د. عبود السراج لمجلة الميزان:
إلغاء محكمة الأمن الاقتصادي قرار خاطئ في دولة تحارب الفساد
أؤيد ارتباط الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بمجلس الشعب
التعقيدات الشديدة في عقود الدولة لجهة الإعلان واستدراج العروض وفض العروض وإتمام عمليات المناقصة والتصديق على العقود أدت إلى ضياع المسؤولية بين المعنيين
لا تكفي إجازة الحقوق ليعمل حاملها مفتشاً في الهيئة
لا أتخيل كيف تُلغي دولة تحارب الفساد محكمة الأمن الاقتصادي.
القصر العدلي مليء بالسماسرة الذين يدّعون بأن لهم علاقة بالقضاة
حوار المحامي أيمن بهلول: مجلة الميزان
شكل ثالوث قانون العقوبات الاقتصادية والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش ومحكمة الأمن الاقتصادي مصدر رعب وخوف لكل العاملين في الدولة بمختلف وزاراتها ومؤسساتها وإداراتها، وإذا كان عدد كبير من موظفي الدولة ومتعهديها كطرفين في عقود الدولة ومشاريعها قد أوصلتهم تلك العقود أو المشاريع إلى السجن، وبأحكام وصل بعضها إلى الإعدام، ومعظمها قضى بالأشغال الشاقة الطويلة، وقليل منها قضت بالسجن لأقل من ثلاث سنوات، فإن أضعاف هذا العدد من الموظفين والمتعهدين أحيلوا إلى القضاء واتخذت بحقهم إجراءات الحجز الاحتياطي والتوقيف الاحتياطي وما يلحق ذلك من نتائج تضع سمعة الموظف والتاجر في الحضيض، وتهدم كلّ ما بناه، ثم يثبت فيما بعد أن لا جريمة ارتكبت ولا مخالفة وقعت.
صدور قانون العقوبات الاقتصادية، إحداث الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، تشديد العقوبة، تخفيضها، إحداث محاكم أمن اقتصادي، إلغاء محاكم الأمن الاقتصادي، توقيف احتياطي، حجز احتياطي،.. كل ذلك.. وما زال الفساد صامداً ويزداد انتشاراً..
مجلة الميزان وضعت هذه المعطيات وإلى جانبها هواجس الموظفين والمتعهدين على طاولة الحوار مع الأستاذ الدكتور عبود السراج أستاذ القانون الجزائي وأستاذ أكثر من نصف حاملي شهادة الحقوق من جامعة دمشق، مؤلفاته وخبرته وسعة اطلاعه جعلت منه مرجعية علمية حقوقية مرموقة، وكان الحوار التالي:
• يعتري العلاقة مع متعهدي المشروعات العامة الكثير من الإشكالات خلال تنفيذ عقودهم، ما يؤدي إلى اتخاذ إجراءات متفاوتة ضدهم وضد الموظفين المعنيين. ما هي الانعكاسات على الطرفين برأيكم؟
يقع خلال تنفيذ العقود، عادة، تجاوزات وأخطاء تستوجب اتخاذ إجراءات كالحجز الاحتياطي على أموال فريق العمل كاملاً، أو على كل من له صلة بتنفيذ العقد، متعهدين أو موظفين. وعندما يصل الموضوع للقضاء تتخذ إجراءات قاسية تصل إلى حد التوقيف، الذي يكون مبرراً أحياناً وغير مبرر أحياناً أخرى. وهذا ما يؤدي إلى تدمير سمعة الموظف ومركزه، والحال كذلك بالنسبة للمتعهد، إضافة إلى تعطيل أعماله. وبالتالي ينعكس هذا في اتجاهين: الأول على الموظفين الذين تتراجع لديهم دوافع المبادرة، ويتقلص الاجتهاد ويحل محله التريث والتعطيل والمماطلة، ويصبح هناك تخوف من البت في أي مسألة، تجنباً للتبعات اللاحقة. والانعكاس الثاني يكون على المتعهدين الذين يحجمون عن التعامل مع الدولة، فتدفع الدولة الثمن، لأن أسعار العقود تصبح مع الوقت عالية جداً، وهذا يرتب على الدولة خسارة مبالغ طائلة لا تقل أهمية عن تلك التي يُدَّعى بضياعها.
