ودائماً .. كما لن تستطيع أن تهرب من ظلك , أو أن تخرج من جلدك , يسكنك هذا الـ لبنان , وتحاول التقصي عن سر البريق الذي يتمتع به هذا البلد الصغير , ولماذا تبهرك هذه الأهمية التي يحتلها والتي تكاد تضارع أهمية الدول العظمى , فالشأن اللبناني يحتل أعمدة الصحف وتضخ أخباره عشرات القنوات الفضائية على مدار الساعة وعبر سنوات طويلة , فرئيسه قضية .. ورئيس وزرائه قضية .. ورئيس مجلس نوابه قضية , ونوابه كذلك , ووزارته أيضاً .. كيف ؟ ولماذا ؟ أسئلة تطرحها على عقلك كل يوم دون أن تلقى عليها جواباً شافياً , تحاول أن تبسط المسألة , أن " تفكفك" مفرداتها , لكن الأمر يزداد تعقيداً وغموضاً .
تحاول إعادة صياغة وترتيب قراءاتك للشأن اللبناني , فتزداد الأمور تعقيداً في نظرك , ويدخل كل يوم معطى جديد يجبرك على إعادة ترتيب أفكارك وقناعاتك , ويعود بك المطاف إلى المربع الأول.
وربما يصح القول أن لبنان هذا بلد مفتاحي , هو مفتاح هذا الشرق ربما , هو بوابة هذه المنطقة , هو تعبير واضح متحرك عن محيط غامض راكد , وقد تجد نفسك بحاجة لترجمة كل ما يحدث في هذا البلد رغم وضوحه وشفافيته , فلربما تلبس الحقائق فيه العديد من الأقنعة , ويصعب عليك إعادة الكثير من المعادلات إلى القاسم المشترك الذي يحكم مفرداتها , ولعلك تلاقي الكثير من العناء , وأنت تربط الأسباب بالمسببات , وتحاول التمييز بين المقدمات والنتائج أو بين الأسباب والمحصلات , فكلها تنطوي على إشكالية ما , عليك أن تضع يدك على مفارقاتها ومفاصلها وحيثياتها
ولعلي هنا في معرض التعليق على موضوع اغتيال رفيق الحريري وتداعياته , وموضوع المحكمة الدولية التي تمخضت عن ذلك وملابسات عملها , ولكن قبل ذلك لا بد من بسط الملاحظات التالية قبل الدخول في صلب الموضوع عبر مجموعة من التساؤلات :
ــ لماذا اغتيل الحريري ؟ ومن اغتاله ؟ ولمصلحة من ؟ من هو المتضرر ؟ وبالتالي من هو المستفيد ؟ وما المطلوب من لبنان , ولماذا لبنان تحديداً ؟
سوف أقارب هذه التساؤلات عبر عرض سريع حول المناخ العام الذي يسم الواقع اللبناني , وذلك قبل الدخول على موضوع المحكمة والجوانب الفنية والقانونية فيها :
1 ــ دولة لبنان الكبير في الأصل اقتطعت لمصلحة المسيحيين في الشرق , ليكون ملاذاً لطائفة عريضة في هذا الشرق المتعصب , أرادته "الأم الحنون" كذلك في البدء , رغم أن مسيحيي الشرق , وفي لبنان تحديداً , كانوا منارة فكرية وثقافية , وشمعة في ليل تعصب ديني مديد , حكم هذا الشرق العربي لقرون طويلة , فكان المسيحيون رواد نهضة , ورافعة ثقافية , وعنصراً بناءً في كيان هذا الشرق ووجوده وثقافته .
