستوري او فحوى نص دستوري .
2 – الفرضية المتصورة على القاضي الإداري ان يعتبر للمبدأ العام المفروض على الإدارة قيمة فوق لائحية وأنه يستسلم أمام قانون يناقض هذا المبدأ، في حين ان بإمكان المجلس الدستوري ان يعترف لمعيار ما قيمة دستورية ولآخر قيمة تشريعية .
3 – لا يستطيع المجلس الدستوري ان يفرض على مجلس الدولة حلوله .
4 – يكون للقاضي الإداري في حدود صلاحيته قبول وجود مبادئ عامة في مستوى أدنى تستطيع الأنظمة الشذوذ عنها . وليس لهذه المبادئ العامة قيمة أسمى من قيمة الأنظمة وتقوم في المجال التنظيمي بوظيفة مكملة . الحقيقة ان وجهة نظر المؤلف حملت في طياتها العديد من الثغرات كشفت عيوبها وعدم كماليتها ويبن لنا الدكتور محمد رفعت(1) هذه العيوب لاعتبارات هامة هي التالية : أول ما أخذ على الأستاذ Chapus استخلاص قيمة المبادئ العامة من مستوى القاضي الإداري في تدرج مصادر القانون لأنه "لا يجوز القول ان قيمة المبادئ العامة تستمد من مستوى القاضي بين السلطات الرسمية التي تنشئ رسمياً قواعد القانون" خصوصاً ان النظام القانوني الفرنسي وكذلك المصري لا يأخذ رسمياً بنظام السوابق القضائية .
من جهتنا نرى ان رفض طرح الأستاذ Chapus تمليه ظروف واقعية، إذ ليس بوسعنا فرض قيمة المبدأ العام بالاستناد الى مركز القاضي الإداري، فهو بدوره لجأ الى وضع نظرية المبادئ العامة لتلافي أي فراغ تشريعي تفرضه ظروف القانون الإداري، التي تعاني نقص في النصوص التشريعية، كما أنه لم يكشف هذه المبادئ من العدم، بل استند في استخلاصها الى روح نص قانوني او مجموعة نصوص قانونية او طبيعة الأشياء او المعتقدات الدفينة التي تستقر في ضمير الأمة او بطريق التعميم ابتداء من نصوص جزئية وهو الأسلوب الأمثل، إذ من خلاله استخلص مجلس الدولة مبدأ حق الدفاع من نصوص جزئية كان هذا المبدأ مصدراً لها .
كما أخذ على رأي الأستاذ chapus إعطاء قيمة قانونية موحدة للمبادئ العامة للقانون والقواعد القضائية العادية وهو يجاوز فيه حقيقة أحكام مجلس الدولة التي تفرق بينهما في القيمة .
وأخيراً، النتائج التي انتهى اليها Chapus انه لا يستطيع المجلس الدستوري ان يفرض على مجلس الدولة حلوله، في حين انه في الوقت عينه يتقيد مجلس الدولة بالتشريعات الإدارية وبالمبادئ العامة . فالتناقض واضح بين رأي هذا الفقيه وما يسير عليه مجلس الدولة، خصوصاً أن القوانين بمجموعها لا تتواجد إلا تحت رحمة المجلس الدستوري، لأنها لن تكون موجودة فيما لو تبين للمجلس مخالفتها نص دستوري او فحواه، ان كان هذا التفوق واضح بالنسبة للقوانين، فكيف سيكون بالنسبة للمبادئ العامة وهي في رأيه في مرتبة أدنى من التشريع !
ثانياً : رأينا المختار
حتى نصل الى تحديد قيمة المبادئ العامة ومن ضمنها مبدأ حق الدفاع يجب علينا أولاً تجاوز بعض الجوانب الغامضة كي نتمكن على أساسها تحديد هذه القيمة ضمن ثوابت قانونية كافية ومقنعة .