التعقيدات الشديدة في عقود الدولة لجهة الإعلان واستدراج العروض وفض العروض وإتمام عمليات المناقصة والتصديق على العقود أدت إلى ضياع المسؤولية بين المعنيين
• إذاً كيف يمكن توفير جو آمن للمتعهدين يشجعهم على تقديم عروض أفضل للدولة، دون أن يتعرضوا للمساءلة؟
يجب العمل على تقليل الأسباب التي تعرقل عملهم. في السابق كان عشرات المتعهدين يتقدمون للعروض لكن هذا الوضع انحسر حالياً، وأصبح عدد المتقدمين أقل، خشية التعامل مع الدولة لأسباب عديدة.. مثل التأخر في تحرير الكفالات.. التأخر في دفع الاستحقاقات..البطء الشديد في عملية الاستلام والتسليم. وأحياناً يكون هذا التأخر دون مبرر قانوني، وقد يكون بسبب تخوف الموظف من المساءلة إذا أعطى الموافقة على الاستلام أو تحرير الكفالات. وكذلك التعقيدات الشديدة في عقود الدولة لجهة الإعلان واستدراج العروض وفض العروض وإتمام إجراءات المناقصة والتصديق على العقود، التي غالباً ما تؤدي إلى ضياع المسؤولية بين اللجان المكلفة بأعمال المناقصات، وبين الموظفين والمتعهد. وهذه الإجراءات الطويلة والمعقدة انعكست سلباً على النشاط الاقتصادي والعملية الاقتصادية.
• ما هو القانون الذي يحكم هذه القضايا من الناحية الجزائية؟
منذ عام 1966 صدر المرسوم التشريعي رقم 37 المتضمن قانون العقوبات الاقتصادية. وللمرة الأولى في سورية أحدثت جرائم سميت بالجرائم الاقتصادية. وكان الهدف من ذلك هو قمع عدد من الجرائم الموجّهة ضد الاقتصاد الوطني للحيلولة دون قيام بعض الأشخاص بأفعال من شأنها أن تعرقل النشاط الاقتصادي في الدولة، المرتبط بشكل أو بآخر بالنشاط الإداري. لذلك تضمن هذا القانون عدداً من النصوص شديدة العقوبة، وللمرة الأولى نرى جرائم اقتصادية يعاقب مرتكبوها بالأشغال الشاقة لمدة 15 سنة وأكثر. وقد أجريت على هذا القانون بعض التعديلات وما زال نافذاً ومعمولاً به حتى الآن، ويطبق على الجرائم الاقتصادية، والتي تشمل بطبيعة الحال القضايا موضوع حديثنا ذات الصلة بعقود الدولة ومشاريعها.
• ما هي الجرائم الاقتصادية؟
هي جميع الأفعال التي تتعارض مع السياسة الاقتصادية للدولة أو تقع على الأموال العامة. والجرائم الاقتصادية في سورية ليست هي فقط الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 37 عام 1966، وإنّما هي أي جريمة تمس النظام الاقتصادي وتتعارض مع السياسة الاقتصادية للدولة. مثال ذلك (جرائم التموين والتسعير – جرائم الغش والتدليس – جرائم التهريب – الجرائم الجمركية – جرائم تداول الأموال الأجنبية وتهريب الأموال خارج سوريا والجرائم التي نصت عليها بعض القوانين الاقتصادية الحديثة، كقانون حماية المستهلك، وقانون سوق الأوراق المالية، وقانون المنافسة ومنع الاحتكار...) أي إن لكلمة جرائم اقتصادية شمولاً أوسع مما سعى إليه قانون العقوبات الاقتصادية النافذ في سورية.
• ما هو دور الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش في كل ذلك؟
الهيئة المركزية هي هيئة رقابية مستقلة ترتبط برئيس مجلس الوزراء، هدفها حسب قانون إحداثها تحقيق رقابة فعالة على نشاط إدارات الدولة ومؤسساتها المختلفة، من أجل تطوير العمل الإداري وحماية المال العام.
