رب سائل يسأل:
لماذا يكتب محامي في موضوع تعديل قانون السلطة القضائية؟.
لماذا يتعرض المئات من المحامين و القضاة بين فترة وأخرى إلى موضوع استقلال
القضاء؟.
كيف أجاز بعض الكتاب والصحفيين في سوريا ولبنان ومصر والكويت لأنفسهم أن
يتعرضوا إلى موضوع تطوير المؤسسة القضائية في سوريا الحديثة ؟
لماذا أصبح موضوع الوضع الراهن للسلطة القضائية في سوريا مدار كلمات ومناقشات
في مجلس الشعب ومؤتمرات الاستثمار والتنمية في سوريا؟.
لماذا أصبحت "الانترنت" مليئة بأبحاث تطوير السلطة القضائية في سوريا شاملا
حصانة القاضي واستقلال القضاء واستمرار المطالبة بعدم تدخل السلطة التنفيذية في
أعمال القضاء؟.
* إني أجيب على هذه الأسئلة سالفة الذكر بالقول بأنه على كل إنسان على أرضنا
العربية السورية ومنهم أصحاب مهنة الثوب الأسود أن يسعى لتحقيق سيادة القانون
وإقامة العدل عن طريق دولة المؤسسات، وان يعمل مع العاملين على صيانة و حماية
القضاء والمحاماة، لتحقيق العدالة والمساواة بين أبناء مجتمعنا أمام القانون
دون تمييز والسؤال المطروح هو:
ما هو أساس مهنة رجال الثوب الأسود وهم القضاة والمحامون:
* إن عمل وهدف رجال القانون سواء من القضاة أو المحامين هو إعلاء كلمة الحق و
الدفاع عن الوطن وإن الأساس الفكري والاجتماعي والأخلاقي لمن يعمل في ميدان
القضاء هو الحرية، والكرامة، والشجاعة و قول الحق وتقريره من أجل تحقيق العدالة
بين الجميع ولا فرق بين ذكر وأنثى وبين غني وفقير و بين عامل وفلاح، وبين متعلم
وغير متعلم وبين حزبي وغير حزبي وبين صاحب مركز في السلطة ومواطن عادي وليس لأي
شخص مهما كانت وظيفته أو منصبه سوى سلطة القانون بسبب انه مادامت سلطة القضاء
مستقلة ولا نفوذ للسلطة التنفيذية عليها فإن الحريات لن تموت لأن العاملين فيها
يحمون حريات المواطنين وشرفهم وأمنهم من الاضطهاد والظلم وفقاً للقانون ومن هذا
المبدأ فاني أجد أن الواجب العلمي والعملي يقضي استعراض أهداف القيادة السياسية
وما خططت له الحكومة السابقة، وما طبق منها على الصعيد العملي، وما هو مطلوب من
الحكومة الجديدة برئاسة السيد محمد ناجي عطري فيما يتعلق بالسلطة القضائية حيث
نستخلص ما يلي:
أولاً- أهداف القيادة السياسية في سورية منذ (17/7/2000) حتى تاريخ اليوم:
1. من استقراء ما تحدث وطالب به السيد رئيس الجمهورية الدكتور بشار الأسد في
خطاب القسم في 17/7/2000 واجتماع مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 4/5/2003 باعتباره
رئيساً له يمكن لنا استخلاص قسماً من الأسس التي وضعها خلال الزمن الفائت ومنها
على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
دعوة كل مواطن أن يشارك في مسيرة التطوير والتحديث.
التطوير هو الهاجس الأساس لكل مواطن في سوريا وفي مختلف المجالات.
لابد من معرفة الاتجاه الذي نسير إليه و أي الطرق أفضل.
الدعوة إلى طرح أفكار جديدة في المجالات كافة سواء بهدف حل مشكلاتنا و
مصاعبنا الراهنة أو بهدف تطوير الواقع الحالي وتجديد الأفكار القديمة، وتطوير
الأفكار و الرؤى لكي تتناسب مع الأهداف الحاضرة والمستقبلية.
أهمية المؤسسة القضائية وضرورة رفدها بالكوادر الكفء و النظيفة وأن تأخذ
دورها الكامل بهدف إحقاق العدالة وصيانة حرية المواطن و السهر على تطبيق
القوانين.
