بعد نشأة الحكومة وتطويرها وتنوع وظائفها ، تطورت معها وبها مقولة الموازنة العامة، بوصفها أداة لممارسة الرقابة المالية والقانونية على النفقات والإيرادات العامة من جانب السلطة التشريعية، التي تتولى إقرارها ، وبعد أن تكتسب قوة القانون، تلتزم السلطة التنفيذية بتطبيقها.
إن التزام السلطة التنفيذية بالتقدم في كل عام بمشروع قانون الموازنة العامة الى السلطة التشريعية لمناقشتها وإقرارها إنما يؤكد حق ممثلي الشعب في تعديل مشروع الموازنة أو رفضه، الأمر الذي يُعزز من سلطة الشعب في الإشراف على المسائل المالية للدولة، والذي بدوره يُعزز الثقة بالوضع المالي للدولة، ويقلل من مخاطر الإفلاس المالي.
وعملاً بأحكام المادة /70/من دستور البلاد والتي تقضي «يجب عرض مشروع الموازنة العامة للدولة على مجلس الشعب قبل شهرين على الأقل من بدء السنة المالية، ولاتعتبر الموازنة نافذة إلا إذا أقرها هذا المجلس».
تقدمت حكومة المهندس محمد ناجي العطري ممثلة بوزير المالية ببيان الحكومة المالي لعام 2006، حيث بلغت تقديرات الموازنة العامة نحو /495/مليار ل.س موزعة الى /195/مليار ل.س للإنفاق الاستثماري و/300/مليار ل.س للإنفاق الجاري.
وروعي في مشروع الموازنة العامة تحقيق الأهداف التالية:
1 ـ توفير مستلزمات التنمية المستدامة.
2 ـ الاستمرار في تلبية متطلبات الأمن القومي.
3 ـ تخصيص الموارد الكافية للمشاريع الاستثمارية الجديدة.
4 ـ تخصيص الاعتمادات والإعانات اللازمة للنهوض بالرعاية الاجتماعية.
5 ـ ترشيد الإنفاق الجاري ولاسيما الإنفاق الحكومي.
6 ـ استدراك النقص الجاري والمتوقع في الإيرادات.
7 ـ تخصيص الاعتمادات اللازمة لتسديد أقساط المديونية الخارجية.
8 ـ زيادة نسبة الإيرادات المحلية بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي.
9 ـ تخصيص الاعتمادات اللازمة لتنمية الموارد البشرية.
10 ـ الاستمرار في تحسين المستوى المعيشي للمواطنين.
ومن المتوقع ترجمة الأهداف أعلاه على أرض الواقع بعد أن تدرجت الحكومة بسياسة إعداد الموازنة من موازنة الرقابة الى موازنة الأداء، ومن موازنة الأداء الى موازنة التخطيط والبرامج وصولاً الى موازنة المزاوجة بين مزايا التخطيط المركزي ومزايا التخطيط التأشيري بما يتسق وتوجه البلاد نحو اقتصاد السوق الاجتماعي.
لقد تميز مشروع قانون الموازنة العامة للدولة لعام 2006 مقارنة بالموازنات السابقة بالتالي:
أولاً: استبعدت الحكومة من سياستها المالية مقولة «إن أفضل موازنة هي تلك التي تكلف أقل نفقة» أو «إن أفضل موازنة هي تلك التي تكلف أكبر نفقة» وارتضت لنفسها سياسة مالية جديدة في إعداد الموازنة تركن الى قاعدة.. أن أفضل موازنة هي تلك التي تحقق أكبر منفعة للشعب» عملاً بتوجيهات سيد الوطن الرئيس بشار الأسد.
