مقالات

حديثة

المحكمة المختصة للنظر في جريمة صرف النفوذ ـ المنسوب ارتكابها لمحام في إطار عمله في المحاماة

 المحامي :  محمد  بشير جزائرلي  عضو فرع نقابة المحامين بدمشق

سنة النشر :2003

 

     مازالت النظرة القانونية لمحكمة الأمن الاقتصادي ، تجاه المحامي الذي ينسب إليه ارتكاب جريمة صرف النفوذ في إطار عمله في المحاماة ، على توصيف هذه الجريمة طبقا لنص المادة 22 من قانون العقوبات الاقتصادية ، الجنائية الوصف ,وبالتالي محاكمة المحامي أمام محكمة الأمن الاقتصادي .

      في حين أن التوصيف القانوني لهذه الجريمة ، يجب أن يتم طبقا لنص المادة 348 من قانون العقوبات العام ، الجنحية الوصف ، التي يعود اختصاص النظر فيها الى محكمة بداية الجزاء .

      ذلك أن جريمة صرف النفوذ ، قد نص المشرع على ملاحقتها ومعاقبة فاعلها في كل من قانون العقوبات العام وقانون العقوبات الاقتصادية .

     فقد تضمن الفصل الأول من الباب الثالث من قانون العقوبات العام الصادر  بالمرسوم التشريعي رقم 148 تاريخ 22/6/1949 ، "الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة " والتي من بينها " جريمة صرف النفوذ " المنصوص عنها والمعاقب عليها بالمادتين 347و348 من هذا القانون .

     حيث نصت المادة 347 ع.ع على ما يلي :

  ""من أخذ أو التمس أجرا غير واجب أو قبل الوعد به سواء كان لنفسه أو لغيره بقصد إنالة الآخرين أو السعي لإنالتهم وظيفة أو عملاً أو مقاولات أو مشاريع أو أرباحا غيرها أو منحا من الدولة أو إحدى الإدارات العامة بقصد التأثير في مسلك السلطات بأية طريقة كانت عوقب بالحبس من شهرين إلى سنتين  وبغرامة أقلها ضعفا قيمة ما أخذ أو قبل به ""

     وأتى المشرع بعد المادة 347 ع.ع على نص خاص يتعلق بجريمة صرف النفوذ التي يرتكبها المحامي في إطار عمله المهني ، حيث نصت المادة 348 على ما يلي :

  إذا اقترف الفعل محام بحجة الحصول على عطف قاض أو حاكم (1) أو سنديك أو خبير في قضية :

      ""عوقب بالحبس لمدة ثلاث سنوات ومنع من ممارسة مهنته مدى الحياة "".

     وزيادة من المشرع في حرصه على المال العام وتشديد العقوبة بحق كل من يرتكب جريمة صرف النفوذ التي من شأنها


(1) المقصود بكلمة حاكم في هذا النص هو المحكم ، وقد جاء هذا اللفظ في قانون العقوبات اللبناني الذي استمد قانوننا أصوله من أكثر نصوصه , الصادر باللغة الفرنسية معبرا عنها بكلمة "ARBITRE " اى محكم , ومما يؤكد ذلك إن المادة 341 ع.ع التي تحدثت عن جريمة الرشوة قد نصت على كل امرئ كلف بمهمة رسمية كالحاكم والخبير و السنديك , ثم عاد في المادة 348 و استعمل كلمة حاكم ، مع أن اللفظين في الأصل الفرنسي وردا بتعبير واحد "ARBITRE" .

إلحاق الضرر بالمال العام ، فانه نقل عن المادة 347 ع.ع نصها ، وأدخلها في صلب قانون العقوبات الاقتصادية بموجب نص المادة 22 التي نصت على ما يلي:

     "" يعاقب بالأشغال الشاقة لمدة لا تقل عن خمس سنوات كل من أخذ أو التمس أجراً غير واجب أو قبل الوعد به سواء كان لنفسه أو لغيره بقصد إنالة آخرين أو السعي لإنالتهم وظيفة أو عملا أو مقاولات أو مشاريع أو صفقات أو أرباحاً أو غيرها أو منحاً من الدولة بقصد التأثير على الدولة أو في مسلك أحد العاملين فيها بأي طريقة كانت""

     وبالمقارنة فيما بين نص المادة347 ع.ع والمادة 22 ع. اقتصادية ، يتضح أن النصين شبه متطابقين ، ولا تختلف الثانية عن الأولى إلا بإضافة كلمة "" صفقات "" علاوة على المنافع و الفوائد الأخرى المعددة في المادة 347 ع.ع , وإلا أيضاً فيما يتعلق بالتأثير على الدولة أو في مسلك أحد العاملين فيها (أي في مسلك من يمثل الدولة من العاملين فيها ) بدلاً من التأثير في مسلك السلطات الواردة في المادة 347ع.ع . وإلا أيضاً بالاستغناء عن عبارة ( إحدى الإدارات العامة ) الواردة في المادة 347 ع.ع .