أهمية النهوض بالسلطة القضائية و تطوير سلطة القضاء التي يأتي في مقدمة
مسؤولياتها تحقيق العدل والسهر على تطبيق القوانين ، وذلك من أجل تحقيق الأمن و
الاستقرار في الوطن و دور السلطة القضائية في تحقيق التنمية بجوانبها
الاستثمارية و الاقتصادية والتحديثية وكذلك دور المؤسسات القضائية في مكافحة
الفساد و البيروقراطية.
2. بتاريخ 29/12/2001 أصدرت القيادة القطرية القرار رقم (166/31) طلبت فيه من
مجلس الوزراء وضع أوليات تحدد القضايا الأساسية و المشكلات التي ينبغي دراستها
ومعالجتها، وفي مقدمتها تطوير القضاء.
ثانياً- ماذا فعلت وما لم تفعله الحكومة المستقيلة، وبماذا وعدت الحكومة
الجديدة فيما يتعلق بالقضاء؟
لقد قرأت العديد من المقالات و التصريحات لمصادر سورية نشرتها العديد من الصحف
العربية و غيرها ولا سيما صحيفة الرأي العام الكويتية تاريخ 4/1/2002 جاء فيها
ما يلي:
" كشفت مصادر سورية مطلعة أن الحكومة الجديدة ( التي استقالت مؤخراً) ستعمد
خلال الفترة القريبة المقبلة صياغة مجموعة من المشاريع تهدف إلى دفع عجلة
التحديث والإصلاح في العديد من القطاعات الحيوية في البلاد في مقدمتها قطاع
القضاء والمحاكم بمختلف أنواعها بهدف إعادة الحيوية لهذه المهنة التي تعاني من
ملاحظات كثيرة، لدرجة أن أصبحت القوانين والتشريعات العادية والاستثنائية
تستخدم في غير المطارح التي سنت من أجلها".
وقالت المصادر لـ" الرأي العام " ( إن إصلاح القضاء السوري سيكون من أوليات
حكومة رئيس الوزراء السابق السيد محمد مصطفى ميرو) دون ان تتعرض لما التزمت به
من حيث إصلاح القضاء السوري.
ولكن الحكومة المستقيلة لم تتفاعل ولم تنفعل حيث لم تتوصل صياغة اقتراح قانون
يقضي بتعديل قانون السلطة القضائية ، وهنا يطرح السؤال نفسه: هل يمكن للحكومة
الجديدة أن تنجز ما وعدت به رئيس وزارتها السيد محمد ناجي عطري و الذي أوردته
جريدة الشرق الأوسط في عددها رقم (9061) تاريخ 19/9/2003
( إن الإصلاح الإداري في سورية يمثل مدخلاً لعملية الإصلاح الاقتصادي يجب ن
يتواكب معه وقد شدد السيد رئيس الوزراء الجديد على ضرورة معالجة المعوقات التي
واجه القطاع العام من خلال زيادة التدريب والتأهيل وتحريك اليد العاملة وأكدت
الأوساط السورية المطلة ان الإصلاح السياسي والاقتصادي المنشود في البلاد
يستدعي تعديل حرية الصحافة وتامين المزيد من الحريات العامة وإصلاح القضاء
وتوسيع دائرة الحوار الوطني.
انتهى خبر جريدة الشرق الأوسط"
إننا مع القائلينو المنادين بان الهدف بإصلاح القضاء في سوريا لا يزال غاية لكل
مسؤول ولكل مواطن في سورية، وان غالبية رجال القانون ينظرون إلى غد قريب تتحقق
فيه الأهداف الوطنية ومنها تطوير السلطة القضائية وفق الخطوط العريضة التي يجب
ان يتم التركيز عليها خلال إعداد الدراسات اللازمة المطلوبة من حكومة السيد
محمد ناجي عطري حيث تنحصر في مجموعة من النقاط ومنها على سبيل المثال:
ترسيخ استقلالية القضاء
تحسين الواقع المعيشي للقضاة عبر استحداث صندوق لاستيفاء رسوم الدعاوى بعد
زيادتها لتوزع الواردات على السلطة القضائية حسب نسب محددة، وخصوصاً بعد ما تم
أخيرا تشميل القضاة بقانون العاملين الموحد.
إنشاء محاكم تجارية.
إنشاء محاكم خاصة بقضايا المشاريع المشمولة بأحكام قانون الاستثمار وقرار
المرسوم التشريعي (53) لعام (1952) المتعلق بتشجيع الصناعة.