سوف نوجز هذه الجوانب الغامضة في الأسئلة التالية :
1 – ما هي العلاقة التي ترتبط بين المبادئ العامة التي يستعين بها المجلس الدستوري وتلك التي يكشفها مجلس الدولة ؟
2 - ما هو المعيار الأمثل لتحديد القيمة القانونية للمبادئ العامة ؟
3 - هل تخضع اللوائح المستقلة التي تصدرها الدولة استناداً الى المادة 37 من دستور 1958 لرقابة مجلس الدولة الفرنسي ؟
السؤال الأول :
المقصود بالسؤال الأول بيان ان كان يوجد ازدواجية او وحدة بين القضاء الدستوري والقضاء الإداري خصوصاً ان كلا القضاءين يستعملا عبارة "مبدأ عام" في حين ان الأول يفرضها على التشريع استناداً الى قيمتها الدستورية والآخر يفرض احترامهـا على اللوائح والقرارات الإدارية .
الأمر واضح بالنسبة للمجلس الدستوري، فهو يتصدى لكل أوجه المخالفات الممكنة للدستور، ويستخلص المبادئ العامة من نصوص الدستور أو فحوى هذه النصوص، فالمجلس الدستوري الفرنسي لا يحتاج للسعي نحو مبادئ عليا غير مكتوبة ليؤسس عليها رقابته الدستورية لأنه لديه البديل الدستوري المكتوب والمشروع إذ قد أقر -بالإضافة لدستور 1958- بالقيمة الدستورية لمبادئ إعلان حقوق الإنسان 1789 ومبادئ مقدمة دستور 1946 والمبادئ الأساسية التي أقرتها قوانين الجمهورية الفرنسية الكبرى السابقة وهي كلهـا مبـادئ أحالت اليهـا مقدمـة دستور 1958 الحالي(1). أما مجلس الدولة فالمجال أمامه أوسع نطاقاً، ومن الخطأ اعتبار خلق القانون من قبل القاضي الإداري عملية كيفية صرف فهو يراقب اللوائح استناداً الى كل ما يفوقها من قوة، فنراه يستوحي ويستلهم في إنشاء المبادئ العامة الأفكار الأساسية التي تكشف عنها بعض النصوص التشريعية عدا عن متطلبات الحياة الاجتماعية ومقتضيات الإنصاف وطموحات الحياة المعاصرة، فالقاضي هنا يكشف القانون ولا يبتكره، وهو في حلّ المسألة المعروضة عليه يسري على الشكل التالي :
في بداية الأمر، يتقيد القاضي بما يبت المشترع صراحة بالمسألة المعروضة عليه ويعطي حلاً مطابق لحالات مماثلة . ولكن قد يحدث ان لا يكون للمسألة المطروحة أي حل أكيد تكون فيه النصوص التشريعية تطبيقاً له، هنا نميّز بين وضعين : الوضع الأول يكفي بالرجوع الى المبدأ الذي تكون فيه النصوص الخاصة تطبيقاً له إذ يكتشف القاضي قاعدة عامة قابلة للتطبيق على مجموعة أوضاع غير واردة في النصوص إنما يمكن حلها باستيحاء هذه المبادئ منها . أما إذا كانت النصوص الإدارية خاصة جداً بحيث لا تقبل التعميم، فالقاضي في هذه الحالة لا يجد نفسه أمام خلق ذاتي إنما يستوحي المبادئ العامة من جوهر النظام القانوني المعين او من طبيعة الأشياء وبين الضرورات الخاصة بالإدارة ومراعاة حقوق المواطنين وأخيراً المعتقدات الدفينة التي تستقر في ضمير الأمة .
وأياً كانت المصادر التي يستوحي منها كلا المجلسين فهي في النهاية تلتقي تحت ظل الدستور وفحواه وفي كنف الشرعية ودولة القانون، بحيث يتأكد توحيد القانون العام خصوصاً ما يتعلق بالحقوق الأساسية والحريات العامة وهي ذاتها محمية من قبل الطرفين المجلس الدستوري في مهمة رقابة دستورية القوانين ومجلس الدولة في مهمة رقابة شرعية الأنظمة والقرارات الإدارية .