وعندما تضع الهيئة المركزية يدها على أي قضية في مجال عملها الواسع والذي يشمل وزارات الدولة ومؤسساتها وإداراتها بمختلف اختصاصاتها الإدارية والخدمية والاقتصادية، تباشر التحقيق من خلال مفتشيها المركزيين أو المعتمدين في فروع المحافظات، وغالباً بالتنسيق مع مديرية الرقابة الداخلية في المؤسسة المعنية، حيث يرفع هؤلاء تحقيقاتهم الأولية إلى المجموعة المختصة، باعتبار أن الهيئة تنقسم إلى عدد من المجموعات كل منها تختص بقطاع معيّن (اقتصاد – صناعة – زراعة – تعليم – صحة - بناء - إعلام وثقافة...)
وهناك خطوات حددها نظام الهيئة تنتهي باعتماد رئيس الهيئة تقريراً نهائياً يتضمن ما آلت إليه التحقيقات، وما اعتمدته الهيئة من مقترحات لتنفيذها بحق المعنيين، وقد تكون توصيات للجهة المعنية بإقالة أو تغريم المخالفين أو نقلهم أو استرداد مبالغ منهم.. وإذا وجدت الهيئة أن الفعل المرتكب يشكّل جرماً جزائياً تحيل التقرير إلى القضاء طالبةً المحاكمة استناداً لتوصيفها للفعل المرتكب.
• هناك مطالبات أن تكون الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش تابعة لرئاسة الجمهورية أو إلى مجلس الشعب، وهناك من يقول أن تبعيتها لرئيس مجلس الوزراء تضعف من استقلاليتها وتضعها تحت السلطة المباشرة للسلطة التنفيذية.
وزارة العدل بما فيها الجسم القضائي تتبع لمجلس الوزراء، كغيرها من وزارات الدولة.
• لكن تدخّل السلطة التنفيذية بالسلطة القضائية ليس وفق القانون، فهل توجد نصوص قانونية تتيح لرئيس مجلس الوزراء التدخل في قضية معينة أمام القاضي؟
لا يوجد نص على عدم التدخل ولكن يوجد نص المادة 133/1 من الدستور التي تنص على أنّ "القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون". وهذا النص يعطي للقاضي استقلالية كاملة، وهو محصّن من النقل والعزل، وأيضاً فإنّ أعضاء الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش يتمتعون بحصانة مشابهة.
• ولكن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش تأتمر خطياً وتنظيمياً بأمر رئيس الوزراء؟
ليس من حيث النتائج، وإنما لبدء التحقيقات، أو لحفظ القضية، أو للإسراع في القضايا المتعثرة.
• هناك حالات يتدخل فيها جار القاضي مثلاً أو صديقه بالطريقة نفسها التي يمكن أن تتدخل فيها الحكومة أي بشكل غير قانوني وغير مباشر، أما فيما يتعلق بالهيئة المركزية للرقابة والتفتيش فلرئيس مجلس الوزراء أن يعطي أوامر إلى الهيئة بشكل مباشر لطي تحقيق معيّن، لكن لا يستطيع أن يعطي للقاضي أمراً بطي قضية معينة.
شخصياً أعتقد أن نظام الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش يحتاج إلى إعادة نظر شاملة، ولإزالة الخوف من ارتباط الهيئة بالسلطة التنفيذية، فالحل الأفضل باعتقادي أن تكون الهيئة مرتبطة بمجلس الشعب، بما له من سلطة رقابية واسعة على جميع مؤسسات الدولة. ووفقاً للدستور فإن مجلس الشعب ليست له سلطة رقابية وحسب وإنما أيضاً لديه سلطة جمع المعلومات وتقصي الحقائق في الموضوعات التي تتعلق بممارسة اختصاصه (المادة 73 من الدستور). ولكي نحصن الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش يجب أن لا يكون هناك مجال للتدخل في أعمالها من أي جهة كانت في الدولة، بما في ذلك رئاسة مجلس الوزراء. وإذا طلب رئيس مجلس الوزراء أو الوزير المختص من الهيئة البدء بالتحقيق، فلا يجوز لأحد أن يوقف هذا التحقيق، تماماً مثل ما هو الحال في القضاء.