وضع تشريع خاص للتحكيم مع بذل جهود لإنشاء مركز تحكيم إقليمي على غرار مركز
القاهرة.
تضييق مساحات عمل المحاكم الاستثنائية بما فيها الاقتصادية و السياسية
واللجان المالية.
المباشرة بإدخال المعلوماتية القانونية إلى وزارة العدل ومحاكمها.
التأكيد على أن القضاء سلطة ذات سيادة وكيان مستقل عن السلطتين التنفيذية و
التشريعية وليس للسلطة التنفيذية أي سلطة عليها.
لذلك:
فان الظروف الراهنة تدعوا إلى تحديث السلطة القضائية وتامين كل متطلباتها
وطلباتها والتخلص من أي مفصل في قانون تحديث السلطة القضائية يسمح للفساد ان
يمر من خلاله.
ثالثاً- في الواقع والتطبيق لما تقدم:
لابد لنا من وقفة صريحة نراجع فيها ما اتخذ ته الجهات المعنية في الحكومة
المستقيلة من دراسات وإجراءات لتغطي ولتشمل الأهداف التي أعلنتها وطالبت بها
القيادة السياسية الحكومة منذ 17/7/2000 حتى تاريخ اليوم والتي أشرت إلى قسم
منها آنفاً؟.
والأسئلة التي تطرح نفسها هي التالية :
هل القوانين والمراسيم التشريعية التي صدرت حتى تاريخ هذا اليوم أصبحت كافية
لضمان مواكبة التطور السريع الذي يحدث في العالم ؟.
لابد من الاعتراف و الإقرار بالخير لما أ قره المشرع في زيادة رواتب القضاة و
الإلزام باللصاقة القضائية و إلى ما أصدره المشرع من القوانين الجديدة التي سوف
تساهم في بناء سوريا الحديثة ومنها على سبيل المثال:
المرسوم رقم (36) المتضمن تنظيم المؤسسات التعليمية لمرحلة ما بعد الدراسة
الثانوية.
المرسوم التشريعي رقم (50) القاضي بالتأكيد على حرية المطابع والمكتبات
والمطبوعات .
المرسوم التشريعي رقم(507) المتضمن النظام الموحد للضابطة المرفئية.
القانون رقم (65) تاريخ 22/10/2001 المتضمن قانون الأملاك البحرية.
القانون رقم (23) لعام 2002 الخاص بتشكيل مجلس النقد والتسليف.
المرسوم رقم (33 ) المتضمن إلغاء المرسوم التشريعي رقم (6) لسنة 2000
والمرسوم التشريعي رقم (24) لسنة 1986.
القانون رقم (23)تاريخ 8/7/2003 الذي ألغى بموجبه القانون رقم (24) لسنة
1986.
إن التشريعات سالفة الذكر تبين بدء مرحلة تطوير وتحديث التشريعات وقد شاهد وسمع
وقرأ الملايين منا ما دار من مناقشات في مجلس الشعب حول هذا الموضوع و لكن لم
يظهر إلى النور والى الواقع أي نص أو إجراء جديد حول تطوير السلطة القضائية
وخاصة فيما يتعلق بضمان استقلالها عن السلطتين التشريعية والتنفيذية ودعم هذه
السلطة مادياً حتى يطمئن كل قاضي بان قضاء شبابه وعمره حتى سن التقاعد لن ينتهي
براتب تقاعدي يعادل (45%) (+) من آخر راتب شهري يتقاضاه ولن يذهب هدراً من
الناحية المالية، فالدولة، والنصوص القانونيةالواجب تشريعها سوف تؤمن له منذ
توليه منصبه في القضاء حتى احالته على التقاعد وما بعده حتى وفاته حيث يتوجب ان
تؤمن السلطة القضائية دخلاً وفيراً وسكناً امناً له ولزوجته ولجميع أفراد
عائلته وبهذا نستطيع ان ندخل الى القاضي الاطمئنان النفسي والمالي والمعاشي
ونبعد عنه الخوف من المستقبل والمجهول وخاصة من الناحية المادية والمعاشية.
