مقالات

حديثة

حصانة المحامي والسر المهني في القانون السوري

المحامي : معاوية الطباع

 

سنة النشر :2006


المحاماة مهنة متميزة وامتيازها أنها ليست صفة فحسب ، بل هي موظفة لتحقيق هدف سام ٍ ونبيل هو أساس تقدم الأمم وركيزة نهضتها ألا وهو سيادة القانون والدفاع عن المظلومين ، وكون مهنة المحاماة مميزة على هذا النحو ، فإن التميز ينصب أيضاً على من يمارسها ولكنه تميز للمهنة والرسالة ، وليس للشخص والأفراد لذلك يمكننا القول أن مهنة المحاماة ليست وعاءً لكل راغب ، إذ أن لها حقوقاً والتزامات وحقوق الغير عليها.
وتستمد المحاماة أهميتها من دورها المزدوج وطبيعتها الثنائية ، فهي من جانب تحمي حقوق المظلومين وتدافع عنهم ، وترعى لأصحاب المصالح مصالحهم وتحفظ للناس شرفهم وأعراضهم وأموالهم ضد كل معتد أو طامع ، وتعتبر مهنة المحاماة في جانب آخر أحد العناصر الأساسية التي تقوم على كواهلها صروح العدالة .

فالمحامي باعتباره مشاركاً في القضاء والنيابة العامة لتحقيق العدالة يضطلع بمهام جسام في علاقته بالمجتمع بما يحقق ويحفظ سيادة القانون ويعمل على تسهيل سبل التقاضي على المواطنين وإظهار الحقيقة .

لذلك فإن أهمية مهنة المحاماة لا تقتصر على علاقة المحامي بالموكل ، بل تتعداها لتقف في طليعة المهن التي تتميز بتأثيرها الواضح في الواقع الاجتماعي والوطني ، وفي تنمية الفكر القانوني لدى أفراد المجتمع وتوعيتهم بحقوقهم وحثهم على أداء واجباتهم .
فهي رسالة سامية لأنها رسالة خالدة ،نجدة الضعيف والمظلوم ونجدة صاحب الحق المهضوم ،إضافة إلى دورها الوطني و القومي.
والمحاماة فن ،لأنها وسيلة لإسعاد الخلق ورفع مستوى الجميع وتدعيم بناء المجتمع وطريق من طرق نشر السلام في هذا الكون.

والمحاماة مهنة من أهم المهن وأشرفها.
وليس من بين المهن ما يسمو على المحاماة شرفاً وجلالاً .
قال عنها (روجيسيو) رئيس القضاة الأعلى في فرنسا في عهد لويس الخامس عشر :
"إن المحاماة عريقة كالقضاء،مجيدة كالفضيلة ،ضرورية كالعدالة، هي المهنة التي يندمج فيها السعي إلى الثروة مع أداء الواجب حيث الجدارة والجاه لا ينفصلان ،المحامي يكرس حياته لخدمة الجمهور دون أن يكون عبداً له ، ومهنة المحاماة تجعل المرء نبيلاً عن غير طريق الولادة ، غنياً بلا مال..رفيعاً دون حاجة إلى لقب..سيداً بغير ثروة.."
ولقد قال عنها (هنري روبير) نقيب المحامين في فرنسا سابقاً :
(( ليس من وظيفة عدا وظيفة القضاء أشرف من المحاماة ، وهذا الشرف هو المقابل لمجهود من يمارسها و الموجب للصفات التي يمتاز بها عن غيره ،والأصل فيها نيل الشرف وخدمة العدالة ومساعدة صاحب الحق على أخذه ومقاومة الباطل والمبطلين.."
وقال عنها (جاز إيزورني) أحد كبار المحامين في نقابة باريس : "إنه لفخر للمرء أن يكون محامياً ليبقى مستقلاً لا ينتظر من السلطة شيئاً ،وأن يتكلم بصوت عالٍ دون أن يقصر في قول كلمة الحق ، وألا ينتظر شيئاً إلا من ذاته.." )).