لا تكفي إجازة الحقوق ليعمل حاملها مفتشاً في الهيئة
• وكيف تقيّم سير مجريات التحقيق داخل الهيئة؟
التحقيقات التي تقوم بها الهيئة تتطلب اختصاصيين مؤهلين، لكن حقيقة الأمر أن هناك نقصاً في تأهيل الحقوقيين الذين يقومون بالتحقيق. وفي نظري لا تكفي إجازة الحقوق ليعمل حاملها مفتشاً في الهيئة. علماً بأنّ الهيئة حاولت تأهيل كوادرها بدورات تدريبية عدّة مرّات، لكن ومن أجل أن تأخذ الهيئة دورها يجب أن يكون أعضاؤها مؤهلين في العمل التحقيقي، وأن تسعى كي تكون التحقيقات على قدر كبير من الدقة والعناية، بحيث لا تُرسَل هذه التحقيقات إلى القضاء إلاّ إذا توفرت الأدلة المرجحة، وكانت التحقيقات مكتملة من مختلف جوانبها، ومدروسة من الناحية القانونية، لأنّ القضاة غالباً ما يتأثرون بتقارير الهيئة ويحكمون بمقتضاها. وهذا ما كان يحصل في محكمة الأمن الاقتصادي وما يحصل اليوم في محكمة الجنايات.
• ينسب للهيئة أنها تضع يدها على الكثير من قضايا الفساد التي تفتقر للأدلة القاطعة، فتسند لأطراف القضية جرائم التواطؤ لاختلاس المال العام، وتترك للقضاء مهمة التقصي وكشف الأدلة، لكن ما يحدث أن هذه القضايا تطوى في القضاء لاحقاً. ما رأيك بهذا الكلام؟
كما ينسب هذا الكلام للقضاء، يمكن أن ينسب إلى الهيئة بحجة أنها تطوي قضايا فساد دون إحالتها للقضاء. وأنا لا أقبل بكلا القولين. فمن المفروض أن تحيل الهيئة إلى القضاء القضية المدعَّمة بوقائع ثابتة، وفيها من الأدلة ما يرجح على الأقل احتمال ارتكاب الجرم. وإذا كانت الهيئة فعلاً تضع يدها على قضايا فساد ولا تستطيع إقامة الدليل على الجرائم المرتكبة فالعيب في الأنظمة التي تسمح بوجود قضايا فساد وبمرورها دون أن تُضبط في مفاصل معيّنة. ونحن نرى أنّ من الواجب السعي لخلق منظومة عمل في عقود الدولة وتنفيذ تعهداتها منضبطة وسهلة المراقبة. وأعتقد أنني قلت إنّ من أولى مهام الهيئة المساهمة في تطوير العمل الإداري. وبإمكانها التعاون مع الجهات المختصة لوضع إطار صحيح لا يترك ثغرات كالتي أشرنا إليها.
• أجبتنا على شق من السؤال، ماذا عن الثاني؟
تقصد الفساد في القضاء، أنا اطلعت على الاستبيان الذي نُشر في جريدة الثورة المتعلق بالفساد، والذي انتهى إلى إن القضاء رقم واحد وتأتي بعده البلديات ثم الشرطة ثم الجمارك على ما اعتقد.
• لو شاركت في هذا الاستبيان ماذا كنت تقول؟
أشك في أن القضاء رقم واحد، وفي ذلك مبالغة لا أقبل بها.
• هناك من يرى دوراً كبيراً للمحامين في الإساءة لسمعة القضاء من خلال الترويج بأن القضاة فاسدين، وبأنّ الدعوى لا تمر بدون دفع مبالغ معينة للمحامين بحجة دفعها للقضاة، وذلك لكي يتمكنوا من تحصيل أتعابهم أو لتبرير خسارتهم للدعاوى. ما هو تعليقكم؟
القصر العدلي مليء بالسماسرة الذين يدّعون بأن لهم علاقة بالقضاة
للسماسرة دور كبير جداً في الإساءة لسمعة القضاء. ومن المعروف أن القصر العدلي مليء بالسماسرة الذين يدّعون بأن لهم علاقة بالقضاة، وأنهم قادرون على الحصول على إخلاء السبيل أو البراءة أو الحكم لصالح المدعي أو المدعى عليه لقاء مبالغ مالية يدعون بأنهم سيدفعونها للقاضي. وهذه الظاهرة يجب أن نعمل جميعاً على محاربتها بالتعاون بين وزارة العدل ونقابة المحامين وأجهزة الإعلام.