ومن أجل طرح هذا الموضوع على بساط البحث و المناقشة للحصول على أفضل اقتراحات
لتطوير السلطة القضائية فلا بد لنا من بحث هذا الموضوع الخطير والخطير جداً من
ناحيتين:
الناحية الأولى:
- ما هي نظرة الشعوب في بعض دول العالم إلى السلطة القضائية؟
- وكيف عبرت تلك الأمم والشعوب عن احترامها وتقديرها لقضاتها واقامتها جداراً
عالياً وصلباً يمنع تسرب أخطبوط الرشوة أو الفساد بكل أشكاله إلى القاضي؟
- وكيف تحاسب وتقاضي القاضي فيما إذا ارتكب خطأ مهنياً جسيماً أو ارتكب فيما
إذا ارتكب جريمة مخلة بشرف القضاة؟
الناحية الثانية:
- ما هي تلك النصوص الواجب تشريعها وما النصوص القانونية الواجب تشريعها في حال
ارتكاب القاضي خطأ مهني جسيم؟ أو غش؟ أو ثبوت قبوله الرشوة؟ او ان حكمه في قضية
ما يشكل إنكارا للعدالة .
- ما هي النصوص القانونية المقترح تعديلها في قانون السلطة القضائية في سورية.
ولكن:
وقبل أن نستكمل بحثنا ونضع مقترحاتننا فلا بد من استقراء كل ما يتعلق بالقضاء
من حيث تعريفه وسلطته في الديانات السماوية وبعض الدساتير في بعض الدول ومن ثم
التعرف على أنواع القضاء في سورية والتنازع الحاصل بين القضاء الإداري واللجان
المالية شاملاً اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء اداري، لنصل بعد هذا العرض إلى
بحث السلطة القضائية في القانون المقارن حتى نصل في النهاية الى اقتراحنا فيما
يتعلق بتعديل قسم كبير من قانون السلطة القضائية في سورية.
لذلك:
وحتى نخلص إلى النتائج والى ما يستدعي من حلول مجدية ومنتجة وفعالة والى ما
نقترحه فانه من المفيد أن نستعرض المواضيع التالية:
أولا: التعريف بالقضاء
ثانيـــاً: السلطة القضائية و استقلالها
ثالثـــــاً:أنواع القضاء في سورية
رابعــاً: والتنازع بين القضاء الإداري واللجان المالية
خامساً: المبادئ التي قررها القضاء بهيئاته العادي والإداري
سادساً: اختصاص مجلس الدولة بهيئة قضاء إداري
أولاً - التعريف بالقضاء
إن القضاء من أهم المرافق وأخطرها في كيان الدولة، وغايته إقامة العدل بين
الناس في كل ما يتعلق بأمنهم وحريتهم وملكيتهم وأفكارهم ومعتقداتهم، وصفة الحكم
من صفات الله عز وجل وقد نصت الآية الكريمة (57) من سورة الأنعام:
" إن الُحكمُ إلا لله يقُصُّ الحق، وهو خيرُ الفاصلين"
كما جاء في آية سورة الرعد (41):
" والله يحكُمُ لا مُعَقِّب لُحكمِهِ وهو سريعُ الِحساب".
وفي الحديث الشريف:
" عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة".
ويقول الفيلسوف الفرنسي فولتير:
" إن أعظم وظيفة يتقلدها الإنسان هي وظيفة القاضي"
La plus belle fonction de l’humaine est celle de rendre la justice
والسلطة القضائية هي إحدى الدعائم الثلاث التي يقوم عليها الحكم في أي مجتمع
وهذه الدعائم الثلاث هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية،
لذلك نجد أن معظم دساتير الدول الحديثة بما فيها الجمهورية العربية السورية
أقرت باستقلال السلطة القضائية، وبذلك يسود القانون والعدل إذ لا خوف على امة
تسود فيها كلمة القانون ويقوم فيها العدل،
وقد قال تشرشل بعدما أعلموه بأن الفساد يعم بريطانيا، بأنه لا خوف على بريطانيا
ما دام القضاء فيها بخير ولم يصل له أخطبوط الفساد،
ولابد لنا من القول بأن بعض الحكومات في العالم (السلطة التنفيذية) تلجأ الى
إقامة محاكم استثنائية لحجب اختصاص القضاء العادي عن النظر في منازعات معينة
تكون الدولة طرفاً فيها لعجزها عن تحقيق أهدافها عن طريق " السلطة القضائية
المتمسكة بشعارها بإقامة العدل وسيادة القانون" مما يشكل خرقاً واضحاً لإحدى
المبادئ الأساسية للنظم القضائية في التشريع الحديث والذي يستوجب أن تكون جهة
القضاء واحدة لكافة المواطنين بصرف النظر عن جنسياتهم أو مراكزهم وبصرف النظر
عن أنواع مسائل النزاع لأن الأساس في وحدة القضاء تأتي من فكرة ضمان المساواة
وتكافؤ الفرص وتحقيق العدالة للجميع.
