في البدء كان الترفيه هدف ألعاب الفيديو أو الألعاب الكومبيوترية ... ثم أدى التطور الهائل في تقنيات هذه الألعاب وقدرتها على محاكاة الواقع إلى توجيه النظر إلى امكانية تسخيرها في منحى جديد ناء تماماً عن أي غرض ترفيهي ، وهو استخدامها في أغراض التدريب العسكري... وقد حققت الألعاب الكومبيوترية العسكرية كسابقتها الترفيهية نجاحاً لا يمكن تجاهله .
ثمة مفارقتان في تاريخ نشوء الألعاب الكومبيوترية :
المفارقة الأولى:
------------------
هي أن أول من طور لعبة كومبيوترية تفاعلية -وكان إسمها "لعبة تنس اللاعبين Tennis For Two " هو الباحث ويليام هـيـجيـنـبـوثـام ومساعدوه في مختبر بروكنهافن الوطني التابع لوزارة الطاقة الأميركية، وذلك في العام 1958 ، وكان الهدف من تطوير هذه اللعبة الترفيه عن زوار قسم الأدوات في المختبر ، ولم يكن هـيـجيـنـبـوثـام يتوقع أن تصل آفاق هذه التقنية إلى أبعد كثيراً من حدود الترفيه .
المفارقة الثانية :
------------------
إن الباحث لم يسجل هذه اللعبة في براءة إختراع ، إذ لم يدر بخلده أن الألعاب الكومبيوترية ستصبح يوماً سوقاً رائجاً يفوق حجمه ثلاثين ملياراً من الدولارات سنوياً !!!
وفي تموز 2002 أطلقت وزراة الدفاع الأميركية "البنتاجون" لعبة كومبيوترية للتحميل مجاناًُ من على موقعها على شبكة الانترنت اسمها "جيش أميركا America's Army" وهدفها أن تعمل كإعلان توظيفي لاجتذاب الشباب الأميركي للالتحاق بالجيش . وبالفعل حققت هذه اللعبة نجاحاً كبيراً اذ قام بتحميلها أكثر من 3 ملايين شخص . وفي حزيران 2004 أطلقت البنتاغون لعبة كومبيوترية أخرى بالتعاون مع شركة "بانديميك" للألعاب الكومبيوترية هي "المحارب الشامل Full Spectrum Warrior" في اصدارين أحدهما تجاري والآخر لأغراض التدريب العسكري . وبالرغم من أن إستخدام تقنيات المحاكاة في تدريب الجنود على قيادة الطائرات يعود إلى العام 1929 عندما طور المخترع الأميركي إد لينك أول نظام محاكاة لتعليم الطيران ، فإن التوسع في إستخدام تقنيات المحاكاة التفاعلية لتدريب الجنود على تكتيكات المعارك التي تحدث على أرض الواقع قد بدأ في عام 1999 عندما قررت البنتاجون تأسيس معهد التقنيات الابتكارية ICT وقد تأسس بناء على التوصيات التي نتجت عن ورشة عمل عقدت عام 1996 وشارك فيها ممثلون للكلية البحرية العليا وشركة ديزني للأفلام المتحركة وشركة بيكسار للأفلام المتحركة ووكالة المشروعات البحثية المتطورة (داربا) التابعة للبنتاجون وشركة إنتل للرقائق الكومبيوترية وشركة بارامونت للانتاج التلفزيوني . وكان هدف ورشة العمل هذه التفكير بشأن تصميم تقنيات كومبيوترية وإلكترونية تحسن قدرة الجنود على التعامل مع معطيات وتكتيكات المعارك ، وبصورة تؤدي إلى تحسين وسائل تدريب الجنود وكذلك تقليل النفقات الهائلة التي يتجشمها الجيش لإجراء مثل هذه التدريبات بصورة واقعية .
واضافة الى ذلك كان مما دعم اللجوء للألعاب الكومبيوترية في التدريب العسكري تقرير نشره مركز أبحاث راند RAND عام 2001 وخلص إلى أن الرتب الوسطى في الجيش تعاني من "فجوة تكتيكية" وذلك لأن معظم الأفراد في رتبتي الملازم والنقيب لم يسبق لهم أن قادوا جنوداً في معركة حقيقية، ومن ثم كان لابد من إيجاد بديل يجسر هذه الفجوة .