2 ــ كانت الوضعية في لبنان , والديمقراطية الطوائفية التحاجزية التي تسم مكوناته وتربط علاقاته , تتيح قدراً من حرية التعبير والنشر, في محيط كان سمته الاستبداد السياسي والديني عبر فكر ظلامي "قروسطي" معمم , مما جعل من لبنان نافذة حضارية وثقافية , وملاذاً للأحرار والمتنورين ودعاة اليقظة العربية , الذين ضاقت عليهم أوطانهم , فأصبح لبنان منتدى ثقافي وتنويري كبير , ومساحة حرة للفكر وحركة التأليف والنشر , واللجوء السياسي , وشكل بالتالي إزعاجاً مستمراً , في فضاء الاستبداد والأحادية والقهر وتكميم الأفواه , في حيّز لا يراد له أن يستيقظ من سباته المديد , ومعروفة تلك المقولة التي تضيء على شيء من الواقع الثقافي العربي قبل عقود والتي قال قائلها :
القاهرة تكتب , وبيروت تطبع , وبغداد تقرأ .
3 ــ كان لبنان الحلقة الضعيفة في مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي , بعد إنشاء الكيان الإسرائيلي في فلسطين العربية , وكان يسمى جبهة المساندة وليس المواجهة , باعتباره الخاصرة الرخوة والضعيفة , نظراً لخصوصية وضعه وتركيبه السياسي والديمغرافي , وضعف إمكاناته البشرية والمادية والعسكرية , فلم يكن يتحمل تبعات مباشرة في المواجهة العسكرية مع " إسرائيل" .
4 ــ نظراً لحالة الصعود التي مثلها المشروع الصهيوني , خلال عدة عقود , حيث تمكن كيان إسرائيل من تحقيق أهدافه كاملة في المنطقة العربية , فأخرج كل البلدان العربية تقريباً من دائرة الصراع , سواء تلك المتاخمة أو البعيدة , وفق أكثر من سبب أو اعتبار , سواء باتفاقيات أو بغيرها , المهم أن الجبهات العربية لدول الثقل العربي أصبحت خارج الصراع بشكل أو بآخر , وبدأت مرحلة التسوية التي تعثرت على مدار عقود , لأن المنتصر هو الذي يفرض شروطه في النهاية , وكانت النتائج الكارثية المعروفة التي لحقت بكيان الأمة قومياً وقطرياً بخروج أقطار ذات ثقل بكاملها من التاريخ ودائرة الفعل والتأثير , وتحولها من رافعة إلى عبء ومشكلة ( العراق نموذجاً ).
5 ــ وبالنظر لوظائف إسرائيل المتعددة في المنطقة العربية ــ باعتبارها استطالة استعمارية استيطانية لغرب لم تنته مصالحه فيها بعد ــ والتي تحققت في معظمها ــ إذا استثنينا اعتباراً وحيداً , وهو أن من خسر المعركة كانت الأنظمة فقط , ولم تدخل الشعوب حلبة الصراع بطاقاتها ومكوناتها لأسباب لا مجال لشرحها ــ فإن إسرائيل هذه لا تستطيع الاستمرار في وظائفها الحيوية دون محفز البقاء , وهو الشعور بالخطر ,عبر منطق الحافة , والخطر المحدق لتبرير نظرية الأمن واستدرار الدعم وعسكرة الدولة , وهذا يشكل منبهاً دائماً للحؤول دون ترهل الكيان وتبلده , فكان لابد من جبهة توفر المحفزات وتتيح استعمال فائض القوة , وتنذر بالخطر الذي يبرر الوجود والدعم والابتزاز السياسي للغرب , فكان على لبنان أن يلعب هذه الوظيفة مكرهاً دون أن يدرك قواعد اللعبة , وهي تقتضي عدة شروط وخصائص , كان لا بد من توفيرها عن قصد أو عن حسن نية أو عن سذاجة سياسية :
ــ أن يظل لبنان ضعيفاً ويشكل عامل جذب دائم لقوى خارجية لملء الفراغ عند الحاجة أو الضرورة , وهذا يستدعي إضعاف الدولة كمؤسسة كبرى , وإبقاء مؤسسات الدولة الأخرى ضعيفة أيضاً , , لأن ذلك يتيح فرص وإمكانيات التدخل , بمنع الاندماج المجتمعي في إطار الدولة , وتغليب الانتماء الطائفي على الوطني ,وإذكاء هذا الشعور للتحكم بدرجة حرارة التعصب الديني والطائفي وإبقاء إمكانيات تفخيخه وتفجيره قائمة ومتيسرة.
