قضايا فكرية نقلا عن مجلة الفكر السياسي
التفاؤل التاريخي ـــ بقلم المفكر الأديب عبد اللطيف محرز
قال: ألا تشعر بالإحباط، وأنت ترى ما يحدث أمامك على الساحة العربية؟. ألا تحس بأن قصائدك القومية، ليست إلاّ فقاعات ملونة تذوب في حرارة المأساة في هذه الحياة.؟..
قلت: ربما أشعر بشيء من الإحباط، ولكن ثق بأنني أبعد ما يكون عن اليأس بل إنني أكثر ما يكون إحساساً بملامح أبجدية جديدة تتكون في ظلمة الأحداث، ومن حروف هذه الأبجدية سيكتب المناضلون قصيدة الصباح المقبل.
قال: إنك إنسان خيالي. هل غابت عنك الحقائق [ثلاثية الأبعاد] التي تتحكم بمصير العالم عامة، وبمصيرنا العربي خاصة.
1-هناك دولة واحدة هي الأكثر قوة وتسلحاً، والأبعد عن معايير القيم والأخلاق. تسعى لفرض حضارتها على الشعوب في إطار عولمة (سوقية الاتجاه). تتصرف على هواها بدافع من جنون العظمة، لا تأبه بالشرعية الدولية إلا بمقدار ما تخدم أطماعها.
2-هذه الدولة المتغطرسة، وجدت في المشروع الصهيوني مثالها التاريخي [وجوداً وتوسعاً وعدوانية]. فمنحته الحنان ووعدته بالأمان، وأرخت له حبل العنان لممارسة العدوان.
وظللت بجناحيها القويين كيانه الإسرائيلي، حماية ورعاية وتحالفاً، وصل في هذه الأيام إلى مستوى التحالف العقائدي توراتياً. وأصبح الطاغية (شارون) هو الرجل الذي تبيض حمامة السلام على جبهته نظراً لوداعته وحبه للسلام.
3-هذه الدولة الكبرى التي تتصدى لقيادة العالم، متحالفة مع الصهيونية؛ تعتمد قوتها الداخلية على غريزة العداء الخارجي.
أي على إيجاد عدو خارجي تناصبه العداء، وتستنفر كل طاقاتها للانتصار عليه. هذا العدو تمثل في الشيوعية في المرحلة السابقة ولكنه الآن يتمثل بالإسلام وخاصة بالجوهر العربي من هذا الإسلام. وقد أصبح هذا الأمر أكثر تحديداً بعد أحداث أيلول.
واستأنف محدثي كلامه بنبرةٍ يائسة: كيف وهذه الحقائق الثلاث تحاصر أحلامنا، وتصادر كل غيمة تمر بآفاقنا تشعر بالتفاؤل؟ ما قيمة تفاؤلك الشاعري هذا؟.
قلت: إن العولمة المتأمركة بأبعادها الثلاثية، ليست ثابتة، وليست خالدة؛ ولا تشكل السقف النهائي للمسيرة البشرية. وإنّ تفاؤلي يعتمد على حقيقتين خالدتين هما: حركية التاريخ وفاعليته على مدارات التحول الدائم؛ أولاً. ثم نضال الشعوب واستعدادها للمقاومة حتى الشهادة في سبيل حريتها وكرامتها ثانياً.
اقرأ التاريخ، قديمه وحديثه، وتوقف عند هواة الحروب، والطغاة من الحكام، الذين برزوا في مسرى تياره. وفكر كيف عاشوا قليلاً ثم ابتلعهم التيار بعد ذلك. وتجول في أنحاء الإمبراطوريات التي عاشت في الماضي ولاحظ كيف طوتها أمواج التاريخ..
كل شيء يا صديقي يأتي ويذهب، يحيا ويموت، لا شيء يبقى إلا مبدأ التحول التاريخي المستمر. وهذا المبدأ التاريخي لن يقف عاجزاً أمام الغزوة الاستعمارية المتصهينة، ولا أمام الإمبراطوريات الرومانية الجديدة المتأمركة.
صحيح أن هذه الحتمية التاريخية لا تعمل في الفراغ، ولا تتحقق إلا من خلال إرادة الإنسان، فالله –جل جلاله- لا يغيّر ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم. ولكنّ الناس يتغيرون حتماً ويغيرون واقعهم بحسب الظروف التي تحيط بهم. وكما يفرز الجسم الحي المضادات الحيوية لمقاومة الداء، هكذا تفرز الشعوب بوعي طليعتها المناضلة للدفاع عن حقوقها واستقلالها ضد الغزاة، وعلى أدباء الشعوب وشعرائها ومفكريها، أن يساعدوا بكتاباتهم على التسريع في تكوين وتشجيع هذه الطليعة المقاومة.
ليس شاعراً من لا يحاول استنبات النبضات المضيئة في حياة أمته، وليس أديباً من لا يزرع بذور التفاؤل في نفوس أبنائها، وليس مفكراً من لا يغزل من خيوط الظلام ثوب الفجر المضيء.
قال: يا سبحان الله!! أحدثك عن حالة واقعية محسوسة نعيشها ونكاد نختنق من سموم أنفاسها؛ فتقفز هارباً من واقعك إلى رحاب القوانين التاريخية العامة. البعض يهرب إلى الأمام، ولكنني أراك تهرب إلى الوراء، إلى حوادث التاريخ الماضية، لتكتب من حروفها الميتة أشعار تفاؤلك الجميل.
قلت: التاريخ هو المعلم الأكبر. ومن أهم واجبات المثقف أن يتعرف على الخطوط العريضة للتاريخ الإنساني عامة؛ وعلى الخطوط العريضة والتفصيلية من تاريخ أمته خاصة.
وفي مجال التفاؤل التاريخي إليك هذه الحادثة من سجل تاريخنا العربي الإسلامي وفحواها كما يلي: في غزوة الأحزاب أحاط المشركون بمدينة الرسول (() وأصبح المسلمون في المدينة في أشد حالات الخطر. وقرر الرسول حفر خندق حول المدينة وراح يشارك المسلمين في عمليات الحفر، ويحدثنا الرواة بأن صخرة استعصت على معاول الحافرين، فأخذ الرسول (() المعول وضرب على هذه الصخرة ثلاث ضربات، وفي كل ضربة كانت تنبعث شرارة، فتوقف عن الحفر وخاطب المسلمين حوله قائلاً: لقد رأيت على ضوء الشرارة الأولى أرجاء بلاد الشام وقد فتحت لنا، ورأيت في ضوء الثانية قصور اليمن، وفي ضوء الثالثة إيوان كسرى، إنه يبشر وهو في دوامة الخطر المحسوس بأنه رسالته المحاصرة الآن ستنشر منتصرة في بلاد الشام واليمن وفارس مستقبلاً. فيا له من تفاؤل عظيم ينسل خيوط النصر من قلب الهزيمة المتوقعة.
ونحن الآن ولا شك محاصرون بأشرس الغزوات الاستعمارية ولكن من خيوط الضياء في دماء الشهداء، وخاصة في رحاب فلسطين، ألمح تباشير فجر جديد لنصرنا المستقبلي المجيد.
نقله للمنتدى المحامي ياسر محرز