مقدمة
بعد انهيار المنظومة الاشتراكية , وبروز أحادية القطب في السياسة الدولية , كثر الحديث عن العولمة كنظام اقتصادي عالمي جديد , الذي احتوى في آلية تطبيقه من اتفاقات , كل ما يهمش شعوب وبلدان العالم الثالث (البلدان النامية ) اقتصاديا , ويحيلها إلى دول موردة للمواد الأولية , وشعوب مستهلكة , إضافة إلى نقل الصناعة الملوثة للبيئة إليها .
وبدأ الحديث عن تجارة بلا حدود ولا جمارك ولا حماية لأي صناعة في البلدان النامية .
وانطلقت ديناصورات الاقتصاد في النظام العالمي الجديد (الشركات المتعددة الجنسية ) تعد العدة لالتهام ما تبقى من لقمة الشعوب المغلوبة على أمرها .
وإذا كانت العولمة الاقتصادية تمثل سمة العصر , فإن المعلوماتية تمثل الجانب الإنساني من التواصل البشري , والتي أرى أن حسن استخدام المعلوماتية , قد يكبح من جماح وحش العولمة ويضع جشعها في حدوده الدنيا . ريثما يبرز قطب دولي آخر , حيث لا يمكن لبلدان العالم الثالث أن تتنفس الصعداء إلا عبر صراع وتناقض بين قطبين .
اليوم لابد للبلدان النامية من أن تعيد النظر في إستراتيجياتها التنموية السابقة , والالتفات إلى تنمية الإنسان القادر على التعامل مع تقنيات العصر , حيث انتهى عصر النفط والثروات الباطنية وجاء عصر آخر يحمل سمات مختلفة عما سبقه , عماده الإنسان المبدع والقادر على صنع السلعة المعلوماتية وتسويقها .
المعلوماتية والإنسان المعاصر
لقد أحدث التطور في الحاسبات, وانتقالها من حساب ومعالجة الأرقام إلى التعامل مع المعلومات , ثورة تكنولوجية هائلة واكبها تطور مماثل في وسائل الاتصال .
وبذلك أنطلق الإنسان إلى التواصل المعلوماتي , الذي طبع العقد الأخير من القرن العشرين وما تلاه بسمته وطابعه .
وإذا كان المؤرخون قد اعتمدوا سابقاً الميلاد والهجرة لتحديد الزمن التاريخي, ففي عصرنا يبرز مصطلح جديد للتداول وهو الكومبيوتر, سوف نقول ما قبل الكومبيوتر وما بعده, كما كنا نقول قبل الميلاد وبعده.
واليوم وعبر الكومبيوتر ووسائل الاتصال ومن خلال شبكات المعلوماتية يتواصل البشر على مدار الثانية , يتبادلون المعلومات , يتحاورن , كل قابع خلف كومبيوتره , وبمنتهى البساطة واليسر يعرض الياباني على (صفحة الموطن )الخاصة به والموضوعة على شبكات المعلوماتية , شيئا ًمن تراثه الحضاري, وما يخطر له من إسهام فكريّ , وآمل في أقرب وقت أن يتمكن الإنسان العاديّ في بلدي من أن يعرض للعالم , ذلك التراث الحضاري , الذي أعطى للعالم الأبجدية الأولى , قبل ثمانية آلاف عام للميلاد , وعشرة آلاف عام قبل الكومبيوتر .
لقد بدأت منعكسات ثورة المعلوماتية تتعمق في حياة الإنسان المعاصر, بحيث طالت الموروث المتراكم عبر العصور. في كل ما يتعلق بنواحي الحياة .
المعلوماتية والزمان
لقد أتاحت المكتبات الالكترونية الموضوعة على شبكات المعلوماتية , والتي تختزن في ذوا كرها المقروء والمرئي والمسموع , إمكانية استعادة الحدث بكامل إِعلامه , أو حسب الرغبة واليوم وبمنتهى البساطة أستطيع استعادة نشرة أخبار تلفيزيون ما مؤرشف على شبكات المعلوماتية , التي سبق وعرضت منذ سنوات بتاريخ وساعة محددة , كما ونستطيع العودة إلى مقال نشر في صحيفة معينة مؤرشفة على شبكات المعلوماتية ,نشر منذ أعوام , وبمنتهى البساطة واليسر .