      ومن جهة أخرى فان العقوبة المنصوص عليها في المادة 22 ع .اقتصادية هي جنائية الوصف ، في حين أن العقوبة التي نصت عليها المادة 347 ع. هي جنحية الوصف .

     وتتميز جريمة صرف النفوذ المنصوص عليها في المادة 22 ع. اقتصادية ، على غرار الجريمة المنصوص عليها في المادة 347 ع.ع بأنها تؤدي إلى إلحاق الضرر بالأموال العامة والى أضعاف الثقة بأعمال السلطة العامة والإدارات الخاضعة لها، التي لها سلطة تقديرية بصدد منح أو رفض منح الوظائف و الأعمال و المقاولات والمشاريع والصفقات والمنح المحددة فيهما ، والتي يستهدف الفاعل إنالة الآخرين لها . وليس ثمة ضرورة لقيام الجريمة نجاح الفاعل في مسعاه لتحقيق الأمور المنصوص عليها أو فشله فيها  ، كما انه لا تأثير على توفر الجريمة ان يكون الفاعل ذا نفوذ حقيقي أو مختلق .

     وقد ذهب قضاء محكمة النقض المصرية في هذا الصدد إلى انه لا يشترط لقيام هذا الجرم أن يكون للفاعل نفوذ حقيقي إذ يمكن أن يتوفر ولو لم يكن له نفوذ ، وليس من الضروري أيضا أن يكون  الزعم بالنفوذ صريحا ويكفي ان يكون سلوك الفاعل منطوياً ضمناً على زعم بهذا النفوذ ( قرار المحكمة في20/11/1967 ) .

(شرح قانون العقوبات الاقتصادي للمحامي الأستاذ صلاح يوسف آغا – ص 178 )

(قرار نقض فرنسا 30/1/1909 وقرارها 20/11/1927 )

     وتتحقق جريمة صرف النفوذ الاقتصادي باستهدافها إنالة الغير مقاولات أو مشاريع أو صفقات في المجال الاقتصادي أو إنالته أرباحاً غير مشروعة أثناء تنفيذ هذه المقاولات أو المشاريع أو الصفقات ، مما يؤدي إلى إلحاق ضرر فادح بالمشاريع الاقتصادية العامة وقد يؤدي إلى القضاء على هذه المشاريع في المهد ان قدر لها الظهور ، أو إلى شل حركتها ونشاطها ان كانت قائمة قبل ذلك,.

     ( المرجع السابق للأستاذ صلاح يوسف آغا - فكرة الجريمة الاقتصادية وأحكامها المقدم من الأستاذ عمر ابو الطيب الأستاذ في كلية العلوم القانونية والاقتصادية في جامعة الرباط إلى الحلقة العربية الأولى للدفاع الاجتماعية عام 1966 ).

     وقد تصور المشرع ان المحامي في إطار عمله في المحاماة ، قد يرتكب جريمة صرف النفوذ في محيطه الذي يعمل فيه عند متابعته للقضايا أمام المحاكم ، عن طريق أخذ أو التماس اجر غير واجب بحجة ربح القضية عن طريق استعطاف القاضي أو الحكم أو السنديك أو الخبير في القضية .

     فأورد بعد المادة 347 ع.ع نصاً خاصاً بمعاقبة المحامي الذي قد يرتكب في محيطه جريمة صرف النفوذ ، وهي المادة 348ع.ع التي حددت صورة النشاط الإجرامي لهذه الجريمة على النحو الآتي :

    "" إذا أقترف الفعل محام بحجة الحصول على عطف قاض أو حاكم ( محكم ) أو سنديك أو خبير في القضية عوقب بالحبس من سنة إلى ثلاث سنوات ومنع ممارسته مهنته مدى الحياة "" .

    وبالتدقيق في هذا النص القانوني ، يتبين إن المشرع قد أورد نصاً خاصاً يقضي بمعاقبة المحامي الذي يأخذ أو يلتمس أجراً غير واجب أو يقبل الوعد به سواء كان لنفسه أو لغيره ، بحجة الحصول على عطف القاضي أو المحكم أو السنديك أو الخبير في قضية ينظر فيها أي منهم .

     مما لا يدخل في مشروعه الجرمي تلك الأفعال الجرمية التي تحدثت عنها المادتان 347 ع.ع 22 ع. اقتصادية والتي يقصد الجاني من وراء صرف النفوذ إنالة الآخرين وظيفة أو عملاً أو مقاولات أو مشاريع أو صفقات أو أرباحاً غيرها أو منحاً من الدولة في المجال الاقتصادي ، والتي من شأن تحقيقها إلحاق ضرر بالأموال العامة .

     بحيث يمكن القول أن أحكام المادة 348 ع.ع لها استقلالية عن المادة 347 ع.ع والمادة 22 عقوبات اقتصادية .