لقد أخذت سورية بالنظام الفرنسي فأحدثت جهتين قضائيتين (القضاء العادي، والقضاء
الإداري) وكان على المشِّرع منذ عام (1949) أن يستمر في توسيع أجهزة القضائين
إلا أنه توجه الى إقامة جهات قضائية استثنائية جديدة ولجان منحها اختصاصاً
قضائياً، وقد يكون هدفه منها سرعة الفصل في المسائل والنزاعات والتخفيف عن كاهل
القضاء،
إلا أن تلك المحاكم الاستثنائية واللجان نتج عن أحكامها وقراراتها إشكالات
عديدة منها التنازع على الاختصاص وتجاوز صلاحياتها القانونية وعدم صحة تطبيق
القانون في بعض النزاعات المثارة أمامها، واضطرار أطراف النزاع الى اللجوء في
بعض الأحوال الى القضاء العادي او الإداري لمنع تنفيذ تلك الأحكام أو إلغائها
أو إعلان بطلانها لعدم قانونيتها، لذلك فإني مع القائلين بإعادة النظر في
القوانين التي أحدثت تلك المحاكم الاستثنائية واللجان القضائية إن صح التعبير
والسعي لتطبيق مبدأ وحدة القضاء بما يحقق لبلدنا استمرار وزيادة التقدم والتطور
وسيادة القانون وإقامة العدل.
ثانياً- السلطة القضائية واستقلالها
استقلال القضاء، مظهر من مظاهر سيادة الدولة، ويزداد تألقاً ووضوحاً كلما
ازدادت الدولة صعوداً في سلم الحضارة والمدنية والتقدم.
أما الأمم المتخلفة، فإن السيادة تكون للقوة، والقوي هو صاحب الغلبة دوماً
وكلما تقدمت الأمة في مدارج الحضارة أصبحت فكرة الحق والعدل لديها سائدة، وكلمة
القانون هي العليا، والقضاء مستقل تمام الاستقلال في قول الحق والعدل، مهما
كانت الأطراف ذات قوة.
وإن مبدأ السلطات يرجع الى زمن طويل وقد بحث أرسطو (384-322) ق.م في كتابه
"السياسة" هذا المبدأ، وتوالت القرون الى ان كتب عنه مونتيسكو (1680-1755) م في
كتابه "روح الشرائع" حيث اعتبر أول كاتب سياسي يضع نظرية الفصل بين السلطات
الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، وقد اوضح أنه اذا ما تم توحيد أي
سلطتين من تلك السلطات معاً تحت قيادة واحدة، فإن ذلك معناه هدر للحرية
الفردية.
فاستقلال القضاء ورقيه وحصانة القاضي كل ذلك مؤشرات صحيحة تامة على حضارة الأمة
ورقيها وتقدمها، ولا عدل بدون قضاء مستقل قادر على أن يعيد كل منحرف الى جادة
الصواب مهما كان كبيراً.
وقد أجمعت الشرائع والقوانين والدساتير على استقلال القضاء عن السلطتين
التشريعية والتنفيذية وعلى إعطاء الأحكام القضائية قدسية و احتراماً، حفاظاً
على استقرار المجتمع وأمنه كما تشددت في أساليب اختيار أو تعيين القضاة،
فالقاضي الذي يعطى صفة الحكم وهي التي من صفات الله عزّ وجل يجب أن يموت
مستقلاً حراً لا يخشى لوم لائم.
ففي القرآن الكريم، قال الله تعالى مخاطباً رسوله محمداً:
"فلا وربك لايؤمنون، حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً
مما قضيت، ويسلموا تسليما"
سورة النساء آية (65).
