لا شك بأن أي إنسان لامس روح وفكر أستاذنا الكبير نجاة قصاب حسن سيقف مشدوها أمام هذا الدمشقي الغريب الذي انطوت تحت عباءته عشرات الشخصيات التي تمازجت حتى صارت نجاة قصاب حسن ، ولعل صديقه عاصي الرحباني قد أبدع عندما وصفه فقال : إن الله قد خلق نحاتا فتبقى من الطين الذي خلقه منه شيء قليل فتركه ، ثم خلق شاعرا فبقي من طينته كذلك شيء فتركه وهكذا خلق موسيقيا وأديبا وناقدا وسياسيا ومن كل هؤلاء جمع ما بقي من طين خلقهم وأبدع نجاة قصاب حسن ..
كان اسمه الذي جرت العادة على أن يكون اسما لفتاة وليس لشاب مصدر إزعاج له في طفولته ولكنه تعلم منه كيف يحول الصخر إلى رمال ، تعلم منه كيف يعطي هو بعمله للأشياء قيمتها ومعناها فأنسى الجميع أن يبتسموا كلما سمعوا اسمه وعلمهم أن ينصتوا إليه بكل احترام وتقدير .. ولأنه كان يكبرني بجيل كامل فلم أعرفه إلا الأستاذ نجاة رجل القانون والأدب والفكر …
كانت أمتع أوقاتي وأكثرها غنى تلك السويعات التي أركن بها إلى كنف هذا العاشق الدمشقي الذي يفيض كنهر عذب جمالا وحكمة وذكريات وأفكارا .
كنت قد تعرفت إلى صوته وصورته عبر إذاعة دمشق وتلفزيونها يتحدث بالقانون وهو المحامي العتيق القدير بأسلوب لا يقارب ولا يشابه أحدا من أهل القانون ، فالقانون على لسانه لم يعد نصوصا جافة بل صار روحا وجسدا يمشي على الأرض ، وكان حديثه يشد الجميع إليه و هو يخلط الخاص بالعام والقانون بالواقع والحلم .
أذكر أن مستمعا سأله مرة عن قتل خطأ نتج عن العبث بسلاح ناري فروى أنه شخصيا كان عند صديق له في مدينة دوما القريبة من دمشق في شبابه ، وكانت هناك بندقية عثمانية قديمة وضعت على الجدار كتحفة فأنزلها ليعبث بها وسأل صديقه هل تعمل هذه البندقية ؟ فأكد له أنها خربة منذ عشرات السنين ، فأمسك بها ووجهها إلى صديقه وأراد أن يمازحه بأن يتظاهر بأنه يريد إطلاق النار عليه ، ولكن يد الله منعته من ذلك فرفع البندقية إلى السقف وأطلق منها فإذا برصاصة تنقذف منها مدوية ، فتصفر وجوه الجالسين ثم يشكرون الله على لطفه ، وهنا قال أستاذنا مخاطبا المستمعين : تصوروا لو أنني صوبت تلك البندقية إلى صدر صديقي كيف كانت حالتي اليوم ربما لم أكن نجاة قصاب حسن الذي تعرفونه وربما لم أكن هنا الآن لأحدثكم ….
سمعت حديثه ذاك ولعلي كنت ابن عشر أو تزيد فلم أعبث بسلاح قط في حياتي ولم أوجه ولو سكينا إلى أحد مازحا …. وكانت برامج الأستاذ متعة لي وأنسا إلا أنه لم يكن يخطر في بالي أبدا أن ذاك الكهل الكبير سيصبح لي من الشرف يوما أن يلقبني بصديقه وأن يكتب لي ذلك …
حدث هذا عندما كنت أبحث عن محام لاستشارة قانونية فقال لي أحد معارفي سآخذك إلى مكتب الأستاذ نجاة قصاب حسن فقلت له : إن المسألة بسيطة ومحام كالأستاذ نجاة لا يمكن أن يضيع وقته فيها ، فابتسم وقال لي : تعال معي ، فأنت لا تعرفه ..