السؤال الثاني : المعيار الأمثل لتحديد قيمة المبدأ العام
لم يقف الفقه على معيار واحد في تحديد قيمة المبادئ العامة، بل كان لكل فريق منطلقه الخاص يسري به ضمن تحليل متسلسل ومترابط ليؤسس في إطاره قيمة المبادئ العامة . طبعاً هذه العلاقة بين النتيجة والأصل هي صحيحة الى حدّ ما لكن نقطة الأساس وهي موضع الخلاف بين كل الفرقاء تكمن في تحديد المعيار الأمثل بين هذه المعايير . الفقه في غالبية يرى في القضاء الإداري المصدر الذي يمنح هذه المبادئ قوة الإلزام(1) لكن هذا الأمر يجب تفنيده وإلا صحّ قول الأستاذ Chapus "كون القاضي الإداري يخضع للقانون وهو يراقب اللوائح في أقوى مظاهرها وهي المراسيم اللائحية لذلك تكون المبادئ العامة التي يصدرها مجلس الدولة لها قيمة معادلة لمصدرها القضائي أي أدنى من القانون وأعلى من اللائحة" .
لكننا لا تؤيد رأي الأستاذ Chapus لسببين:
السبب الأول نراه في الظروف الواقعية التي تفرض ذاتها على القاضي الإداري نظراً لعدم تقنين القانون الإداري وقلة نصوصه التشريعية، لذا يلجأ القاضي الإداري الى خلق المبادئ العامة ليسد فراغ القانون الإداري . وبتعبير آخـر لو تواجد النص القانوني الصريح المنطبق على المسألــة
المطروحة لما لجأ القاضي الإداري الى خلق المبدأ العام بل كوّن حكمه استناداً لهذا النص فقط دون حاجة الى أي سبب آخر .
من ناحية أخرى، ما يؤكد استبعاد هذا المعيار ان القاضي الإداري لا يضع المبدأ بناء على كيفية صرف، بل هو يعمد الى إنشاء المبدأ بطريق التعميم ابتداء من نصوص جزئية او يستخلص هذا المبدأ من روح نص قانوني معين او مجموعة نصوص او يعمل على إنشاء المبدأ من جوهر النظام القانوني او المعتقدات الدفينة التي تستقر في ضمير الأمة دون ان يتجاهل الواقع السياسي والاجتماعي والمشكلات المحددة القائمة والأفكار السائدة .
ولكن يرى البعض الآخر من الفقه، ارتكاز سلطة القاضي الإداري في وضع المبادئ العامة على إرادة المشرع غير الصريحة . وفي حال ظهور هذه الإرادة صراحة وافراغها في نصوص تشريعية فان القاضي لا يجوز له في هذه الحـالة ان يخالف تلك النصوص ويتعين عليه اتباعهـا في قضائه(1) .
إذن يرتكز هذا المعيار على الصفة القضائية للمبادئ العامة وهي محددة أساساً على افتراض انـه في تصرفه يعبر عن إرادة المشرع برضائه ضمناً . من جهتنا نقبل بهذا الحل الأخير, فالبحث عن الأساس الصحيح لسلطة القاضي الإداري في وضع المبادئ العامة تحكمه هذه الحقائق السابق بيانها، كما ان القضاء الإداري لا يضع المبدأ اعتباطاً ودون ضوابط، انما يفعل ذلك وفق إطار التنظيم السياسي والاجتماعي والاقتصادي القائم في الدولة بالإضافة الى مقتضيات الإنصاف وطموحات الحياة المعاصرة .