وتوج هذا الاتجاه بإنشاء مركز فورت سيل على مساحة شاسعة من الأرض ومهمته التدريب العسكري على المعارك التفاعلية عن طريق المحاكاة وبألعاب - أو كما يحب العسكريون تسميتها وسائل مساعدة لاتخاذ القرارات التكتيكية - وتعتمد هذه الألعاب على نموذج يخالف النموذج الذي كان سائداً في التدريب العسكري فبينما اتسمت وسائل التدريب العسكري سابقاُ بالصرامة والروتينية بحيث تتحول استجابة الجندي في أرض المعركة من التفكير إلى الغريزة، فإن النموذج الجديد يعتمد
أولاً- على إدماج الجندي المتدرب "أي اللاعب" في قصة المعركة إذ لم تعد المعارك مجرد طرفين يتبادلان إطلاق النار طوال الوقت وإنما صارت المعارك تتم في وسط المدن والمدنيين بعضهم حلفاء وبعضهم أعداء، وعلى الجنود أن يتعاملوا مع كل هذه العناصر باعتبارها معطيات بيئة المعركة.هذا وقد صممت هذه الألعاب بناء على لقاءات مطولة مع جنود أميركيين شاركوا في عمليات عسكرية في البوسنة والهرسك وأفغانستان .
وثانياً- صمم معهد التقنيات الابتكارية ألعاب التدريب باعتبار أن هيكل الجيش لم يعد هرمياً وإنما باعتبار أن كل فرد بالجيش يمكن أن يتصرف كوحدة في هيكل مسطح تقريباُ وكل الوحدات متصلة مع بعضها بصورة مستمرة وتحظى بقدر من الاستقلال في اتخاذ القرارات، مما يخول الأفراد وحتى في أدنى الرتب العسكرية سلطة استدعاء التغطية الجوية أو المدفعية الثقيلة بصورة فورية .
ولكن السؤال المطروح هل حقق التدريب على الألعاب الكومبيوترية نتائج ملموسة على أرض الواقع وليس على شاشات الكومبيوترات فحسب ؟
الجواب هو نعم ... فقد تأكدت فوائد نموذج المحاكاة منذ البدايات الأولى فمثلاً تزايد عدد النذر باندلاع حرب عالمية ثانية أقنع الرئيس روزفلت بأهمية الاستثمار في نموذج محاكاة اخترعه إد لينك للتدريب على قيادة الطائرات "وقد سبق ذكره" وقدر الجيش الأميركي بعد نهاية الحرب أن ذلك النموذج قد وفر 30 مليون ساعة من التدريب ، كما أنقذ حياة حوالي 500 طيار خلال الحرب العالمية الثانية .
وحديثاً اوضحت دراسة للأسطول الجوي الأميركي أن الطلبة الأميركيين الذين يتمرسون إلى جانب الدروس التقليدية على برنامج " محاكي الطيران Flight Simulator" الذي تنتجه شركة مايكروسوفت تكون درجاتهم أعلى من المتوسط مقارنة بالطلبة الذين لا يتمرسون على البرنامج .
هذا ولا بد من القول ان أحد جنرالات الجيش الأميركي ذكر أن هذه المحاكاة مهما تطورت لن تقدم بديلاً للتمرس الحقيقي على إطلاق النار وغيره من المهام العسكرية التقليدية .
ويعمل حالياً مطورون في قاعدة للجيش الأميركي على تطوير لعبة أوسع نطاقاً وأكثر طموحاً هي "وان ساف OneSaf" والهدف من ورائها أن تعمل كمحاكاة للجيش كاملاً ومن ثم فإنها ليست مجرد أداة للتدريب كسابقاتها وإنما هي موجهة للمخططين العسكريين وقوات الصفوف الأمامية لكي يتمكنوا من تصور السيناريوهات المختلفة للمواقف التي قد تحدث في أجواء المعارك .
كما و طور البنتاجون لعبة -محظور الاطلاع عليها- لحماية البيت الأبيض يتدرب عليها فقط عملاء الخدمات الخاصة وتحوي هذه اللعبة على مخططات تفصيلية لغرف وردهات ومخابىء البيت الأبيض .
بنظرة أكثر تجريداً فإن الألعاب الكومبيوترية هي بالأساس أحد أوجه التطور التقني الهائل الذي يشهده عصرنا ولعل هذا ما يؤهلها للنجاح والانتقال من طور التسلية والمتعة الى أغراض شتى تتجاوز الهدف الذي بدأت به ... فهل من جيش عربي يا ترى فكر باستخدام طريقة المحاكاة لتخفيف الأعباء المادية حتى ولو بنسبة ضئيلة ؟؟ وماهو مصير الألعاب الكومبيوترية العسكرية هل ستصبح مجالاً لمحاكاة الواقع ام أنها سترجع مجرد وسيلة للترفيه ؟؟؟ ام أنها ستظل على حالها وسيلة لإفراغ شحنة معينة ؟؟؟
مع تحياتي
[marq=left]أسعد[/marq]