المعلوماتية والمكان
تنبه الكثير من المؤسسات والشركات إلى الإمكانيّات الهائلة لشبكات المعلوماتية, وبدأت تفكر بإنجاز الأعمال الفكرية والمكتبية وحتى المهنية, والكثير من الأعمال الأخرى عبر شبكات المعلوماتية .
وكان السؤال : ما دام الموظف بإمكانه إنجاز عمله من خلال الكومبيوتر وما دامت شبكات المعلوماتية تؤمن التواصل المستمر , فلماذا على صاحب العمل تأمين المكان ,فليحمل كل موظف كومبيوتره الشخصي إلى منزله أو إلى أي مكان يختاره , وهناك ينجز العمل الموكول إليه ويرسله إلى صاحب العمل عبر شبكات المعلوماتية ,وبذلك توفر المؤسسات نفقات المكان , ويوفر الموظف زمن الانتقال إلى العمل وما يترتب عليه .
وبذلك تحل تقنيات الكومبيوتر مشكلة من أهم المشاكل الديموغرافية المعاصرة المتمثلة في التمركز واكتظاظ المدن ,وهكذا يمكن للإنسان أن ينتقل إلى أحضان الطبيعة في الريف ليعمل ويعيش بعيداً عن ضوضاء المدن والتلوث .
المعلوماتية وحاجات الإنسان اليومية
لا شك بأن الوقت عامل مهم جداً بالنسبة للإنسان في عصر المعلوماتية , فهو يشكل حيزاً رحباً للعمل والإطلاع على ما يجري في الكون من أحداث , ناهيك عن المخزون الثقافي الضخم الذي يتراكم لديه عبر التعامل مع شبكات المعلوماتية , هل فكر أحد منّا أن يطرح على نفسه السؤال : كم من الوقت نهدر لدفع فواتير الهاتف والماء والكهرباء والضرائب والحصول على إخراج قيد نفوس أو سجل عدلي أو مخطط مساحي لعقار أو بيان قيد عقاري أو مخطط تنظيمي من البلدية لعقار أو أوراق ثبوتية لشهادة قيادة سيارة أو لإجراء الفحص السنوي للسيارة , وكم نحتاج إلى سماسرة ووسطاء ومعقبي معاملات , وذلك لعدم استهلاك أعصابنا أمام فساد الادارات والأجهزة .
لقد جاءت المعلوماتية عبر سجلاتها وملفاتها ومكتباتها وبنوك المعلومات الاليكترونية وتقنياتها الرقمية ,لتقلص الجهد البشري المبذول وجعله في أضيق الحدود , ناهيك عن الدقة اللامتناهية . ولتنهي إلى الأبد الملفات والأرشيف الورقي .
المعلوماتية والتقنيات الطبية
لقد وقفت البشرية مشدوهةً أمام العملية الجراحية التي أجراها جراح أمريكي لمريض فرنسي الجراح قابع أمام كومبيوتره في الولايات المتحدة , يتحكم عن بعد بكل دقة بروبوت , وذلك عبر وسائل الاتصال , وشبكات المعلوماتية, يجري الجراحة المعقدة لمريض في غرفة عمليات في أحد المشافي الفرنسية . أتراها الأنفاس الأخيرة للتباعد الجغرافي بين الشعوب .
المعلوماتية واالتصاميم وحل المشاكل الهندسية
من المعلوم أن التصاميم الهندسية عمل جماعيّ يشترك فيه عدد من المهندسين كل حسب إختصاصه واليوم وبعد إن أنهى الكومبيوتر عامل المكان والجغرافيا ,أصبح واقعاً أن يكون المهندس المعماريّ في إيطاليا والإنشائي في طوكيو والصحيّ في سان فرنسيسكو والميكانيكي في هونغ كونغ والكهربائي في ملبورن ورئيس المجموعة المنسق في دمشق , يتبادلون المخططات يتناقشون يتحاورن ,كل أمام كومبيوتره , وقريباً جداً وعبر تيكنولوجيا الديجيتال والميديا وأوتوسترادات المعلوماتية , يشاهدوا بعضهم ويعقدون الإجتماعات , كل في بلده وأمام كومبيوتره, إنه واقعٌ قادم وليس مسرح اللامعقول .