ولئن كانت المحاماة أجل مهنة في العالم ،فهي أيضاً من أشق المهن لأن فيها الخلق والإبداع ولأنها تفرض على المحامي أن يحيا مثلها ويتحلى بقيمها، أن يعطيها كل وقته ، فهي لا تدع له وقتا للراحة ، فهو رسول الحق، وإذا كانت المحاماة كذلك ، فمن هو المحامي وكيف يكون ؟ "
لابد أن يكون المحامي معداً إعداداً عقلياً ومهنياً وعلمياً وروحياً وأخلاقياً ،ليحمل رسالته السامية على خير وجه ،وليكون في ساحة العدالة صاحب الكلمة الصادقة في إحقاق الحق.
ومن الفضائل النفسية التي لابد منها في المحامي : الحكمة والشجاعة ،العفة والعدالة ، فالحكمة فضيلة القوة العقلية التي تعين الذكاء إن وجد وتعويضه إن لم يوجد.
والمبادئ القضائية الرفيعة التي تصدر عن المحاكم باختلاف درجاتها هي الغذاء المثمر في أنحاء العدالة وتطور القوانين والاقتراب بها إلى الحق.
إضافة إلى ذلك ،فالمحامي من كان أميناً شجاعاً ومستقيماً مخلصاً ، إنه مؤتمن على أموال الناس وأسرارهم وأرواحهم.
والمحامي من صفاته الأمانة المطلقة والشجاعة الكاملة والاستقامة التامة ، والإخلاص الدائم ، فمن أوتي هذه الفضائل فقد شرع في طريق المحاماة.

ولكن مهما قيل عن المحامي من كلام ومهما أسبغنا عليه من صفات ومهما حاولنا أن نتلمس ونبحث في قيم المحاماة وأصالتها فالمحاماة بالطبع لم تولد خلقاً في أحسن تقويم ،بل بدأت جنيناً وحبت حتى استوت بعد ذلك خلقاً سويا.

حصانة السر المهني

السر المهني هو الورقة أو الوثيقة أو المعلومة التي تصل إلى من يحفظها ويكون لها طابع السرية وعليه الاهتمام بها بوجه أي كان وأي جهة كانت وأول من تصدى لتعريف السر المهني والاهتمام به هو الفقه والقضاء من خلال الظروف العملية وقد عرفه الفقه الفرنسي بأنه ( كل ما يضر إفشاؤه بسمعة مودعه أو كرامته بل كل ما يضر إفشاؤه بالسمعة والكرامة عموماً ) .
أما القاضي أحمد فتحي زغلول فقد عرفه بأنه ( هو كل أمر سري في عرف الناس أو في اعتبار قائله من ذوي الحرفة أو الوظيفة التي تجعل صاحبها محلاً لأسرار الناس ) .
وقد كانت الشريعة الإسلامية أول من صان أسرار الناس واعتبرت السر بمكانة الأمانة فقد جاء في حديث الرسول محمد ( ص ) : (( إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت في أمانة )) وقوله أيضاً : (( من ستر عورة أخيه ستره الله في الدنيا والآخرة )) .
وقد اعتبرته التشريعات الوضعية واجبا ً يوازي الواجب المقدس لحق الدفاع وهو أساسه .

ونظراً لأهمية السر المهني في حياة الناس فقد أولاه المشرع أهمية بالغة وحدد له نصوصاً قانونية تعاقب من أفشاه بدون مبرر أو مسوغ قانوني.
فالمادة ( 22 ) من قانون المهنة رقم ( 39 ) لعام 1981م نصت على أن اليمين الواجب أن يحلفها المنتسب إلى نقابة المحامين وقبل مباشرته أي عمل يتعلق بها فقد جاء فيها : ( على المحامي الذي يسجل لأول مرة في الجدول أن يحلف أمام محكمة الاستئناف بحضور رئيس مجلس الفرع أو من ينوب عنه اليمين التالية :

(( أقسم بالله العظيم أن أمارس مهنتي بأمانة وشرف وأن أحافظ على سر المحاماة واحترام القوانين )) .

والمادة ( 65 ) من قانون البينات السوري أكدت هذا المنع بالنسبة للمحامين وغيرهم من أصحاب المهن إذ جاء فيها ما يلي :

( لا يجوز لمن علم من المحامين أو الوكلاء أو الأطباء أو غيرهم عن طريق مهنته وصنعته بواقعة أو بمعلومة أن يفشيها ولو بعد انتهاء خدمته أو زوال صفته ما لم يكن ذكرها له مقصوداً به ارتكاب جناية أو جنحة ) .