صعدت الدرج إلى مكتبه في تلك العمارة القديمة ودلفت إلى مكتب لم يكن يشبه كل ما عرفته من مكاتب المحامين فهو أقرب إلى صومعة أديب أو فنان منه إلى مكتب محام عتيد ، تطالعك فيه لوحة كتبها بخط يده الجميل ( لا تغضب فتخسر ) ووراء أكداس الكتب العربية والفرنسية وبين لوحات أهداه له أصدقاء كثيرون كان ذلك الكهل اللطيف يجلس ثم قام ليستقبلنا بابتسامة أحلى من نمورة دمشقية ، ولم تمض غير دقائق حتى سبر العجوز غوري ورأى أنني مشروع شاعر حرام أن يضيع في زحمة البيع والشراء ، كان شيئا كالخيال أن تجد نفسك وأنت الشاب الصغير صديقا لهرم دمشقي حقيقي يضم الكثير من كنوز الحياة لا من آثار الموتى …
تعددت لقاءاتنا وتنوعت ، وذهلت عندما قبل دعوتي إلى منزلي بكل تواضع ويسر ، بل وقبل أن يصحبني إلى مطعم ( أبي العز ) الدمشقي العريق ليتحلق حولنا كل عمال المطعم بل ورواده دون أن يعكر ذلك مزاجه ودون أن تفارقه ابتسامته ورقته ، وليدعوني بعدها إلى تناول الطعام معه في مطعم القنديل ( لاتيرنا ) والذي يملكه أخوه وكان مطعما غريبا تجمع فيه نخبة من المثقفين اليساريين ، وازدانت جدرانه بلوحاتهم .
أحاديثنا حلقت في كل ركن قصي وفي كل زاوية دمشقية ، كان موسوعة لا يكاد يوجد في دمشق ما لا يعرفه فهو يعرف كل خباياها وعائلاتها وأسرارها وفضائحها ، ولكنه لم يكن يشي أبدا بشيء يسيء فهو خزانة أسرار مقفلة لم يوجد من يفك طلاسمها ، وظل لا يتحدث إلا بكل جميل فدمشق معشوقته الأولى وحبه الحقيقي ، وهو يسمح لك بأن تختلف معه في كل شيء بل إنه يسر كلما اختلفت معه فنجاة لم يؤمن لحظة بأنه احتكر الحقيقة ولكن دمشق لا ينبغي عندها أن نختلف ،،،،
قلت له أما زلت يساريا ؟ ابتسم وقال في عمري هذا الحياة أقصر من أن يبقى فيها يمين ويسار ….والله ؟ ! محبة لا تنتهي …. وقال لي انظر إلى هذا الخط الطويل الممتد في توقيعك وكأنه يسير إلى اللانهاية …. تأملت في توقيعي وكأنني أراه للمرة الأولى فقال لي : ( أنت أللاوي ) ، وصمت برهة ثم قال : ليتك تظل هكذا .
كان صوفيا إن رأيته من إحدى زواياه ، وماديا إن قلبته من وجه آخر ، مثاليا من زاوية ومنفلتا من أخرى ، منغلقا من مكان ، ومنفتحا من جانب آخر …
عجيب أمره كأنما أراد أن يعكس صورة دمشق على روحه حيث يلتقي السهل والجبل والغوطة والصحراء والماء والجفاف ، والمحراب والمذبح …والدراويش والتجار ..
لم يكن يحمل أي حقد فقد مرت سيرة رجل أعمال سيء الصيت يوما فابتسم وتذكر أن له مواقف ( زكرتيه ) فلم يكن نجاة يذكر إلا أجمل الخصال في كل امرئ عرفه .
