مقالات

حديثة

المحـامي

المحامي : معاوية الطباع

سنة النشر :2009

 

المحاماة: مهنة علمية فكرية حرة مهمتها التعاون مع القضاة على تحقيق العدالة والدفاع عن حقوق الموكلين وفق أحكام القانون.

قال القاضي الفرنسي ايزوب (إن نظام المحاماة قديم كالقضاء ونبيل كالفضيلة ولازم لزوم العدالة) فحياة المحامي وما يتخللها من المشاغل والمتاعب لا يشعر بها إنسان آخر لبعده عنها وقد وصفها ايزوب وهو قاضي فرنسي مشهود له بالذكاء والنزاهة بأن المحاماة من أجمل الأشياء وأقساها أيضاً وقال عنها أيضاً (هي مهنة تجمع بين أغراض شاقة من الفن إلى الواجب ومن الجرأة إلى النبل يقبض صاحبها الذي فضله في كفه على أعنة الناس فيستضيفون بنوره ويحتمون عند ظل قوته وهم مضطرون إلى الاعتراف بنبوغه وفضله).
تلك شهادة ذلك القاضي الكبير التي يعتز بها المحامون الفرنسيون والمحامون كافة فهي مهنة تعطي من يمارسها أن يتاح له تقديم المساعدة والنفع إلى بني جنسه يخفف عنهم عبء الشقاء وظلم الحظوظ وهي من أجمل المشاغل العقلية.
تفتح أمام المحامي سبيل استخدام مواهبه أحسن استخدام ومع ذلك فهي من أثقل الأعباء فليس هناك ما هو أتعب من حياة المحامي لأنها تأخذ من وقته وعقله على السواء وهو ليس كغيره مع أصحاب المهن تنتهي أتعابه وعمله بانتهاء الوقت المخصص للعمل فالمحامي محروم من نعمة هذه الحياة الحرة الخاصة لأن عمل المحامي ليس في مكتبه أو دور المحاكم فقط بل في تفكيره وضميره وحياته لأن ملف القضايا الذي تحت أبطه بعد خروجه من المحكمة ربما كان أثقل بكثير على تفكيره وعقله ولا ينفك لحظة واحدة في التفكير في قضاياه وملفاته.

كتب على المحامي أن يجهل معنى الراحة فهو يستيقظ في الشتاء في الساعة السادسة صباحاً وقبل ذلك في فصل الصيف ينكب على عمله من غير ملل وإذا ما دقت الثامنة كان في مكتبه يتطلع على ما لديه من دعاوى ورسائل ومكالمات ويجيب على الدراسات المطلوبة منه أو يتلقى المكالمات الهاتفية ويستقبل موكليه أو المراجعين ويعطي استشاراته في الدعاوى التي تنظر في مكتبه أدوار عديدة ومراحل شاقة تمر على المحامي كل يوم حتى إذا وقف أما القاضي لمناقشة الدعوى صاح به القاضي (من فضلك تكلم في الموضوع).
المحاماة مدرسة شاقة تتطلب صبراً وحلماً لأنه إذا كان من هؤلاء الناس من لا يضيع على المحامي بعض زمنه وأتعابه فإن آخرين من يدخلون معه في تفاصيل لا نهاية لها وبعيدة كل البعد عن موضوع الدعوى وهو مضطر إلى الإصغاء وسماع همومهم فقد يكون في بعض أحاديثهم الطويلة ما يصلح أن يكون أساساً صالحاً للدفاع أو المستند القانوني للدعوى فمكتب المحامي هو مورد غزير لمشاكل الناس وحياتهم الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية فأمام المحامي يذكرون كل شيء لأنهم يعلمون أنه الأمين على أسرارهم وأن هذه الأسرار لا يمكن أن تتجاوز الجدران الأربعة لمكتبه ومن هنا كان على المحامي الحفاظ عليها كسر مهني أقسم على كتمانه وهو يتساوى مع الطبيب من حيث الحياء فحيث لا وجود للحياء الجسماني أمام الطبيب كذلك لا وجود للحياء الأدبي أمام المحامي فهو يستقبل كل يوم أناساً ما كان يخطر بباله أنهم أحياء يستأمنونه على حوادثهم الخاصة التي كتموها حتى عن أقرب الناس إليهم يستمع إلى موكليه ومشاكلهم ويتعاطف معهم ويثور من أجلهم لكنه يتعامل مع الوقائع من الجانب القانوني الهادئ يدعم موقفه بالنص والاجتهاد لأن العواطف لا مكان لها أمام القضاء فكثيراً ما يكون انفعال المحامي غير المبرر أمام القضاء لدعواه سبباً في خسارتها وهنا يستذكرني درساً لأحد النقباء في باريس لطلابه قائلاً إذا كانت قناعتك وأدلة الدعوى تؤكدان أن موكلك بريء فترافع بهدوء وروية وتقدم بالأدلة التي تفيد موكلك بهدوء ووقار إذا كان الشك يراودك في هذه البراءة فلا بأس من أن ترفع صوتك أثناء المرافعة أحياناً لخلق قناعة لدى المحكمة بعدم وجود هذا الشك.