كما نصت المادة ( 565 ) من قانون العقوبات السوري على العقوبة لمن يفشي سراً فقد جاء فيها

(( من كان بحكم وضعه أو وظيفته أو مهنته أو فنه على علم بسر وأفشاه دون سبب مشروع أو استعمله لمنفعته الخاصة أو لمنفعة آخر عوقب بالحبس سنة على الأكثر وبغرامه لا تتجاوز المائتي ليرة إذا كان الفعل من شأنه أن يسبب ضرراً ولو معنوياً )).
فالمسؤولية الناتجة عن إفشاء السر المهني هي مسؤولية قانونية وليست عقدية والإفشاء لسر ما قد يكون بالكتابة أو القول أو الإشارة وعليه فقد رتب المشرع مسؤولية المحامي الجزائية إضافة إلى المسؤولية المسلكية والمدنية في حال إفشائه لسر علم به من خلال مهنته لأن المشرع فضّل المصلحة الخاصة في هذا المجال وهي كتم السر على المصلحة العامة وهي إفشاؤه استناداً للقاعدة الفقهية ( الضرورات تبيح المحظورات )).

مشتملات السر المهني :

إن المعلومات التي تصل إلى المحامي في معرض ممارسته لمهنته سواً كان وكيلاً أو مستشاراً تتصف بالطابع السري وعلى المحامي المحافظة على سرية تلك المعلومات وعدم إفشاؤها وهذه المعلومات إما أن تصل إلى المحامي مشافهةً وهي الحالة الغالبة أو عن طريق مراسلة باستخدام وسائل الاتصال المعروفة ( كالهاتف أو الفاكس أو الانترنت ) أو من خلال إطلاعه على تحقيق فتح بحق الموكل أو بأية وسيلة أخرى كالمفاوضات التي تجري بين المحامي مع محامي خصمه وهذه المفاوضات أيضاً تتسم بطابع السرية وعلى المحامي المحافظة على سريتها سواءً توصلت إلى نتيجة أم لا .
وهذه المعلومات مهما صغُر شأنها تُلقي على عاتق المحامي المحافظة عليها وعدم إفشاؤها ومن واجب الموكل أن يحيط وكيله المحامي بجميع المعلومات المتعلقة بالقضية التي وكله فيها مهما قل شأنها.
وكل إفشاء للسر تم خلافاً للقانون يقع باطلاً وبالتالي لا يمكن للمحكمة إلزام صاحب السر بإفشائه وإذا أخذت المحكمة معلومات من المحامي حول القضية أو الواقعة المطروحة أمامها واستندت إليها في حكمها كان حكمها عرضةً للنقض ومستوجباً البطلان ويتعرض من أدلى بتلك المعلومات للعقوبة الجزائية والمسلكية المنصوص عنها في قانون الجزاء أو قانون مهنته الخاص.
وواجب المحافظة على السر المهني عامٌ ومطلق وغير قابل للانتقال حتى بعد الوفاة كما لو أراد الورثة معرفة أسرار مؤرثهم من محاميه فليس لهم ذلك الحق.

مدى حق المحامي بالتحلل من السر المهني :

إن الالتزام الملقى على عاتق المحامي بالمحافظة على السر المهني هو التزام نسبي وليس مطلق فقد أورد المشرع السوري عدة حالات يجوز فيها للمحامي التحلل من السر المهني وهذه الحالات هي :

أ – الحالة الأولى : إذا كان المقصود بالأمر ارتكاب جناية أو جنحة :

لقد أوجب المشرع على كل مواطن علم بجناية أو جنحة أن يخبر عنها السلطات المختصة انطلاقاً من واجب أخلاقي ووطني سيّما إذا كان الأمر يتعلق بأمن الدولة وقد دلت على ذلك المادة / 26 / من قانون أصول المحاكمات الجزائية بفقرتيها الأولى والثانية حيث جاء فيها
(( 1 – من شاهد اعتداء على الأمن العام أو على حياة أحد الناس أو على ماله يلزمه أن يعلم بذلك النائب العام المختص .
2 – لكل من علم في الأحوال الأخرى بوقوع جريمة أن يخبر عنها النائب العام ))
ومن باب أولى أن يكون المحامي أول الملتزمين بهذا المبدأ كونه أحد الساهرين على خدمة العدالة فقد أوجب عليه المشرع التحلل من السر الذي علمه عن طريق موكله إذا كان المقصود به ارتكاب جناية أو جنحة وفي هذه رجح المشرع المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وقد تأيد هذا المبدأ باجتهاد محكمة النقض السورية رقم / 1707 / أساس / 2366 / تاريخ 4 / 11 / 1981م حيث جاء فيه : ( ( إذا كانت المعلومات التي اطلع عليها المحامي والتي أسر بها إليه أصحاب العلاقة من شأنها ارتكاب جنحة التحايل على القانون فلا يمكن أن تصان ويمكن الشهادة بها أمام القضاء وخاصةً وأنه لم يكن وكيلاً لأحد طرفي العقد عند تنظيمه ))
أما في حال وقوع الجرم وأقر المتهم لوكيله بارتكابه فلا يجوز للمحامي إفشاء السر وفي هذه الحالة من واجب المحامي أن يخبر نقيبه دون ذكر الاسم وعلى النقيب أن يبين للسلطة القضائية أنها أخطأت في القبض على شخصٍ بريء وتقضي بإعلان البراءة إذا اقتنعت بذلك .