ــ تحييد وإزاحة أية زعامة تستطيع إحداث خرق لحواجز الطوائف , أو تكون عابرة لطوائفها أو تستطيع العبور من دهاليز الطوائفية , نحو رحاب الوطن الجامع ,عبر حالة شعبية ووطنية لا تحركها الغرائزية الطائفية ,بمعنى : إقصاء أو تغييب أية زعامة تستطيع تحويل لبنان من حالة ضعف تستدرج التدخل , إلى حالة قوة تستغني عنه , فهذا النوع من الزعامات , ممنوع عليها الاستمرار أو البقاء , لأن ذلك يقف حجر عثرة في طريق هدف الإبقاء على لبنان بؤرة للتدخل والعبث , ليس فيه وحده , وإنما عبره للمنطقة بأسرها , فكان زعماؤه البارزون ومثقفوه وصحفيوه ضحية وهدفاً لكل القوى التي تستهدف إبقاء لبنان في دائرة الاستنقاع والتحاجز الطائفي , بمحاولة الإجهاز على عقله الثقافي المحرك والمؤثر , والأسماء كثيرة وعديدة ومتنوعة المشارب والاتجاهات , من قادة سياسيين ورجال فكر نيّر وصحفيين ..والجامع بينها الفكر والثقافة والوطنية الحقه والانتماء غير الطوائفي المنفتح والمستنير.
ــ الغريب أن الوضع اللبناني يؤلف بين الأعداء , وتسقط العداوات فيه على مذبح المصالح :
فالعرب وإسرائيل لهم مصلحة مشتركة في بقاء لبنان الطوائفي , في ظل دولة إسمية واجهية , يكون الولاء لها ضعيف وظاهري , فالعرب لهم مصلحة أن يظل لبنان ساحة مفتوحة للتدخل , وحلبة جاهزة لصراع غير جدي ومبرمج بالوكالة ( مع إسرائيل ) للتحريك السياسي , بعدما تنازلوا عن خوض معاركهم بالأصالة , فالنيابة في الحرب أقل كلفة وأسلم عاقبة , يخوضونها بالوكالة من أجل المساومة وفي سبيل تحسين شروط الاستسلام بالحصول على أوراق ضغط لإنقاذ واستمرار أنظمتهم .
وإسرائيل لها مصلحة في استمرار لبنان ساحة جانبية للصراع , لإبقاء شروط تحفيز مجتمعها الذي يترهل بغياب الخطر , ومن أجل صرف فائض القوة التي تملكها بين الفينة والفينة , ولشحذها وتجديدها , لأن عدم صرف الشحنة الزائدة من القوة يضر بكيانها , فبقاء شحنة عالية القوة , في جسد صغير وضيق يؤدي إلى الموت صعقاً بفائض القوة .
ــ لبنان القلق وغير المستقر والمقبوض عليه , يريح العرب من عدوى الحرية والديمقراطية , ومن تصدير الأفكار وتعميم الثقافة وعصرنة الحياة , ومن منطق التعددية , ومن كونه ملاذاً للمعارضين , من حملة الأقلام والأفكار , فكثير من العرب أوحوا لشعوبهم , أن انظروا ماذا تفعل هذه الديمقراطية , وكيف تودي بحاملي راياتها إلى الموت والاقتتال والحروب الأهلية ..! الأسلم أن تظلوا رعية تحت جناحي وفي كنفي ..
وهو ــ أي لبنان ــ يريح إسرائبل أيضاً , ويوفر لها فرص دس أنفها في كل صغيرة وكبيرة , بحجة الأمن والحدود , وبحجة النفوذ من هنا وهناك , فحالة ضعف وإضعاف لبنان وعدم استقراره ,هي حالة مشتركة عربية وإسرائيلية .