و لعل من أحلى صفاته أن كلمة الحق لديه كانت أقدس من أي شيء وإن غلفها برقته ولطفه دون أن يناور أو يراوغ فيها ، ففي وقت كان الناس يخشون انتقاد السلطة لم يكن يخشى أن ينتقد علنا أي سياسي في الدولة ما دام انتقاده يصب في مصلحة الناس،
وكنت مرة قد وقعت في خلاف مع منظمة حكومية وظننت أن حقي معها قد يضيع ولكنه أصر على أن يعيد حقي كاملا دون أن تنقص منه ليرة واحدة وقد صار ما أراد وسط ذهول الكثيرين من أني آخذ حقي من ( الدولة ) بالقانون ودون أن أدفع رشوة أو أسخر ( واسطة ) .
وبلغ من حرصه على أن يأخذ المواطن حقه أنني أخبرته بأن رجل أمن صادر مني كتابا عندما كنت قادما من لبنان إلى دمشق فغضب وقال : ليس ذلك من حقه سأرفع دعوى ضدهم وأسترد الكتاب ، فقلت له : بأن القضية لا تستحق والكتاب لا يساوي أكثر من عشرة دولارات ، ولكنه أصر ، وقال لي : عندما تعود إلى الحدود طالبهم بإيصال وإن رفضوا فدعهم لي ، ولما ذهبت إلى الحدود فتشت عن رجل الأمن وقلت له أريد إيصالا بالكتاب الذي صادرته مني ، فقال : حقك ، ولكن لماذا ؟ قلت سأرفع عليكم دعوى … قال ومن المحامي الذي سيرفع دعوى من أجل كتاب ؟ قلت الأستاذ نجاة …..فقال خذ كتابك والله معك وسلم لنا عليه …
فعدت إليه ضاحكا وأخبرته بما حصل فقال : مشكلة مواطنينا أنهم لا يعرفون حقوقهم وهذا ما يجعل ضعاف النفوس يستغلون الناس ، ولو عرف كل مواطن حقه ورفض أن يتنازل عنه لكنا أفضل شعوب الأرض .
وشدة الأستاذ نجاة في إنصاف موكليه تجتمع مع ميله إلى حل أية قضية تواجهه بالصلح فهو يعتقد بأن القضاء يئن تحت سيل جارف من القضايا وأن واجب المحامين أن يصلحوا بين الخصوم لا أن يقذفوا بهم إلى أتون المحاكم ، وقد كان لي خلاف تجاري وكان يعلم أن حقي مؤكد واضح ولكنه آثر أن يجتمع مع الخصم ومحاميه وتم الاجتماع في مكتبي ولم تنقض أكثر من ساعة إلا والخلاف قد ذاب والقضية قد سويت وقد عجبت يومها لشدة تواضعه واحترامه لزملائه فقد كان محامي الخصم شابا والأستاذ نجاة له بمثابة الأب أو الأستاذ ولكن هذا لم يمنعه من التعامل معه بندية واحترام ومع الخصم بتفهم وحنو ، فنجاة المحامي إنسان ومصلح ورجل يمشي ووراءه من الخبرات والمعارف سنوات تمتد إلى بعيد .
ونجاة في تقبله للآخر المختلف آية في الانفتاح مع اعتزازه الشديد بوطنه ومدينته وفكره ، فاحترامه للآخر غيض من فيض حبه وتوازنه الروحي العميق ، فهو الوطني الكبير الذي يرفض ذكر اسم جنرال فرنسي أجرم في حق دمشق وكان اسمه يطلق على إحدى ساحاتها ثم تغير إلى اسم آخر بعد الاستقلال ، ولكنه ينهل بشوق من كل فكر وكل حضارة والفرنسية تنساب على شفتيه عذبة رقيقة ( لأن للحب آلاف اللغات ) .
والآخر كان عنده دائما حاضرا وكأنه منه فحكمته جعلته لا يرى في الآخر إلا إنسانا مثله ولكن المتعصب في فكره شكل لأقبح ما في الكون وإن كان قريبا منه في جنس أو لون أو دين
ذاك نجاة قصاب حسن في صور قصيرة من ذكرياتي معه وليت إذاعة دمشق تعود إلى ارثه الضخم وتعيد إذاعته فإن صوته أعذب من أن ينسى وأخلد من أن يذوب …