    باعتبار ان المادة 348 ع.ع  ، هي خاصة بفئة من المجتمع وهي طبقة المحامين الذي قد ينفرد أحدهم بارتكاب خطأ أو زلة في مجال عمله في المحاماة ، على النحو الوارد في نص المادة 348ع.ع التي حددت بدقة النشاط الإجرامي الذي يقترفه المحامي في مجال عمله المهني ، وهو أخذ أو التماس أجر غير واجب بحجة الحصول على عطف قاض أو ………  في قضية . فلا يجوز للنيابة العامة أو لقاضي التحقيق أو لمحكمة الجزاء التي يقدم إليها محام لمحاكمته عما نسب أليه من جرم صرف النفوذ بحجة الحصول على عطف قاض أو ……  في قضية ، ان تطبق عليه أحكام المادة 22 عقوبات اقتصادية لأن النشاط الإجرامي المنسوب لمثل هذا المحامي لا يتعلق بمقاولات أو مشاريع أو صفقات …… الخ .. والتي من شأن تحقيقها إلحاق الضرر بالأموال العامة .

     و إنما يجب عليها توصيف الجرم طبقاً لنص المادة 348 ع.ع , لأنها نص خاص بالمحامين الذي يعاقب في حال ثبوت ارتكابه جريمة صرف النفوذ في نطاق عمله في المحاماة بأخذ أجر غير واجب بحجة الحصول على عطف قاض أو … في قضية , بعقوبة الحبس من سنة إلى ثلاث سنوات والمنع من ممارسته مهنته مدى الحياة .

     ومن المبادئ القانونية في أولوية تطبيق نصوص القوانين , أن النص الخاص يقيد النص العام ويتقدم عليه في التطبيق.

     مما يعني أن نص المادة 348 ع.ع وهو نص خاص بصرف النفوذ الذي يرتكبه المحامي , هو النص الواجب التطبيق دون النص العام المتعلق بالأفراد عامة ، وهو نص المادتين 347 ع.ع و22 عقوبات اقتصادية المحصورة نشاط فاعليها بالمجالات الاقتصادية والوظائف التي يقصد فيها التأثير على الدولة أو على من يمثلها في الوزارات و المؤسسات          و الإدارات العامة .

      وخلاصة القول فان المحامي الذي ينسب إليه جريمة صرف النفوذ في ميدان عمله وممارسته للمحاماة بأخذ اجر غير واجب بحجة حصوله على عطف قاض أو محكم أو سنديك أو خبير ، يجب أن يطبق على فعله أحكام المادة 348 ع.ع دون غيرها من النصوص القانونية الأخرى , وبالتالي فان المحكمة المختصة للنظر في جريمة صرف النفوذ المنسوبة إليه هي محكمة بداية الجزاء.

     أما الأفراد الآخرون الذين ينسب الى أي منهم جريمة صرف النفوذ , عما أخذ أو التمس اجراً غير واجب …  بقصد إنالة آخرين أو السعي لإنالتهم وظيفة أو عملاً أو مقاولات أو مشاريع أو صفقات أو أرباحا أو غيرها أو منحاً من الدولة بقصد التأثير على الدولة أو في مسلك أحد العاملين فيها بأي طريقة كانت , فهم وحدهم الذين يطبق عليهم أحكام المادتين 347 ع.ع و 22عقوبات اقتصادية التي تعاقبان معاً على جريمة صرف النفوذ في المجالات الاقتصادية.

     ومادامت المادة 22 من قانون العقوبات الاقتصادية تنطوي على عقوبة اشد من المادة 347 ع.ع فان نص المادة 22 عقوبات اقتصادية هي الواجبة التطبيق ، إذا كان الضرر الناتج عن الجريمة او النفع الذي قصد الفاعل اجتلابه يتجاوز النصاب النقدي أو المالي المحدد في الفقرة ب من المادة 28 من قانون العقوبات الاقتصادية المعدلة , أي يتجاوز المائة الف ليرة سورية .

      وبالتالي فأن محكمة الأمن الاقتصادي تكون هي المختصة للنظر في جريمة صرف النفوذ المنسوبة إلى المدعى عليه ، أما في حالة عدم تجاوز هذا النصاب النقدي أو المالي المشار أليه آنفاً , فيطبق نص المادة 347 ع.ع وبالتالي فان محكمة بداية الجزاء تكون هي المختصة للنظر في هذه الجريمة .

      وما دام الأمر كذلك ، فإننا نرى اتباع الإجراءات القانونية التي تكرس قواعد الاختصاص للنظر في جريمة صرف النفوذ التي تنسب إلى المحامي بأخذ أو التماس أجر غير واجب أو قبول الوعد به سواء كان لنفسه أو لغيره , بحجة الحصول على عطف قاض أو محكم أو سنديك أو خبير في قضية و العدول عن الاجتهاد المخالف , وتكريس مبدأ قانوني يجعل الاختصاص في دعوى جريمة صرف النفوذ التي ينسب ارتكابها لمحام , معقوداً لمحكمة بداية الجزاء طبقاً لنص المادة 348 من قانون العقوبات العام .

 

 المحامي

 محمد بشير جزائرلي

 عضو مجلس فرع نقابة المحامين بدمشــق