من يوميات حي الميدان المجاهد
لقد أقضَّ مجاهدو حي الميدان الدمشقي مضاجع الفرنسيين كثيراً ، و ما برح هذا الحيّ منذ بدء الثورة ضد المستعمر ، أن يكون ملاذ المجاهدين و مستودع سلاحهم .
و في 24 شباط سنة 1926 قتل جندياً فرنسياً في الحي ، و كانت المخافر الفرنسية المبثوثة على الجبهة الجنوبية من دمشق في ذلك الوقت عرضة للهجوم المتوالي من الثوار ، فصحت عزيمة الفرنسيين في شهر نيسان على تطهير حي الميدان من الثائرين .
و قد اتخذت القيادة الفرنسية الترتيبات العسكرية و أناطت بالكولونيل ( كليمان غرامكو ) هذه المهمة ، و وضعت تحت تصرفه اللواء التابع لفيلق الرماة الأفريقيين الثامن عشر ، معززاً بمدفعية و دبابات و سيارات رشاشة ، و ساندته كتيبتان من متطوعي الشركس ضربتا نطاقاً حول هذا الحي .
و قد رابط ألف جندي في الجناح الأيسر يحرسهم 20 دبابة في ( الزفتية ) .
و رابط ألف جندي في القلب يحرسهم 20 مصفحة ، و رابطوا في باب المصلى السلطاني ، و حلقت الطائرات تقذف قنابلها ، و المدافع تصب حممها من قلاع دمشق على حي الميدان .
كانت قوة المجاهدين مؤلفة من 97 مجاهداً بقيادة الشيخ " محمد الأشمر " ، تحاصر البيوت بجوار جامع الدقاق ، و تفرق 80 مجاهداً في البيوت و الحارات .
و اشتبك المجاهدون مع القوات الفرنسية بمعركة ضارية و استمرت زهاء خمسة ساعات و نصف ، و تناهت الاشتباكات في الشدة و العنف ، عندما تحصن المجاهدون في المنازل ، و استعملوا فيها القذائف اليدوية ، و لولا مؤازرة سلاح الدبابات و السيارات الرشاشة التي كانت تجتاح جدران البيوت فتهدمها ، لما استطاع الفرنسيون أن يفلحوا في معركة الشوارع هذه ، فقد كانت نقاط الارتكاز التي كمن فيها المجاهدون تطوق واحدة بعد أخرى ، فيستوي الرماة الفرنسيون في المنازل المجاورة لها ثم يهيلون عليها القذائف اليدوية ، و يندفعون غائرين مستترين وراء الدبابات تشق الطريق أمامهم .
ذكر البلاغ الفرنسي أن الثوار خسروا 57 مسلحاً في هذه المعركة و قد بالغوا في عدد الخسائر حسب عادتهم ، و الحقيقة أن المجاهدين خسروا ثلاثة شهداء و هم :
" فوزي عودة " و هو من حي الميدان زقاق البصل ، و قد هجم بالسلاح الأبيض و قتل جنديا و خر صريعاً ،
و " سليم عبسه " من الميدان الفوقاني ، و قد وقع جريحاً فباغته الجند ، و كان يحمل مسدساً فقتل أربعة جنود منهم ، و انتحر برصاص مسدسه ،
و " محمود الهندي " من بوابة الميدان الفوقاني ، و قد حاصره في محلة زقاق الضيق نحو مائة جندي ، فقتل منهم سبعة و ارتد الجند عنه ، فخرج من مكمنه حتى وصل الساحة ، ثم هجمت عليه قوة كبيرة فدخل بيت النشواتي ، و قد حاصره الجند فقتل منهم تسعة أيضاً ، فتقدمت دبابة و هدمت الباب فخرج من مكمنه حتى وصل الساحة ، ثم هجمت عليه قوة كبيرة فدخل بيت النشواتي ، و قد حاصره الجند فقتل منهم تسعة أيضاً ، فتقدمت دبابة و هدمت الباب و استمرت بإطلاق النار عليه حتى خمدت أنفاسه ، فألقت عليه البنزين و أحرقته في البيت الذي هو فيه بوحشية لا يتصورها العقل .
كانت خسائر حي الميدان 90% من دكاكين و حوانيت ، و 25% من البيوت ، و قتل من الأبرياء عدد كبير بتأثير القنابل المدمرة ، و دكت الحملة مساجد الرفاعي و الساحة و الدقاق .
و كانت أفظع وحشية ارتكبها الفرنسيون ، هي ذبح المصلين و هم في صلاة الصبح في جامع الساحة ، و عددهم ثمانية ، منهم علي كريشان ، و الإمام الشيخ عبد الغني الشيخ .
و إننا نسجل للحقيقة و التاريخ بأنه رغم ما حلّ بحي الميدان من محن و نكبات و قتل و نهب و حرق و تدمير ، فإن البطولات التي أظهرها مجاهدو هذا الحي ، فيها العظات و العبر للأجيال الصاعدة ، فقد كانوا لا يفترون عن مهاجمة الفرنسيين ، و إنزال الضربات الأليمة و الخسائر الكبيرة في قوى المحتل ، و لولا الدبابات الثقيلة التي كانت تقتحم البيوت و تدمرها ، و يحتمي وراءها الجند لما استطاع الفرنسيون التغلب على أبطال هذا الحي .
( من كتاب " تاريخ الثورات السورية " – أدهم الجندي - ص 283)