ــ لبنان المستقر والمتعايش ينسف فكرة الدولة اليهودية , أو يهودية الدولة , وبالتالي فإن لبنان غير المستقر , يقدم مثالاً على استحالة التعايش الطائفي والديني , لأن ذلك يوفر الذرائع لـ" إسرائيل " لطرد العرب مستقبلاً , فلبنان المتصادم طائفياً يبرر لإسرائيل تهويد الدولة الذي يشكل مقدمة لطرد العرب عبر "ترانسفير" جديدة بحجة عدم إمكانية التعايش , قياساً على الوضع اللبناني .
ــ وجود رجل يعبر الطوائف ليشكل حالة وطنية جامعة , يزعج العرب الذين يهمهم تكريس النفوذ وبقاء إمكانية التدخل , عبر لبنان جريح أو كسيح أو عليل , يستنجد ويستدعي التدخل , فلبنان المعافى غير مقبول عربياً وإسرائيلياً على السواء , وهو يزعج إسرائيل لأنه يأخذ البلد نحو حالة وطنية تجهض هدف إسرائيل البعيد في اللعب على الطوائفية , للبدء بالمرحلة الثانية من التجزئة , التي تجعل من إسرائيل عملاق المنطقة , ذلك أن المرحلة التالية من المشروع الغربي الذي يستهدف الأمة هو التفتيت الطائفي , ولبنان هو الساحة والنموذج .
لنعد لموضوع اغتيال الحريري , والمحكمة الخاصة به , حيث يمكن القول :
لقد عاد الحريري إلى لبنان من بوابتين : بوابة السعودية ومركزها ونفوذها في عموم المنطقة , وما يمثله الوضع السعودي في عالم المال والنفط والإعلام المباشر وغير المباشر .( استطاعت السعودية شراء أنظمة بكاملها ووسائل إعلام مرئية ومسموعة أو رشوتها على الأقل ,على امتداد الوطن العربي , وحتى في الخارج .. والهدف واضح ..) .
وبوابة المال , حيث الحريري يتكئ على عدة مليارات من الدولارات قابلة للزيادة المضطردة , وعلى وضع طائفي محدد , حيث خولته هذه المليارات , أن يلعب دور "السني" الأول في لبنان مضافاً لذلك عدة ميزات منها :
ــ شبكة من العلاقات العربية المميزة عبر الباب السعودي الواسع والمؤثر .
ــ شبكة من العلاقات الدولية مع شخصيات ورؤساء دول ورجال أعمال ومنظمات وهيئات , تجعله في موقع مميز ومؤثر وفعال عبر بوابة المال وبعض الكاريزما الشخصية .
ــ شبكة هائلة من المصالح والشركات ووسائل الإعلام والمنظمات الخيرية التي تدخله إلى كل الشرائح بقوة ويسر .
وهذه .. وغيرها أيضاً يترتب عليها بعض النتائج منها :
ــ تبوؤه مركز رجل السنة الأول دون منازع , حيث لم تكن هذه الطائفة قد عرفت رجلاً بهذه القوة والنفوذ منذ عقود , فلم يكن زعيماً صيداوياً فحسب , بل عبر باتجاه بقية المناطق حتى طرابلس وغيرها قاطعاً خطوط الولاء على كافة الزعامات السنية في بيروت وغيرها من المناطق, وبالتالي وحّد شرائح عريضة من السنة خلف زعامة واحدة , وهذه لم تكن متيسرة لغيره , وبالتالي شكلت قلباً للموازين التقليدية غير المسموح بها لبنانياً .
ــ عبر من خلال وضعيته باتجاه شرائح واسعة من طوائف أخرى عبر ضخ المال والخدمات والإعلام , جعلته رجلاً استثنائياً في بلد لا يحتمل هذا النوع من الرجال .
يتبع