• من المعروف عنكم دفاعكم عن وجود محكمة الأمن الاقتصادي رغم السمعة السيئة لها؟
وإلى الآن أدافع عن محكمة الأمن الاقتصادي، وقد رفضت المشاركة في جميع اللجان التي شكلت لدراسة إلغائها. فهي محكمة متميزة وموقعها صحيح، ومرسوم إحداثها (المرسوم التشريعي رقم 46 لعام 1977) كان خطوة متقدمة إلى الأمام، في دولة تحارب الفساد. لكن المشكلة في إساءة استخدامها من قبل بعض الأشخاص الذين استلموا رئاسة المحكمة أو شاركوا في عضويتها، أو بعض الأشخاص من أصحاب المناصب في الدولة.
لا أتخيل كيف تُلغي دولة تحارب الفساد محكمة الأمن الاقتصادي.
هؤلاء حولوا محكمة الأمن الاقتصادي من محكمة قانونية إلى محكمة بوليسية، وبذلك دقوا مسامير نعشها.
• لكنها ألغيت بناء على توصيات كثيرة تقول إنها تعطل الاستثمار وتعطل العمل التجاري؟
الذي يعطل النشاط الاقتصادي، ليس المحكمة وإنما التطبيق العملي لإجراءات المحكمة وللقوانين الاقتصادية. هنالك مشكلة في تكوين المحكمة، وفي انتقاء رئيسها وأعضائها، وفي منع إخلاء السبيل أمامها، وفي تعسف قضاة التحقيق في زج كل من يُدعى عليه في التوقيف الاحتياطي، وفي إلغاء الهيئة الاتهامية وحرمان المدعى عليه من استئناف قرارات قاضي التحقيق. وكل هذه المشاكل تشريعية وتطبيقية، وقد كان على السلطة التشريعية تعديل النصوص التي أُسيء استعمالها، ووضع نصوص جديدة تُحسن أداء المحكمة، وتحول دون تدخل البعض في أعمالها، وتوجيه أحكامها. وفي المجمل فأنا لا أتخيل كيف تلغي دولة تحارب الفساد محكمة مثل محكمة الأمن الاقتصادي.
• أين مكمن المشكلة التشريعية في محكمة الأمن الاقتصادي؟
منذ تاريخ إنشاء محكمة الأمن الاقتصادية وأنا محامي فاعل في هذه المحكمة. وأبرز مشكلة ظهرت آنذاك هي توقيف المدعى عليه أو المتهم، فكان كل من يحال إلى المحكمة فهو موقوف بالضرورة. وكان قاضي التحقيق يعتبر توقيف المدعى عليه من البديهيات، على الرغم من أن إخلاء السبيل أمام قاضي التحقيق جائز. والمشكلة الأهم هي أنّ التوقيف أمام المحكمة كان قانونياً وبحكم الفقرة 4 من المادة130 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي تنص على أن يحاكم المتهم أمام محكمة الأمن الاقتصادي موقوفاً. والمؤسف أنّ هناك من أمضى سنوات في السجن أثناء محاكمته ثمّ أُعلنت براءته.
• لكن صدر مرسوم بجواز إخلاء السبيل في هذه القضايا؟
في العام 2000 عدّل المشرع بالمرسوم التشريعي رقم 8 المادة 130/4 من قانون أصول المحاكمات الجزائية وأجاز لمحكمة الأمن الاقتصادي إخلاء سبيل الموقوف أمامها، ولكن للأسف فإنّ هذا المرسوم التشريعي أجاز للمحكمة إخلاء سبيل الموقوف بكفالة تتضمن أداء الحقوق الشخصية والرسوم والمصارف. لكن الضرر في القضايا الاقتصادية يقدّر أحياناً بالملايين، وتكاد الكفالة تكون تعجيزية غير قابلة للتنفيذ!! وهذه المسألة برزت بوضوح في قضية انهيار سد زيزون. فمحكمة الأمن الاقتصادي يومها وافقت على إخلاء سبيل بعض الموقوفين بكفالة مقدارها مليار وسبعمئة مليون ليرة سورية!!.