وقد نص الكتاب المقدس في سفر الخروج رقم (22) الآية الثانية منه على ما يلي:
" أعطى صفة الألوهية من نصبوا قضاة للشعوب"
وقد جاء في مقال للأستاذ عبد الوهاب الباهي عضو الهيئة القومية للمحامين في
تونس نشر في مجلة "المحامون" في دمشق في الصفحة (599) لعام 1990 ما يلي:
1. لقد علمتنا خبرة التاريخ ان السلطة التنفيذية التي لا تحترم القضاء لا تحترم
نفسها، وأن من حاول توظيف القضاء لمآربه الشخصية لا بد ان تدور عجلة التاريخ
لتحاسبه آجلاً أو عاجلاً.
2. لقد علمتنا خبرة التاريخ ان استقلال القضاء ليس هو الضمان الوحيد لحقوقنا بل
هو الضمان الأوحد لهذه الحقوق التي تبقى شعارات جوفاء في غياب قوة تدافع عنها
وتحميها، وهذه القوة لن تكون غير القضاء.
3. لقد علمنا التاريخ أن قضية التنمية الاقتصادية مرتبطة كل الارتباط بقضية
سيادة القانون واستقلال القضاء الضامنين الوحيدين للاستقرار السياسي الذي هو
شرط من شروط التنمية وبالتالي فلا تقدم ولا تنمية في غياب قضاء مستقل.
أخذ الدستور الحالي بهذا المبدأ في المادة (134) منه حيث يقول:
" القضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون"
وقد جعل الدستور الفرنسي رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس القضاء الأعلى ليعطي
السلطة القضائية القوة والمنعة والاستقلال.
كما جعل الدستور السوري الحالي رئيس الجمهورية رئيساً لمجلس القضاء الأعلى
ليحمي القضاة والمحاكم من تطاول الهيئات والأفراد والفئات الأخرى.
ولا نكون مغالين، إذا قلنا:
أن السلطة القضائية هي أكثر ما يهم الفرد لالتصاقها المباشر به وبحقوقه وحريته.
فالمواطن عندما يختلف مع مواطن آخر، أو مع هيئة اعتبارية وييأس من الحل الودي
او التفاهم، فإنه يلجأ الى القضاء الذي هو الملاذ الأخير.
فاذا اختل هذا الملاذ الأخير، أو ضعف او جبن، أو تراخى، أو تباطأ، اختلت المثل
العليا، واختلت العدالة، وفسد المجتمع، وساد الظلم.
لذلك فان الحكام، سواء أكانوا خلفاء او ملوكاً او رؤساء أو أمراء قد أعطوا
اهتماماً كبيراً للسلطة القضائية، ورفعوا منزلتها لتتمكن من أداء رسالتها على
الوجه الأكمل.
وإن الحاكم يكون مسروراً عندما يرى العدالة سائدة في شعبه، والحق قائماً.
قال رئيس جمهورية فرنسا الأسبق "فانسان اوريول" في تقريره عن حالة فرنسا بعد
انتهاء رئاسته عام 1955.
" يوم يفقد المواطنون ثقتهم بالعدالة، تتعرض الدولة لأشد الأخطار، وليس يخفى
على أحد، أن السلطة القضائية هي إحدى الركائز الثلاث، وربما كانت أهم هذه
الركائز في النظام الديموقراطي ولعل منشأ الداء، هو في الاعتقاد السائد بأن
السلطة القضائية هي بمثابة وظيفة عامة، وهكذا وضع القضاة في صف الموظفين، وإني
لأعبر عن احترامي ومساندتي لجميع الموظفين، فما أردت التشديد على ان القضاء ليس
وظيفة بل سلطة، ولعل السلطة القضائية أهم السلطات بالنسبة للشعب لالتصاقها
المباشر بشرفهم وحريتهم وحياتهم".
نعم إن ما قاله "فانسان أوريول" هو الحقيقة التي يجهلها كثير من الناس حتى
المثقفين وهي أنه لا يجوز اعتبار القضاة موظفين، لأن الموظف جزء من السلطة
التنفيذية في حين أن القاضي جزء من السلطة القضائية.
فالقضاء سلطة وليس وظيفة، مع احترامنا لكل موظف
إن القاضي هو أحد أفراد السلطة القضائية وهو الذي يمثل الرقابة الاجتماعية
ويحكم باسم المجتمع أو باسم الشعب على كل منحرف أو شاذ أو خارج على القانون،
فالعناية بالقضاة واستقلالهم وحسن اختيارهم ودعم أحكامهم وحرية ضمائرهم
وحمايتهم، كل ذلك يجعل العدل والحق سائدين في ربوع الوطن والمواطنين.
