دعاوى لها ذكرى

[وسيم حمادة الخياط]

منذ أيام كنت أقوم بإجراء روتيني نقوم به عادةً نحن المحامون كل حينٍ وآخر بأرشفة جميع الإضابير التي لدينا مما مرَّ عليه أكثر من عامين ورفعه إلى (السقيفة) ،ووقع بين يدي إضبارة دعوى تعود لبداياتي في المهنة وتحمل ذكرى جميلة لي حيث عادت عليَّ بمنفعةٍ كبيرة أرويها لكم فيما يلي:
((فقد ترملت موكلتي ولديها ولدان لم يبلغا سن الرشد بعد ،وكان زوجها قد أعادها إلى عصمته بعد تخالعهما سابقاً دون أن يسجل ذلك أصولاً وأبقاه على ورقة موقعة بينهما غير أن الكل من جيران ومعارف وأقارب يعرفون ذلك وأنها مقيمة أصولاً لديه..وبوفاته تستحق لورثته تعويضات نقابية وتأمينات اجتماعية -كونه كان طبيباً يعمل لصالح مؤسسة التأمينات الاجتماعية- ولايحق لورثته الحاليين المتمثلين في الصبيين القصر التصرف بكامل المبلغ..
استشارتني بدايةً فيما إذا كان ثمة وسيلة لتدخل بحصر الإرث وتشرف على إيلولة النقود لأولادها ،فما كان مني إلا أن استشرت أستاذي -حيث أني كنت لم أزل متمرناً- وبحكم مالديه من خبرة بالأمور الشرعية لعمله السابق ولفترة طويلة كمحكم شرعي .فأجابني على الفور بأن الحل يتمثل في رفع دعوى تثبيت زواج بحق الزوج المتوفى يختصم فيها مدير الأيتام مباشرةً....
قمت على الفور بالاتصال بالموكلة ولم تمض ساعات حتى أحضرت مندوب الوكالات لمنزلها وقامت بتوكيلي والتوقيع على الوكالة من خلف الباب -كونها معتدة-
وفي اليوم التالي واثناء تحضيري للدعوى خطر ببالي خاطر أن أذهب وأسأل مدير الأيتام عما إذا كان ثمة إجراءات معينة لرفع الدعوى عليه ينبغي تداركها ؟ وكانت المفاجأة هي حين أخبرني بأن الخصومة بحقه غير صحيحة وأنه لايجوز اختصامه مباشرةً ،بل يجب قبل ذلك تعيين الأم كوصية!!! وهو ما لم يكن ممكناً كونها هي من سيرفع الدعوى مايسبب ازدواجية الخصومة وعدم صحتها...
وهنا قمت بالإكثار من السؤال والتمحيص لمعرفة الحل القانوني لهذه المعضلة ،وكان الجواب الكافي الذي وافقني عليه أغلب القضاة الشرعيين والموظفين هو ما أرشدني إليه الأستاذ(عابد خلف) الموظف بديوان الشرعية حين أعلمني مشكوراً أن أقوم باستخراج حصر إرث أصولي باسم الوريثين وأقوم بناءً عليه بتعيين وصي خاص مؤقت من خارج الخصومة ممن تثق بهم موكلتي وتنحصر وصايته بالتقاضي بما فيها هذه الدعوى على أن يتم تعديل حصر الإرث بعد ذلك بموجب فقرة صريحة في الحكم يتضمنها الاستدعاء وتتم إضافة الزوجة .....
الشاهد هنا أني قمت مباشرةً بإعداد استدعاء الدعوى وطباعته بتلك الصيغة بعد أن استخرجت قرار تعيين شقيقة موكلتي كوصية وقبلها حصر الإرث بسرعة مكوكية وقدمت الدعوى مروسةً باسم أستاذي -كوني متمرن- وكل ذلك دون الرجوع إليه .....وحين أخبرته بذلك مساءً من باب الإعلام بالموضوع ،غضب لتصرفي وطلب مني محو اسمه من الاستدعاء كوني لم آخذ برأيه وتصرفت من عقلي رغم تسجيل الدعوى باسمه..وأدى هذا لخلاف حاد بيننا حيث حاولت دون جدوى أن أقنعه بصوابية الحل القانوني الذي قمت به ،فيما كان تركيزه الأساسي على وجوب الرجوع إليه قبل قيامي بذلك........
وبعد أسبوع قمت بفتح الدعوى والإقرار بها كوكيل عن المدعية-الزوجة- مستعيناً بأحد زملائي الأساتذة من خارج المكتب ممن لهم اسم بالوكالة ،وقامت شقيقة الموكلة بالإقرار عن الورثة بصفتها كوصية ،وأحضرت الشهود على ذلك ...وبعد صدور القرار أخذت منه نسخة لأستاذي كي أريه إياه منتظراً ردة فعله،فتفاجأت بأنه قد نسي العتب السابق وقلبه إلى مديحٍ زاد بعد قراءته للقرار ،وتبين لي فيما بعد أن القاضي الأستاذ(كمال المسكي) الذي شرفني بنظر الدعوى قد أثنى عليَّ أمامه بعد جلسة الإقرار وامتدح الحل القانوني الذي قمت به !!!!
ولم يكتف أستاذي بذلك، بل قدّم لي مباشرةً هديةً لاتقدر بثمن حين دفع عني ثمن موسوعة "السنهوري باشا" التي وصلت للمكتب باسمي بناءً على طلبي ،وعبثاً حاولت تسديد المبلغ له حيث كنت قد خصصت أتعابي من الدعوى لدفعه.......
وفوق ذلك قام بتزكيتي لدى ورثة أحد المحامين القدامى الذي كان يمتلك -رحمه الله- مكتبةً قانونيةً كبيرةً وقيّمةً تحوي أمهات الكتب حتى قاموا بتقديمها كاملةً لي دون مقابل وكأني بقصةٍ من قصص(ألف ليلة وليلة).......
وزيادةً عليها فقد أعطاني الضوء الأخضر لكي أسجل من تلك اللحظة الدعوى التي أريدها على اسمه بشرط أن أبذل فيها نفس المجهود ......))
لم أقصد من سردي الطويل لتلك القصة أن أتفاخر أمامكم أو أمدح نفسي -معاذ الله- لكني قصدت أن أنقل لكم ذكرى إحتفظت بها من فترة تمريني أكسبتني ثقة أستاذي التي أعتزُّ بها وجعلتني أُكمل حياتي المهنية بتفاؤلٍ وبشرى..ويكفيني أني خرجت منها ولدي مكتبة غنية يطمح بجمع كتبها كل من له باعٌ طويلٌ بالمحاماة ،ومازلت أستفيد منها للآن بكل دقيقةٍ في مهنتي........