ثانياً: أحسنت الحكومة صنعاً حينما أعطت الأولوية في توزيع الاعتمادات للإنفاق الجاري، والذي خصصت له /300/مليار ل.س، قياساً باعتمادات الإنفاق الاستثماري والبالغة نحو /195/مليار ل.س. الأمر الذي يعني عملياً إخراج الاقتصاد السوري من حالة الركود بأقل مايمكن من الخسائر من خلال تخفيف العبء الضريبي على المكلفين، والبحث عن مطارح ضريبية جديدة تزيد من حصيلة الضرائب وتحد من التهرب الضريبي ناهيك عن أن زيادة مخصصات الإنفاق الجاري يفضي الى تفعيل الطلب على السلع والخدمات ، ويُسهم في تحقيق التوظيف الكامل لعناصر الإنتاج (الأرض والعمل ورأس المال) أي تتراجع معدلات البطالة وترتفع الكفاءة الحدية لرأس المال ويزداد العائد من الاستثمار.
ثالثاً: انخفض العجز في الموازنة العامة للدولة من /106/مليارات ل.س عام 2005 الى نحو /59/مليار ل.س في عام 2006 علماً بأن سياسة التمويل بالعجز ليست بالذميمة لو أحسنت الحكومة توظيفها في مشاريع إنتاجية سرعان ماتؤتي ثمارها، ويتم تلافي الآثار السلبية التي تترتب على سياسة التنمية عن طريق التضخم.
رابعاً: ارتفعت حصيلة الضرائب والرسوم من /143/مليار ل.س عام 2005 الى /160/مليار ل.س عام 2006 ويُعزى هذا الارتفاع الى عشرات التشريعات المالية التي صدرت في مرحلة التطوير والتحديث ضمن الاستمرارية لاسيما قانون ضريبة الدخل رقم /24/وقانون الاستعلام ومكافحة التهرب الضريبي رقم /25/واللذين أسهما في توسيع قاعدة التكليف من جهة وتخفيف العبء الضريبي على المكلفين من جهة ثانية ناهيك عن تحقيق العدالة الضريبية التي أسهمت في اقتطاع الأموال من جيوب الأغنياء وعكسها على الفقراء في صورة خدمات تربوية وتعليمية وصحية، ومما زاد أيضاً في حصيلة الضرائب في السنوات الأخيرة السياسة التي انتهجها وزير المالية في توسيع قاعدة «الحجز عند المنبع» التي كان يقتصر تطبيقها على الأجور والرواتب لتشمل اليوم مواقع الإنتاج ومنافذ الحدود. وبهذه السياسة تحولت وزارة المالية من «جابي الى راعي لمصالح المكلف والمجتمع في آن واحد».
خامساً: أسهمت السياسة المالية المطبقة في إعداد الموازنة العامة للدولة في تحرير البلاد نسبياً من عبء المديونية الخارجية ، بعد تسوية حقوق الدولة الدائنة، وخاصة مع دول المعسكر الاشتراكي سابقاً حيث تمت تسوية وجدولة ديون تصل الى نحو /17/مليار دولار أمريكي.
إن المزايا التي انطوى عليها مشروع قانون الموازنة العامة للدولة لسنة 2006 لاتعني بالضرورة، أنها لاتعاني من الثغرات والمطبات وفي مقدمتها:
آ ـ شدد الفكر المالي الحديث على ضرورة تحقيق التوازن الاقتصادي قبل التوازن الحسابي في الموازنة العامة للدولة، حيث بلغت تقديرات النفقات العامة نحو /495/مليار ل.س والإيرادات العامة نحو /495/مليار ل.س وهي متوازنة من الناحية الحسابية، ولكن من الناحية الاقتصادية فإن الموازنة غير متوازنة ، وأكبر دليل على ذلك بلغ العجز المقدر نحو /59/مليار ل.س جراء ترفيعات الرواتب والأجور ودعم السلع التموينية وبعض المنتجات ، يُضاف الى هذا العجوزات التي لم تُدرج ضمن اعتمادات الموازنة العامة للدولة ومنها أقساط وفوائد الدين العام ، وأعباء شهادات استثمار وودائع التوفير والخسائر التجارية والتي تصل الى نحو /173/مليار ل.س ، وبذلك فإن إجمالي العجز في موازنة عام 2006 قد بلغ /232/مليار ل.س الأمر الذي يستوجب مزيداً من الإصلاحات المالية والنقدية من جانب الحكومة، وعليها أن تُحطم العجز قبل أن يُحطمها وبديهي طالما الاقتصاد السوري يعاني من الاختلال البينوي بين الإنتاج والاستهلاك وبين الصادرات والواردات يتعذر تحقيق التوازن الاقتصادي .