وعلى سبيل المثال نذكر قول السلطان صلاح الدين الأيوبي عندما قضى على الدولة
الصليبية في موقعة حطين مخاطباً رجاله:
" لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم بل بقلم القاضي الفاضل"
كما نذكر قصة فتح سمرقند والتي تتحصل بأن الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز،
لما ولي الخلافة جاء وفد من أهالي سمرقند، وشكا له قائده "قتيبة بن مسلم
الباهلي" بأنه فتح بلدهم سمرقند مع جيشه قبل أن يوجه لهم الانذار حسب قواعد
الحرب والسلم.
فكتب الخليفة الى عامله في العراق أن ينصب لهم قاضياً خاصاً فنصب لهم قاضياً
خاصاً يدعى "جميع بن حاضر الباجي" فسمع شكواهم وحاكمهم مع قائد سمرقند وقضى بأن
يعود أهل سمرقند الى حصونهم، وأن ينابذهم قتيبة على سواء، ثم يحاربهم إن أبوا
وقد خضع القائد العظيم وجيشه الذي وصل بفتوحاته الى الصين لحكم القاضي "جميع"
وهَّم بالانسحاب قائلاً: وهل يجرؤ قتيبة على مخالفة حكم القاضي والخليفة أمر
بمحاكمته والخضوع لحكم القاضي؟
وحين همَّ الجيش بالانسحاب ورأى أهل سمرقند عدالة مثلى لم يشهدوها من قبل قالوا
مرحباً بكم سمعنا وأطعنا.
ولا تزال سمرقند حتى اليوم، من أكبر وأهم العواصم الإسلامية.
كما نذكر قصة امتناع جامعة تكساس في أمريكا عن قبول طالب أسود، لأنها لا تقبل
إلا الطلاب البيض، وذلك في عهد الرئيس الأمريكي (جون كينيدي).
أقام الطالب الأسود الدعوى أمام المحكمة الاتحادية فحكمت على الجامعة بلزوم
قبول الطالب الأسود وفقاً لأحكام الدستور الأمريكي الذي لا يفرق بين المواطنين
حسب دينهم او لونهم أو غير ذلك.
ولكن مجلس جامعة تكساس رفض تنفيذ الحكم، كما أن حاكم ولاية تكساس المنتخب تعصب
للجامعة، وأرسل الشرطة لمنع الطالب من الدخول الى الجامعة وتجمهر السود لادخاله،
فأرسل الرئيس الأمريكي جون كينيدي عام 1962 ثلاثة آلاف جندي الى ولاية تكساس
لمنع شرطة الولاية من معارضة الطالب الزنجي في دخول الجامعة، وأدخل الطالب تحت
أسنة الحراب.
وقال الرئيس كينيدي في مؤتمر صحفي:
"إن عدم تنفيذ حكم المحكمة الاتحادية يشكل سابقة خطيرة في تاريخ أمريكا"
وهكذا يجب حماية القضاء بتنفيذ أحكامه ليكون قضاءً مستقلاً ينفذ القوانين دون
هوادة.
ومن اجتهاد جديد للمحكمة العليا في أمريكا قال المحامي كاميراتا، وهو محامي
بولا جونز في قضيتها ضد الرئيس الأمريكي كلينتون، لمراسل صحفي في واشنطن بانه
بدأ البحث في قضية موكلته منذ حزيران 1994،
ويبين المراسل الصحفي بأن عملية إيصال قضية موكلته الى المحكمة استغرقت ثلاث
سنوات، وأن الرئيس كلينتون حاول بسبب الحملة الانتخابية تشويه القضية والتقليل
من شأنها والادعاء بانه يتمتع بحصانة وصلاحيات وحماية لا تتوفر لأي مواطن
أمريكي آخر، إلا أنه في شهر حزيران 1997 أيدت المحكمة العليا بالإجماع قضية
موكلته حيث رفضت إدعاء الحصانة، وذهبت في قرارها الى ان الرئيس مثل أي شخص آخر
في مجتمعنا.
"الشرق الوسط-العدد 6003 الجمعة 30/1/1998 الصفحة (6)"
ولابد لنا ونحن في صدد استعراض بعض الأمثلة والشواهد التاريخية من الإشارة
لقرار المحكمة الدستورية العليا في جمهورية مصر العربية الذي صدر في الربع
الأول من عام 1990 المتضمن عدم دستورية قانون الانتخاب وإعلان بطلان انتخاب
مجلس الشعب في مصر، وقد نفذته السلطات المصرية حيث تم حل مجلس الشعب ودعت الى
انتخاب مجلس جديد.
