خلف قضبان الزمن

[المحامية علياء النجار]

( ق . ق . ج )
انكمشت جبهته حين دغدغتها خيوط الشمس الوهمية راسمة على وجهه يوماً آخر من قرار قضائي سيقضيه على أرضية خشنة تحرك سكونها الصامت جرذان لطيفة وطابور نمل منتظم ، ألقى التحية عليهم ثم أمسك قلمه الحجري ليخط خلفه خطاً آخر يجمعها عشرة تلو العشرة في حزمة واحدة . وقف قبالة فتحة ضوء تعلو رأسه مترين على الأقل يودّ أن يستشعر ظرفاً يسافر به حساً ومعنىً نحو حافة الميناء نحو غروب يفتح ذراعيه لكل من يودّ أن يضمه . تنشق شهيقاً ممزوجاً بطلع الغبار وعبير العفونة قطعه له اقفال تدور بيد سجانه ليلقي باليد الأخرى نزيلاً آخر نحو مرمى غير هداف ، تقدم صاحب الغرفة بثبات ليرحب به بـ : " أرجو لك اقامة سعيدة .. هنا " ، مجففاً جبهته بكمه من بقعة سائلة حمراء أصابته أجاب بتهكم متعب : " شكراً .. لكن عن أي سعادة تتحدث .. هااا؟ "
- لا تستعجل ستتذوقها قريباً وحالما تطل من نافذتي هذه .
- نافذة !! تلك الفجوة الجرادء .. نافذة .. ؟ّ!
- قلت لا تستعجل .. انها يا صاحي سعادة تقلب لك مكانك هاهنا إلى سجن يوسف ، حيث سجن ، عذب ، نفي ، أوذي.. لكنه ناجى ، دعى ، صلى ، خشع ، فعرج .
- أتحدثني عن نبي في هذه العتمة العجوز !!
- و لم تراها عتمة؟ بل ولم تراها عجوز ؟ هي نور لكن لا ضوء فيها .. هي بهاء لكن لا شباب فيها ..
- يقاطعه : كم لك هنا حبيسَ السنوات ؟
- حبيس !! تقصد " معتكف مختلٍ بربي ..
- نعم نعم كما تشاء .
- لك أن تنظر الى الحائط لتعرف
- أكل خط سنة ؟
- بل كل خط معراج وأسفار .
- كأنك تفخربها !!
- بل أتمنى أن أخطها على صدري وساماً بدل وشم الحائط الصامت .
- هل تقضي حكمك منفرداً ؟
- ( استدار نحو نافذته على كعب واحد كراقص رشيق قائلاً ) : منفرداً ... اممم يبدو انك مازلت أسير الجرح وحبيس اللكمات والكلمات ، لا وجود لكلمة منفرد هنا يا صديقي ، بل أنا وهو ذات في الوجود ، هو أنيس لمثلك فقط لكنه لي معشوق ، موطن الروح ومأمن الخيفة ، جوهر الوجود ولذة الشهود ، شهيد الحال وجملة المبتغى ، قبلة الكائنات وحرم القلوب ..
- قاطعه مرة أخرى : هلا حدثتني بلغتي !! هل وجودك هنا منقطعاً أنساك لغة البشر؟!
- يا لصديقي المسكين بل أنا أتحدث بلغة روحكوأبجديتها .
- وما يهمني اذا كنت لا أعيها ؟؟!
وهنا خرج من حجر الحائط فأر كيما يقطع الحوار وكأنه سمعه مبتدأً ، ناوله السجين حصته من عشاءه قائلاً له : أوقن أنك تعي مالا يعيه ضيف اليوم .
مرت حزمة أخرى بأسبوع أخر شطبها وكأنه يهيأ نفسه ، فتحت الأقفال من جديد لينادى اسمه نحو العروج الحق ، بابتسامة هادئة نظر نحو النافذة المتحجرة هز رأسه وأجابها : " قادم " وصمَت .. أغلق الباب وتُرك المنفرد وحيداً سوى رأسه بركبته في زاوية وكأن الليل قد هبط فجأة بل البرد بل الوحشة بل الغربة بل الظلمة .. ما كل هذا !! أينه قبلاً ؟
فكر .. تفكر .. عكف .. خشع .. تعلم أبجدية أخرى للغة أتقن فيها نشوى القلوب ، استمع إليها كمعزوفة ثم عزف عليها ، اغترف منها شارباً سكراً .. ثم كان ذاك الراقص الرشيق ، وفي احدى ليالي انسه خرجت شريكة الغرفة فأرة الحجرة ابتسم لها قائلاً :
" آهٍ يا عزيزتي كم سبقتني إليه بالفهم عنه " .. وقف على ذات النافذة حلّق وعرج وأشرقت شمس قلبه بنور ظلمة بئر يوسف ورطوبة سجنه الفواحة .
جلبة تلقي بنزيل أوّاه على أرضية لطالما شهدت دموع السجود ، دار الزمن دورته وأعاد التاريخ صفحات قلبها قبلاً ، دار ذات الحوار ، وكان ذات الاستنكار ، حاول أن يوصله بقابس الأنوار ، لكنه يقاطعه في كل مرة شاكياً متذمراً .. تمنى لو وعى ما وعاه عن ذاك ، لكنه نودي كرشيقٍ نحو عروجه هناك ، وترك ضيفه منفرداً يبحث عن الأبجدية علّه يتقنها يوماً .