ب – الحالة الثانية : إذن صاحب السر :
ولكن هذا الإفشاء يجب أن لا يصطدم بالقوانين الخاصة فإذا كانت هذه القوانين تمنع الإفشاء في حال الإذن امتنع إفشاء السر ، وإن قانون المحاماة يحتم على المحامي المحافظة على السر المسلكي المهني وعدم إفشاءه وقد تأيد ذلك بالمادة / 22 / من قانون تنظيم المهنة المتعلقة بقسم المهنة حيث جاء فيها : (( اقسم بالله العظيم أن أمارس مهنتي بأمانة وشرف وأن أحافظ على سر المحاماة وأحترم القوانين ))
حيث أكدت امتناع المحامي عن إفشاء السر ولو أذن له صاحبه بذلك تحت طائلة المسؤولية الجزائية والمسلكية نظراً لتعلق قانون المحاماة بالنظام العام .

ج – الحالة الثالثة : في حالة نشوب خلاف بين المحامي وموكله :
وهذه الحالة مستثناة من المبادئ العامة فإذا نشب خلاف بين المحامي وموكله سواءً أمام مجلس الفرع أو أمام القضاء فهنا للمحامي الحق أن يفشي ما استودعه موكله من أسرار استناداً لحق الدفاع عن النفس الذي يتقدم على واجب الكتمان ويفضل عليه مادام المحامي قد أصبح أمام شخص سيئ النية.
أما غير ذلك في الحالات التي أتينا على ذكرها فلا يجوز للمحامي التحلل مما أودع لديه من أسرار و إلا أصبح عرضة للمسؤولية .

المرجع في تقدير مدى ارتباط المعلومات بسر المهنة :

إن المرجع الأول والأخير في تقدير سرية المعلومات هو المحامي نفسه فقد أجمعت كافة التشريعات أن ضمير المحامي ووجدانه هو المرجع في تقدير ما اتصل بعمله من معلومات بطلب المحافظة عليها وكتمانها أو إفشائها وقد تأيد هذا المبدأ بقرار محكمة النقض السورية المختلطة الصادر بتاريخ 23 / 2 / 1938 والمنشور بالجريدة الرسمية عدد ( 12 ) القسم الفرنسي تاريخ 30 / 3 / 1939 حيث جاء فيه : ( إن ضمير المحامي هو الحكم المطلق وهو الذي يميز ما يلزم أن يقول وما يلزم أن لا يقول ).
ومن واجب المحامي في مطلق الأحوال إذا دعي للشهادة أن يحلف اليمين ثم يمتنع عن الشهادة متمسكاً بواجب المحافظة على أسرار المهنة وإذا استطاعت المحكمة إثبات أن ما وصل من معلومات لدى المحامي لم يكن بسبب ممارسته لمهنته ولم يكن من المعلومات السرية والمتعلقة بحق موكله فعليه الإدلاء بها.

وقد جاء في البند ( 125 ) من المذكرة الإيضاحية لقانون البينات على أن المنع الوارد في المواد / 63 – 64 – 65 – 66 – 67 / هو موجه إلى شخص من لديه معلومات فعلى المحكمة أن تدعوه للشهادة وعليه الحضور أمامها والاعتذار عن أداء شهادته بالاستناد إلى النص القانوني وللمحكمة إعفاؤه من الشهادة إذا تبين لها صحة معذرته.

وهكذا ما يؤكد أهمية السر المهني في حياة المحامي والمحاماة والمؤسسة القضائية وبنفس الوقت تؤكد أهمية حصانه المحامي أثناء ممارسته لهذه المهنة السامية ويتوجب على المؤسسة النقابية الاهتمام بحقوق المحامين وواجباتهم حفاظاً على هذه المهنة المتميّزة بكل أبعادها .
 

المحامي
معاوية الطباع
دمشق ـ سوريا

........................................................................................................................
*
- أمين سر نقابة المحامين في سوريا سابقاً
- رئيس رابطة الحقوقيين بدمشق سابقاً
- عضو المكتب الدائم لإتحاد المحامين العرب سابقاً