• ما مسوّغات التّوقيف الاحتياطي في القضايا المُحالة إلى القضاء من الهيئة المركزيّة للرّقابة والتفتيش؟
هذا التوقيف لا يفيد بشيء، لأن القانون لا يعتبرالتوقيف عقوبة، واسمه التوقيف المؤقت أو التوقيف الاحتياطي، ويكون لثلاثة أسباب فقط:
1- خشية فرار المدعى عليه أو المتهم.
2- خشية تلاعبه في الأدلة.
3- المحافظة على حياته في بعض الجرائم (مثل جرائم القتل – الإيذاء- خشية ردّات الفعل أو الثأر).
فإذا انتفت هذه الأسباب لا يجوز توقيفه. فالتوقيف في القضايا الاقتصادية خشية فرار المدعى عليه وعدم مثوله أمام المحكمة ليس في محله لأنّ المحال إلى القضاء بجرائم اقتصادية، تكون لديه مهلة كافية للفرار لو أراد ذلك في فترة التحقيق من قبل الهيئة. ومعظم الأشخاص الذين جرى توقيفهم بقضايا مُحالة من الهيئة أتوا إلى مكتب القاضي بمحض إرادتهم معتقدين أنهم يحملون صكوك براءتهم بأيديهم. أما التلاعب بالأدلة أمام القضاء الاقتصادي فهو غير وارد لأن الهيئة المركزية تستمر أحياناً عدة سنوات في جمع الأدلة، وبذلك تصبح مسألة التلاعب بالأدلة عبثاً لا طائل تحته.
• بعد إلغاء محكمة الأمن الاقتصادي يقوم حالياً قضاة التحقيق والحكم العاديين ومحاكم الجنايات بالنظر في القضايا الاقتصادية. كيف ترون ذلك؟
الوضع في السابق كان أفضل، لأنّ قاضي التحقيق يحقق في نوع واحد من الجرائم وهي الجرائم الاقتصادية، ومع الأيام اعتاد على هذا النوع من الجرائم، وإن كان ذلك خطأ من حيث المبدأ، لأني أفضل أن يكون القاضي مؤهلاً منذ البداية، لكن القاضي في الواقع بعد سنة أو سنتين يصبح متمرساً في القضايا الاقتصادية. أما أن تُحال هذه القضايا إلى قاضي تحقيق لديه جرائم قتل .. سرقة.. إيذاء، وقضايا أخرى من هذا النوع، فهذا خطأ كبير ومرفوض في كل بلاد العالم، لأن الذي يحاكِم في الجرائم الاقتصادية يجب أن يكون متخصصاً في هذا النوع من الجرائم، ومؤهل اقتصادياً وفنياً وقضائياً.
• هل تدعون لإعادة النظر في وجود محكمة الأمن الاقتصادي؟
أنا شخصياً لا يهمني – بعد أن فات الأوان - أن تعود محكمة الأمن الاقتصادي إلى الجسم القضائي أم لا، لكن ما يهمني أن يتم الحكم والتّحقيق بالجرائم الاقتصادية على يد قضاة متخصصين، وهذا ما أطالب به أيضاً بالنسبة للهيئة المركزية للرقابة والتفتيش.
• ما هي أهم القضايا التي تُثيرها الهيئة في مناقصات وعقود الدولة وتعهداتها؟
القضايا كثيرة ومتشعبة تبدأ من ساعة إعلان المناقصة ولا تنتهي إلا بتسليم المشروع أو تنفيذ التعهد كاملاً، وغالباً ما تستمر المشاكل مع المتعهد حتى بعد الاستلام والتسليم.
• هل يعني ذلك أنّ التعهد أو العقد مع الدولة يبقى مفتوحاً للرقابة بشكل دائم؟
في الواقع والقانون يمكن ذلك لأنّ من حق الهيئة المركزية أن تفتح التحقيق في أي وقت تشاء بعد انتهاء التنفيذ وتسليم المشروع إذا وجدت لذلك مقتضى يمس المال العام أو يتعلّق بغش الدولة أو الإساءة للإنتاج...الخ
• هل بالإمكان تحديد بعض القضايا؟
قبول الكفالات وتحريرها - غرامات التأخير – الاستلام – المواصفات – الأسعار– اكتشاف أعمال فساد بعد التسليم وتصفية العقد وتحرير الكفالات.
