فرح الدحنون

[المحامية عفاف الرشيد]

لما كنت صغيراً حدثتني أمي عن حكايات الدحنون ، وهي كثيرة وكنت كلما قصرت في واجباتي المدرسية تقول لي :
كن يا ولدي مثل الدحنون ، نشيط ، مجتهد لا تؤجل عملك ، سألتها يوماً كيف تعرفين كل هذه الصفات عن الدحنون ، تجيبني :
انظر إليه يا ولدي إنه دائماً محمر الوجنتين ، فهو يستيقظ مع استيقاظ الفجر، لا يعرف التخاذل 0
ولما كنت اسرق لعبة أخي الصغير كي ألهو بها خلسة ، تؤنبني أمي ، كن يا ولدي مثل الدحنون صادقاً أميناً 0
كانت حديقة دارنا غارقة في أحضان الدحنون ، كأنها بساطٌ أحمر من السجاد الأحمر العجمي المعتق ،و لما كبرت وصار لديَّ أولاد علمتهم أن يقتدوا بالدحنون ، بصدقه وأمانته ونشاطه ، لكن حديقة دارنا أصبحت حزينة هاجر منا الدحنون ، وفي صبح كل يوم كنت أرى العشرات من أزهاره مدهوسة ، ذابلة ، حتى ذبلت أشعة الشمس التي كانت ترقص مع نوراته الزاهية 0
بعد سنوات لم يبق في دارنا سوى اذرع معدودة من المساحة يحوطها سور شائك ، سألت أمي عن هذا السور الشائك قالت :
يقولون كي لا يختبيء الأرهابيين فيها ؟!
رحل الدحنون من دارنا وأخذ معه كل مفاتيح الفرح 0
استيقظت ذات يوم على بكاء أمي ، قبلت يدها الكريمة ، لكنها سحبت يدها بأنفة قائلة :
لست أبكي فراق الدحنون لأنه ذهب ليؤدي واجبه ، ألم اقل لك إنه مخلص وأمين ؟!
- وما يبكيك ؟
ابكي هذا السجن الذي نعيش به ، أضحى بيتنا مسوراً بالأسلاك الشائكة ، كأنها مغروزة في كبدي ، قد لا يطول بي العمر فلا أشهد انتصار الدحنون ،و شدت يدي بقوة تدفق حناناً وزرعت نظراتها في عينيَّ ، حدثتني بكل اللغات ، وفهمتها ، ضممت يدها بكلتا يديَّ وقبلتها فشممت عبق الدحنون يفوح من طياتها ، كانت تربت كتفيَّ وتشدد عزيمتي ، وجدتني أفتح الباب ، اجتاز كل الأسلاك ، تنفست ُعتمة الليل وأنا أنشد ركب الدحنون 0
حرقة الوداع سرت في عروق العجوز القاحلة التي حضنت يديها التي قبلها ولدها قبل رحيله ، لتستبقي عبقها في حضنها ، تحضن أثاره وطيفه وتتذكر كيف كانت تحضنه صغيراً ، وكي لا تذعن للبكاء ، تستحضر ذكريات طفولته وهي تحدثه عن الدحنون ، وعندما تنفس الصبح أول شهيق وهويفك ستار الليل عن نوافذه ،دوى انفجار على الحدود الشائكة ، زغردت العجوز ، وعبق المكان برائحة جسد ولدها ، فانفلتت الدموع الحبيسة من هاتين العينين اللتين تعبتا كثيراً بانتظار ثورة الدحنون ، الذي انفجر تفتحاً في كل مكان ، حتى انفلق أصم الحجر و انفجرت ثورة قلعت كل الأسلاك الشائكة 0




من مجموعتي القصصية حزمة الورد الأزرق

[(أبو إياد) محمد المصرى]

بسم الله الرحمن الرحيم



عندما لا تعرف ما هية شىء تفقد جماله إن كان به جمال

وعندما تعرفها وتدرك ما هيته وكنهته ترى فيه للجمال الآخذ ألوان وأشكال

شكراً للأستاذة عفاف ومبارك - وهو طبعاً ليس المخلوع - على مجموعتك القصصية