المعلوماتية والتعليم
دخلت العلوماتية إلى التعليم بقوة وعمق , وأصبحنا نرى الآن في الأسواق برمجيات لتعليم اللغات بأرقى الطرق وذلك بإشراك أكبر عدد من الحواس بوقت واحد , وذلك من خلال تيكنولوجيا الميديا , بحيث تراكم لدى المتلقي رصيداً من الكلمات عبر الصورة والصوت وتعلمه اللفظ السليم والإملاء , لتنتقل بعدها الى تراكيب أعقد ,كما تعلم القواعد ايضاً.
كما دخلت المعلوماتية التعليم العالي , بحيث أتاحت شبكات المعلوماتية للطلاب إستعادة أي محاضرة أو بحث موضوع على الشبكة . وبذلك أشرعت الأبواب لإعادة النظر في أساليب التعليم ككل .
وفي هذا العام طبقت في فرنسا تجربة إعطاء الأسئلة للامتحانات العامة عن طريق شبكات المعلوماتية ففي لحظة واحدة وبكافة أنحاء فرنسا ظهرت على شاشات الكومبيوتر في قاعات الامتحان الأسئلة , طبعتها طابعات في كل قاعة , فوزّعت على التلاميذ بسرعة قياسية , وطموحاتهم في الأعوام القادمة أن يجلس التلميذ أمام كومبيوتره , تطرح عليه الأسئلة مرئية فيجيب عنها من خلال الكومبيوتر , ويحصل على نتيجته فور انتهائه من الإجابة .
المعلوماتية والزراعة
لقد أفادت المعلوماتية الزراعة , بحيث وضعت على شبكات المعلوماتية موسوعات علمية زراعية ,يمكن الإفادة منها في مجال مكافحة الأمراض والأوبئة الزراعية , وكذلك في مجال تلاؤم المزروعات مع نوعية التربة إلى ما هنالك من معلومات تفيد المزارع في تحسين المردود والنوعية . كما وتم وضع معلومات حول الثروة الحيوانية وطرق العناية بها .
المعلوماتية والبيئة
لقد عمقت شبكات المعلوماتية الثقافة البيئية , من خلال الإطلاع وبشكل حيّ ومباشر على ما يجري في العالم من عبث بيئي ,ناجم عن الجشع , من قطع جائر للغابات تلك الرئة التي يتنفس منها الإنسان , واستخدام غازات في الصناعة تدمر حاجز طبقة الأوزون , وكلنا شاهدنا هذا العام التغيرات التي حصلت في المناخ , وظاهرة النينو والفيضانات وارتفاع حرارة الأرض .
إن الحديث عن منعكسات المعلوماتية على حياة الإنسان لا تستوعبه هذه العجالة .
إن واقع الوطن المعلوماتي متواضع جداً بكل المقاييس , وإذا ما شاهدنا بؤراً مضيئة هنا وهناك فهي ناجمة عن مجهودٍ فرديٍ بحت له كل التقدير .
إن الولوج إلى رحاب المعلوماتية وتطبيقاتها يتطلب تضافر كل الجهود الخلاقة , كما ويتطلب الاستفادة من تجارب الدول التي سبقتنا في مجال صناعة البرمجيات ,على سبيل المثال وليس الحصر , الهند ,حيث تبيع الهند من البرمجيات , وهي نتاج عقلي بحت , مادته الأولى والأخيرة العقل البشري , وبالتالي الإنسان المؤهل المبدع , بمئات الملايين من الدولارات .
إن ما يبعث على الألم أن الكثير من دول الخليج قد أنجزت بناها التحتية في مجال الرقميات والمعلوماتية ,حيث أنجزت حكوماتها الالكترونية , بكل ما يترتب على ذلك من نظم وتطبيقات بمساعدة خبرات سورية , غادرت الوطن لأسباب ليست خافية على أحد , والحديث ذو شجون .
موضوع المعلوماتية موضوع مصيري فهو يطال مستقبل الوطن , كما وأن الشعارات الطنانة الرنانة حول إدخال المعلوماتية إلى الوطن , لا يغن أو يثمر عن جوع .
الموضوع بحاجة إلى علاج جذري , وعمل اسعافي عاجل , لقد أصبحنا بفضل العقلية المتحجرة المتخلفة لأصحاب القرار خارج إطار العصر وأصبحت الفجوة في استخدام الرقميات , بيننا وبين العديد من الشعوب فجوة هائلة الاتساع . . .! ! !
ولا حول ولا قوة إلا بالله . ..
منقول عن روفائيل جورج خماسميه : عضو الجمعية العلمية السورية للمعلوماتية
( كلنا شركاء) : 23/12/204