و من الملفت أحياناً عدم تنفيذ العقد بالشروط المتعاقد عليها نتيجة التأخر في إجراءات التعاقد التي تطول شهوراً وسنوات أحياناً، نظراً للزمن الذي يتطلبه تصديق العقد، ومروره على عدة جهات، كالوزارة ومجلس الوزراء واللجنة الاقتصادية ومجلس الدولة. وعندما يكون العقد كبيراً ومهماً يطلب عرضه أحياناً على مجلس الشعب. كل هذه المسائل لها إفرازاتها ونتائجها التي تؤدي إلى ارتكاب مخالفات من قبل الموظف أو المتعهد كان بالإمكان تجنبها.
• قضايا كثيرة تحيلها الهيئة إلى القضاء بجرم اختلاس المال العام يكون منشؤها إحدى القضايا التي ذكرتها. ما هو المعيار في ذلك؟
معظم قرارات الحجز الاحتياطي الصادرة عن وزير المالية بناءً على اقتراح الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش والتي تنشرها الجريدة الرسمية يُشار فيها إلى أن الفعل المرتكب هو اختلاس المال العام، وفي التفاصيل يتبين في بعض الحالات أن التّوصيف الجرمي للفعل لا يمكن أن يكون اختلاساً بالمعنى القانوني للاختلاس. فبمجرد أن يتوصل المفتش إلى ضياع مبلغ على الدولة يعتبره اختلاساً. وهو أمر غير صحيح. ففي جرم الاختلاس يجب أن يكون الموظف قد نقل المال العام إلى حيازته فعلاً وبشكل مادي محسوس حقيقي وليس افتراضياً.
وللأسف هناك عدد غير قليل من الأشخاص طلبت الهيئة المركزية إحالتهم إلى القضاء بجرم الاختلاس على الرغم من عدم وجود الدليل على أنهم استولوا فعلاً على المال فالموضوع كلّه هو مجرد اعتقاد بأن الموظف أضاع على الدولة مبلغاً من المال، وبالتالي فلا بدّ من التصور بأنه اختلسه. والفارق كبير بين الاختلاس والإهمال الذي يؤدي إلى ضياع مال على الدولة.
• في حال تمت عملية شراء ووجدت الهيئة المركزية أن الأسعار مرتفعة، هل للهيئة أن تفترض ذلك جريمة اختلاس؟
لا يجوز الافتراض في جرم الاختلاس، فهناك وقائع مادية يقتضيها جرم الاختلاس ويجب أن ينهض الدليل على حصولها فعلاً كما ذكرت قبل قليل.
• ماذا لو استوفت عملية الشراء الشروط القانونية، وثبت بعد ذلك أن الشراء تم بسعر أعلى من المتداول في السوق لسبب ما، ما هو التوصيف هنا، وقد انتفى الافتراض؟
بمطلق الأحوال تحدث أخطاء، وفعلاً تُشترى مواد بسعر أعلى. ولكن إذا ثبت بأن الموظف قد أهمل في التدقيق في نوعية الأشياء المتعاقد عليها وقصّر في دراسة الأسعار المناسبة، فيجب أن يؤاخذ في هذه الحالة بجريمة الإهمال، وهي جريمة جنحوية الوصف، ونحن نفرّق في القانون الجزائي بين القصد والإهمال، ولكل منهما عناصره وشروطه.
• وإذا تثبتنا من القصد، أي الشراء بسعر أعلى قصداً لجلب المنفعة، ماذا يكون التوصيف الجرمي؟
عندما يثبت القصد يجب أن يحاسب الموظف على جريمة الرشوة إذا توافرت عناصرها، فنحن نريد مكافحة الفساد ولكن ضمن حدود القانون ودون أن نظلم أحداً. ونحن نسمع عما يعرف أحياناً بالـ "سُكّرة" التي يَعد فيها التاجر الموظف. ومهما تكن هذه الـ"سُكّرة" فهي رشوة وتنطبق عليها المادة 25 من قانون العقوبات الاقتصادية.
