طيف الحنين
دمع الوداع حرّق وجنتيها ، وألهب صدرها الذي يتوق إلى لقاء يستحيل يومــاً بعد يوم وتقول ملوّحة بمنديلها الأحمر :
- الله معك يا محمود ...
ابتعد ماضياً ينشد السفر بعزيمة الشباب ، لكنّ قلبه يخفق بقوّة ترجّ عظام صدره رجّاً ، ويلتفت بسرعة الرحيل ملوّحاً وهو لا يرى منها سوى منديلها الأحمر ... وعندما طوت المسافات قامته أصبح يلحّ على الذكريات والحنين.
كان العيد يطرق الأبواب بالفرح ، يوزّع زينته على الطبيعة والناس ، إلاّها ... حمل العيد إليها سلال الحزن والحنين ، ومثل كل عيد تشيع لحظاته بالصمت والدموع...
تجلس فوق صخرة رمادية أمام دارها تنتظر المارّة لتسألهم :
- هل رأيتم محمود ؟
لقد تغيّر طريق السابلة منذ زمان ، ولم يعد يمرّ أحد من طريق الصخرة ...
تنتصر عليها دموع ساخنة وهي تحاور نفسها :
-هل ابيضّ شعره ؟
-أما زال يحبّني .. أم .. ؟
وتدسّ يدهـــا في جيبها تلتقط منديلاً أحمرَ يكاد يهترئ ، فيعبق المكان بعطر الذكرى ، وتتّكئ على عكّازها مبيضّة الذوائب محنيّة القامة ، تحاول النظر إلى الدرب الذي شهد خطوات رحيله ، فهل تقدر هاتان العينان أن ترياه ؟
* * *
القرية بعيدة ، والشوق يحملني على أجنحة الوصول ... وحبيبة الروح لا تغادر خاطري ، لكنّي أطوي المسافات بساعديّ حتّى أراها...
متى أنعم بالوصول ؟ آه ... من رحلـــة الوصول كم أرهقتني... !!
سأحمل لها سلال الورد والياسمين الذي كانت تعشق عطره... آه يا ربيبة الفؤاد ما نسيتُكِ يوماً ... تُرى ماذا فعلت بكِ الأيام ؟ آه لو أنعم برحيق الوصول قبل أن يصمت هذا القلب.
كان يمشي نحو دارها وقدماه تسبقانه ، وعندما هبّت نسمات شمالية من حديقتها صفّق الحنين بين جوانحه كعصفور يفرّ من قفصه ، كان الشوك والهشيم يغزوان الدار ، واللون الأصفر يسربل المكان والزمان.. اقتفى أثرها من أهل القرية فإذا به يجد نفسه في المقبرة وتحت أغصان السرو تمدّد قبرها ، وكان منديلها الأحمر يرفرف مهللاً ... سقطتْ حزمة الأقحوان من يده وسكبت دموعها العطرة حتّى توحّدت مع قبرها واشرأبّت ترسم ربيعاً دائماً ، لكنّه غرق في بحر عميق من الوحشة وسربلته عباءة الغربة واحتواه صقيع الصمت...
وعندما سربل الظلام المكان وهتفت عربات الليل ترحّب بالنجوم كان قد تناثر أنجماً خضراً وقناديل ورديّة تنير قبرها وترسل الضياء حتى نهاية المدى...