إن الخضوع للأحكام يقتصر حتى الآن على العلاقات الفردية مما دعا معظم دول
العالم المتحضر الى الدعوة لتشكيل هيئة قضائية لها صفة الإلزام والإجبار
باعتبار أن أحكام محكمة العدل الدولية في لاهاي ليست سوى فتاوى قانونية غير
ملزمة، لأنه لا يوجد سلطة تنفيذية، وهذا ما نادى به قداسة البابا يوحنا الثالث
عشر بمناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في عام 1948 حيث قال قداسته:
" إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واحد من أهم إنجازات الأمم المتحدة إلا أن
هذا الإعلان يظل في رأينا خطوة نحو تأسيس منظمة قضائية سياسية للمجموعة
البشرية".
ثالثا" - السلطة القضائية على ضوء القانون المقارن :
ولابد لنا من التعرض لأمر جلل، ألا وهو اختيار القضاة، الأمر الذي يدعو أولي
الأمر في أي بلد عربي الى الاهتمام بحسن اختيار القضاة ودعمهم مادياً ومعنوياً
وعلى المسؤولين في إدارة أجهزة الدولة أن يدركوا تماماً أن التقدم الاقتصادي،
في التجارة والصناعة والزراعة وفي جميع الفعاليات الاقتصادية والأنشطة
الاجتماعية والدولية لا يزداد ولا ينشط ولا يزدهر ولا يرسخ إذا لم يطمئن الفرد
والجماعة على حقوقهم الموظفة في إحداث او تقوية تلك الفعاليات.
ولا يتحقق الاطمئنان على المال، ما لم يكون هناك قضاء عادل ومحاكم علنية وقضاة
شرفاء وأحكامهم نافذة بقوة القانون والسلطة لذلك:
فان اختيار القضاة، امر هام، عمدت فيه كثير من الدول الى إخضاع هذا الاختيار
لقواعد وأصول بحيث يكون القاضي من أفضل الناس علماً وخلقاً واستقامةً، ومن يحكم
باسم الشعب، يجب ان نحسن اختياره وان يكون أفضل أفراد الشعب،
وعلى هذا لجأت بعض الدول مثل أمريكا، الى أن يجري اختيار القاضي عن طريق
الانتخاب، أو عن طريق ترشيح هيئة القضاة العليا له دون طلب منه، فالقانون هو
إرادة الأمة، والقاضي هو الذي يحول هذه الإرادة من السطور الجامدة الى واقع
ملموس وهو الذي يجعل لروح القانون جسداً مادياً هو الحكم، لذلك، كان من الواجب
أن يتشدد الحاكم في اختياره القضاة.
ولا بد لي من الحديث عن ما نص عليه الدستور في سورية حيث جاء في الباب الثاني
من الدستور السوري على سلطات الدولة وجاء في الفصل الثالث، المادة (131) على ان:
"السلطة القضائية مستقلة ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال يعاونه في ذلك
مجلس القضاء الأعلى الذي يرأسه رئيس الجمهورية سنداً لأحكام المادة (132) من
الدستور" ،
وقد أكد الدستور على ان القضاة في سورية لا سلطان عليهم في قضائهم لغير
القانون، وأن شرف القضاة في سورية لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وأن
شرف القضاة وضميرهم وتجردهم في ممارسة قضائهم ضمان لحقوق المواطنين وحرياتهم.
وقد نصت المادة (135) على أن القانون ينظم الجهاز القضائي، كما نصت المادة
(138) منه على أن مجلس الدولة يمارس القضاء الإداري وأن القانون يعين شروط
تأليفه.
تلك نصوص من دستور سورية، تتعلق بالسلطة القضائية، وقد يتبادر للقاريء سؤال
واحد:
كيف يتم تعين القضاة في بعض دول العالم؟
ما هي رواتبهم؟
كيف يتم تعديلها؟
ما هي الامتيازات التي يحصل عليها القضاة؟
لماذا:
أخطبوط الفساد لم يعم القضاء في ألمانيا أو إنكلترا أو الصين او سنغافورة
استناداً لما نقرا عنه حتى اليوم؟.
|