• ما الفرق بين قانون العقوبات الاقتصادية وقانون العقوبات في عقوبة الرشوة؟
المادة 341 من قانون العقوبات تعتبر الرشوة جنحة إذا قام الموظف بعمل شرعي من أعمال وظيفته، ومع ذلك تاجر بهذه الوظيفة. أما المادة 342 فتعتبر الرشوة جناية إذا قام الموظف بعمل يتعارض مع أعمال وظيفته.
ولكن المادة 25 من قانون العقوبات الاقتصادية لا يوجد فيها هذا التصنيف، وتعتبر الرشوة مهما كان نوعها جناية يُعاقب عليها بالأشغال الشاقة المؤقتة (3-15 سنة)، وفي حالات معينة لا تقل العقوبة عن خمس سنوات.
• هل ترى أن هذه العقوبة شديدة؟
الواقع أنّ القضاء يحكم في جريمة الرشوة بخمس سنوات على الأكثر، ونادراً ما يحكم الراشي والمرتشي بخمس عشرة سنة. لكن عقوبة الرشوة استناداً لقانون العقوبات الاقتصادية أرحم من العقوبة عليها استناداً لقانون العقوبات العام، لأن العفو العام يشمل جزئياً العقوبات في الجرائم الاقتصادية، كما جرت عليه العادة، ولا يشمل جريمة الرشوة التي يقل نصابها عن النصاب المحدد بالقانون.
• لماذا برأيك لم يشمل العفو الجنايات والكثير من الجنح المعاقب عليها في قانون العقوبات العام و يقتصر ذلك على الجرائم الاقتصادية؟
ربما لوجود شعور لدى المشرع بأن العقوبات الاقتصادية شديدة. فالعقوبات السالبة للحرية يسقط العفو ثلثيها وأحياناً يسقطها كلياً وتبقى الغرامة، كما هو الحال في جرائم التهريب وجرائم العملات. ومن المعروف أن قوانين العفو العام لا تشمل دائماً الجنايات المنصوص عليها في قانون العقوبات العام. وآخر قانون عفو شمل الجنايات صدر في العام 1988. كما يلاحظ أنّ قانون العفو العام الأخير لم يشمل الجرائم الاقتصادية لأسباب قدّرها المشرّع.
• ماذا تودون القول في ختام حوارنا، فيما يتعلق بالمسائل موضوع الحديث؟
لا بد لي وأنا أتحدث إلى مجلة الميزان من موقعي الاجتماعي والوظيفي من التأكيد على الثوابت الآتية:
1- لا يُحارب الفساد بتشديد العقوبات فقط، وإنما يُحارب بالإصلاح الإداري والقضائي، ووضع استراتيجيات وخطط واقعية تتضمن إجراءات اجتماعية واقتصادية فاعلة لتحسين شروط معيشة الموظف والمواطن، وإطلاق حملة توعية إعلامية شاملة لترسيخ القيم العربية الأصيلة، وإرساء مبدأ سيادة القانون.
2- إن على المشرع أن يعيد النظر في القوانين والمراسيم والأنظمة واللوائح المتعلقة بالعقود الإدارية بهدف تبسيط إجراءات إبرامها والتصديق عليها، واختصار المراحل التي تسبق إعطاء المتعهد الأمر بالمباشرة، وحل المشكلات التي تعرقل أو تؤخر عمليات الاستلام والتسليم.
3- إن من واجب الدولة أن تعيد إلى الموظف ثقته بنفسه، وأن تفك لديه عقدة الخوف من المسؤولية. ففكرة مطاردة الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش لموظفي الدولة تشكل كابوساً على الجميع، وتسيطر على الصالح قبل الطالح منهم. ومصدر خطورة هذه الفكرة – بصرف النظر عن صدقها من عدمه – أنها تكبل الموظف الصادق والأمين والملتزم، وتحرمه من المبادرة والتطوير والتحديث والعمل الإبداعي.
4- إن على الدولة اتخاذ إجراءات عاجلة وفورية في موقعين رئيسين هما القضاء والهيئة المركزية للرقابة والتفتيش، تبدأ برفع سوية القضاة وأعضاء الهيئة المادية والعلمية، وترسيخ منظومة القيم لديهم لجهة مفاهيم الحق والعدالة وسيادة القانون.