ونضيف الى ما سبق بيانه وما انتهينا اليه من ضرورة وحدة القضاءين الدستوري والإداري، ضرورة الاستعانة بالمعيار الموضوعي الذي ينتهجه المجلس الدستوري، طالما انه يقيّم هذه المبادئ بنصوص الدستور وفحـواها . فالمبادئ العامة هي في الأساس في قيمة التشريع فلا مانع الارتقاء ببعضها الى المرتبة الدستورية فيما لو كانت مبنية على نص دستوري او فحوى هذا النص . السؤال الثالث :
أما عن الوضع في فرنسا، كنا قد بيّنا في الفترة السابقة على دستور 1958 استقرار غالبية الفقه على القول بأن المبادئ العامة تحظى بقوة قانونية مساوية للتشريع البرلماني بحيث تفرض ضرورة احترامها على الإدارة، وبالذات على السلطة اللائحية للإدارة .
وكما رأينا بدأ الاختلاف في الرأي مع دستور 1958 لما حملته المادة 37 منه ظهور نظام اللوائح المستقلة التي بموجبها تصدر عن السلطة التنفيذية لوائح لا تخضع مثل اللوائح العادية للتشريع البرلماني، التي باتت تشكل سلاحاً خطيراً في يد الحكومة تستخدمه دون الخضوع للقوانين، الأمر الذي لا يمكن مواجهته إلا برفع مستوى المبادئ العامة فوق التشريع وهو الحل المنشود الذي يضمن مواجهة هذه اللوائح المستقلة . من المعروف ان مجلس الدولة في قرار النقابة العامة للمهندسين المستشارين اغتنم فرصة قضية أعطى فيها دستور 1946 لرئيس الوزراء في المادة "الاستعمارية" الذي يعتبر سلطان تنظيمي مستقل حقيقي فقرر ان "مبادئ القانون العامة التي تفرض، بكونها ناتجة بصورة خاصة من مقدمة الدستور، على أي سلطان تنظيمي حتى في حال عدم وجود نصوص تشريعية(1)" .
كما طبق مجلس الدولة هذا الحل في ظل دستور 1958 على جميع الفرضيات التي يعمل بها السلطان التنظيمي المستقل فقرر في حكمSieur (2)Martial de Laboulaye خضوع المراسيم التنظيمية المنشأة استناداً الى المادة 37 من الدستور الفرنسي للمبادئ العامة للقانون رغم انه ان "لائحة 16 mai 1959 الذي وضعته الحكومة من أجل تنظيم سوق النبيذ استناداً الى المادة 37 من الدستور الفرنسي لم تتنكر لمبدأ المساواة بين الأشخاص أمام الأعباء العامة" . وفي حكم آخر(3) قرر مجلس الدولة الفرنسي خضوع الأوامر التشريعية المنصوص عليها في المادة 38 من الدستور الفرنسي للمبادئ العامة . يؤكد لنا هذان القراران الصادران في ظل دستور 1958 خضوع اللوائح المستقلة لرقابة المجلس الدولة الفرنسي، فلم يعد من داع الى جعل هذه المبادئ مشكلة فاضحة يجب تجاوزها بإعطائها قيمة دستورية . ننتهي بعد بيان ما سبق ان لحقوق الدفاع قيمة تشريعية وهي تبقى بنظر القاضي الإداري في قيمة التشريع، ولكن لا مانع من ان تكون لهذه الحقوق قيمة دستورية فيما لو أمكن استخلاصها من نص دستوري او فحوى نص دستوري وهي في نهاية المطاف لن تشكل مشكلة في تحديد قيمتها بل سيكون تطبيقها استناداً الى القاعدة القائلة "الخاص يقيد العام ويعتبر استثناء عليه" . ولكن يثور هذا الخلاف في بعض الأنظمة القانونية التي تطبق قاعدة الدفع بعدم الدستورية كمصر مثلاً، اذا تبين لأطراف الدعوى تعارض نص تشريعي مطلوباً تطبيقه في الدعوى مع مبدأ عام دستوري، يمكنهم الدفع بعدم الدستورية، هنا يؤجل القاضي النظر في الدعوى اذا تبين له جدية الدفع ويحدد للطرف الذي أثار الدفع بعدم الدستورية ميعاداً لا يتجاوز الثلاثة أشهر ليرفع الأمر الى المحكمة الدستورية العليا .
منقول