فالمحامي مقيد بأصول مهنته وبمقتضيات دفاعه أمام موكله الذي يجب أن يصل إلى غاية يرضاها بكسب قضيته فهو ملزم بإتباع الأسلوب القانوني بغير حاجة إلى إجهاد نفسه لإدخال الإعجاب على سامعيه مقتصراً على إقناع القاضي الذي سيحكم له أو عليه وقد حددت جميع القوانين الناظمة لمهنة المحاماة حقوق وواجبات المحامي اتجاه موكليه والقضاء ونقابته التي ينتمي إليها وعليه عدم تجاوز هذه الحقوق والواجبات كما حددت تلك القوانين وكذلك قوانين أصول المحاكمات أصول المرافعة أمام المحاكم مما يستوجب العلم بها وعدم الإخلال لها لأن الأصول وأدب المرافعة معياران لتقدم مهنة المحاماة وعلى المحامي أن يتحلى بمصداقية كاملة أمام مؤسسته النقابية ومؤسسة القضاء وموكليه لأن المصداقية أمام نقابته تكسبه احترامها وتقديرها له وأن يضع نفسه تحت تصرف نقابته في كل ما يكلف به من مهام نقابية أو قضائية وطنية أو قومية وأن تكون مصداقيته أمام المؤسسة القضائية والمحاكم من خلال كتاباته ومذكراته وتقيده بأصول المحاكمات وأدب المرافعة فلا يذكر أو يدون عبارات لا محل بها في الدعوى أو اجتهادات غير صحيحة أو يسيء إلى خصومه بأمور خارجة عن الدعوى أو موضوعها أما مصداقيته اتجاه موكليه أو مراجعيه تتجلى من الصدق في القول والعمل بما ينسجم مع القانون والأصول والواقع لكل موضوع يعرض عليه وأن يبذل الجهد اللازم لإيصال الحق إلى موكله بعيداً عن أي افتراء على مؤسسة القضاء أو أن يعطي نفسه موقعاً أو صلة بالآخرين أو بالمحكمة خلافاً لكونه محام يمثل أحد أطراف الدعوى وأن يبذل الجهد والعناية التي أوجبها قانون المهنة عليه( فقط يستطيع المرء أن يخدع الناس بعض الوقت ولكنه لا يستطيع أن يخدع الناس كل الوقت).

فعلى المحامي أن يكون حكيماً وبليغاً وفناناً في انتقاء كلمات مرافعاته ومذكراته فالتكرار والإطالة وعدم اختيار العبارات المناسبة وإضاعة وقت المحكمة في مرافعة شفهية لا طائل منها وابتعاده عن موضوع الدعوى ومحاولته إظهار نفسه أمام موكليه أو جمهور الحضور في قاعة المحكمة بأنه القريب إلى قوس المحكمة أمور تنعكس سلباً على قضية المحامي التي يترافع بها وكثيراً ما يسيء المحامي إلى قضيته أو مهنته من خلال انفعال غير مبرر معتقداً أنه الحريص على الحق والعدالة أكثر من المحكمة الناظرة في القضية مما يؤدي إلى خسارة دعواه ناسياً أنه يمثل أحد طرفي النزاع ومساعداً للمحكمة في الوصول إلى الحقيقة والعدل ففي كل قضية هناك خاسر ورابح وعلى الخاسر احترام القرار وأن يلجأ إلى الطرق القانونية للطعن فيه دون تجريح أو إساءة إلى المحكمة التي أصدرته فأسباب الطعن قد حددتها القوانين والقضاء معصوب العينين عن العواطف ومن هنا يتجلى دور نقابات المحامين في تأهيل المحامين علمياً ومهنياً ليكونوا رسل حق وعدالة من خلال دورات تدريبية لخلق مناخ إيجابي متعاون مع مؤسسة القضاء فالعدالة جناحان متلازمان وبقدر ما يكون هذا التعاون والتلازم تتحقق الغاية في تحقيق العدالة وحماية الحقوق وصون الحريات.
دمشق في 25/11/2009م
 

المحامي
معاوية الطباع
دمشق ـ سوريا

- أمين سر نقابة المحامين في سورية سابقاً
- رئيس رابطة الحقوقيين بدمشق سابقاً
- عضو المكتب الدائم لاتحاد المحامين العرب سابقاً