ب: ارتفعت تقديرات الموازنة العامة للدولة من /460/مليار ل.س عام 2005 الى /495/مليار ل.س عام 2006، أي بزيادة تصل الى نحو /35/مليار ل.س، وهذا يعني من جهة بأن هذه الزيادة ناجمة عن ارتفاع أسعار النفط، والذي أدرجت إيراداته لأول مرة في تاريخ الموازنات السورية بشكل صريح وشفاف والتي تم تقديرها بنحو /178/مليار ل.س لعام 2006 . ويعني من جهة أخرى بأن مساهمة بقية فروع الاقتصاد الوطني في الزيادة التي طرأت على تقديرات الموازنة ضئيلة بل تكاد تكون معدومة. مما يُملي على الحكومة تفعيل أداء الوزارات لرفع معدلات النمو الاقتصادي وتخليص الاقتصاد من مشكلة الانكشاف الخارجي.
ج ـ تم تخصيص نحو /25/مليار ل.س لدعم السلع التموينية الأساسية، والتي يستفيد منها الفقراء والأغنياء على حد سواء، وحتى تذهب هذه المخصصات الى مستحقيها يفترض تحرير أسعار السلع الرئيسية، وتأسيس صندوق لإعانة الأسر المستورة والعاطلين عن العمل يطلق عليه « معاش الرئيس بشار الأسد لإعالة الأسر الفقيرة» وفق مسوحات اجتماعية محكمة وموضوعية.
د: ارتفعت كتلة الرواتب والأجور من نحو /74/مليار ل.س عام 2005 الى نحو /86/مليار ل.س في موازنة 2006 أي بزيادة مايقارب /12/مليار ل.س ، ووفقاً لهذه الزيادة الضئيلة كيف سيتسنى للحكومة أن ترفع الأجور والرواتب بواقع 40% وفقاً لتصريحات بعض أركان الحكومة لوسائل الإعلام؟..
وبالعودة الى البيانات المالية السابقة ، نكتشف دون عناء بأن المقترحات والتوصيات تكرر نفسها ، وكذلك السياسات والإجراءات ، مايعني عملياً بأن الحكومة لم تعتمد سياسات اقتصادية جديدة تستجيب للمتغيرات المحلية والدولية التي طرأت على اقتصاد البلاد.
وهكذا فإن السلبيات والثغرات التي انطوت عليها الموازنة العامة للدولة لاتقلل من الدور الذي تلعبه السياسة المالية في دفع عجلة النمو الاقتصادي وفي تحسين المستوى المعيشي للمواطنين وكممثلين للشعب نتوجه للحكومة الرشيدة بأن تتصدى دونما تباطؤ الى تحطيم مربع البؤس المتمثل «بالركود الاقتصادي والبطالة والبيروقراطية والفساد» وأن يُقلل بعض السادة الوزراء ما أمكن من الوعود والعهود المعسولة التي تفتقد أحياناً الى المصداقية، وأن يعملوا بصمت فهذا أصعب العلوم، وبما يُعزز ثقة الناس بهم والذين عبروا عن التزامهم واستعدادهم للدفاع عن الوطن بالأفعال لا بالأقوال.
خلاصة القول: الموازنة العامة للدولة في سياق تطورها التاريخي استقرت على تقدير النفقات العامة والإيرادات العامة لفترة زمنية تُقدر عادة بنسبة، تُعدها الحكومة ، وتقرها السلطة التشريعية، وبعد أن تكتسب قوة القانون، تلتزم السلطة التنفيذية بتطبيقها ، تحقيقاً لأهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية وكون مشروع الموازنة لهذا العام واقعياً ومدروساً بعناية، نتوقع له أن ينعكس إيجاباً على الوطن والمواطن.
نقلاً عن تشرين