الفساد بالمغرب ليس ظاهرة ظرفية خاصة بعهد قديم او جديد، ولا مرتبطا بحكومة يمينية أو يسارية، ولا حكرا على أحزاب رجعية أو تقدمية، ولا حالة يمكن محاربتها بتغيير في التشريعات وسن قوانين زجرية صارمة، بل هو سلوك وثقافة وطبيعة ـ تكاد تكون غريزية وفطرية ـ وعقل وفلسفة وذهنية… ومن هنا فهو ظاهرة راسخة مترسخة، أصيلة متأصلة، عميقة ومتجذرة لا يزعزعها عهد جديد ولا قديم، ولا يمين ولا يسار، ولا احتكار للسلطة ولا تناوب عليها.
أصول الفساد بالمغرب: والسؤال: ما هي العوامل والأسباب التي تفسر هذا الاستشراء للفساد الذي ينخر هياكل الدولة ومؤسساتها ويدمر مصداقيتها؟ ما هو المصدر الذي تغرف منه ثقافة الفساد بالمغرب؟ لماذا يصعب وضع حد لهذه الظاهرة المستفحلة؟
لقد أصبح شيئا مألوفا أن يرد "مثقفونا" و"مفكرونا" ـ لتبرير العجز والكسل والتخلف ـ الكثير من مساوئنا وظواهرنا السلبية إلى الاستعمار وفرنسا، إلا الفساد فلم يسبق أن قرأت أن مصدره هو الاستعمار الفرنسي. فمن أين جاء هذا الفساد الذي يقف عائقا أمام كل إصلاح وتنمية حقيقة؟ فإذا لم تأت به فرنسا المستعمرة، فهذا يعني أن ممارسة الفساد كانت موجودة بالمغرب قبل الحماية، ثم استأنفناها بعد استرجاعنا لسيادتنا، أو أننا استحدثناها كظاهرة جديدة مع حصولنا على الاستقلال.
لكن، بما أن الظاهرة ذات طبيعة اجتماعية سياسية، فلا يمكن إلا أن تكون لها جذور وأصول تمتد إلى الماضي البعيد. فالمعطيات التاريخية الثابتة تبين أن "الدوائر المخزنية"، قبل الحماية، كانت وكرا للمارسات التي تصب في الفساد، كالدسيسة والمكر واستغلال النفوذ والشطط في استعمال السلطة وخدمة المصالح الشخصية والعائلية على حساب مصلحة الوطن والمواطنين وهدر للمال العام، هذا الهدر الذي كان وراء الظلم الذي كانت تعاني منه القبائل التي كان يرهقها المخزن بالجبايات لحاجته التي لا تقف عند حد إلى المال الذي كانت تبذره "الدوائر المخزنية" في البذخ والسفه والمباهاة. وهذا الفساد والظلم والاعتداء على القبائل كان سببا لتمردها ومناهضتها "للدوائر المخزنية". هذه الحالة العامة من الفساد هي التي سهلت على الاستعمار أن يحتل "المغرب المخزني" بسهولة، بل إن "الدوائر المخزنية" استعجلت هذا الاحتلال فضغطت على السلطان مولاي عبد الحفيظ ليوقع على عقد الحماية، لأن هذه "الدوائر المخزنية" رأت في الحماية الفرنسية حماية لفسادها من غضب القبائل التي كانت تهددها بانتفاضاتها المتكررة.
وإذا كانت فرنسا لم تدخل معها الفساد إلى المغرب من الخارج، كما أشرنا، فإنها مع ذلك لعبت دورا رئيسيا في تعميمه والحفاظ عليه بإخضاعها لسلطة المخزن القبائلَ التي كانت تحدّ بأعرافها الديموقراطية، من انتشار الفساد خارج "الدوائر المخزنية". وهذا ما يفسر أن ظاهرة الفساد، التي كانت قبل الحماية محدودة ومقصورة على أوساط مخزنية معروفة، ستصبح ظاهرة عامة ووطنية، حاضرة ومتفشية في كل مدينة وقرية وإدارة، بل في كل علاقة يكون المخزن طرفا فيها: السائق والدركي، المهرب والجمركي، طالب شهادة السكنى ومقدم الحومة، طالب شهادة الازدياد ومكتب الحالة المدنية، طالب رخصة البناء والمسؤولين بالمكتب الجماعي..إلخ، حتى انه ظهر مصطلح خاص للدلالة على هذا النوع من الفساد والارتشاء الذي يخص الطبقات الشعبية في علاقاتها بالممثلين الصغار للمخزن، هذا المصطلح هو "التدويرة". هذا دون الكلام، طبعا، عن الفساد الكبير الذي يهم الكبقات الراقية والذي يتعلق بالأرقام الكبيرة: الصفقات العمومية، رخص الاستغلال، الخوصصة، المؤسسات المالية التي افتضح أمرها أخيرا.. إلخ. هكذا أصبح الفساد بعد الاستقلال ظلا يتبع المخزن حيث حل وارتحل. وبما أن المخزن أصبح، كالهواء، موجودا في كل مكان، فكذلك الفساد أصبح موجودا هو أيضا في كل مكان.
الفلكلور الانتخابي، قمة الفساد بالمغرب: السؤال الآخر الذي يطرحه الفساد بالمغرب: لماذا لم يسبق أن حوكم أي مسؤول كبير من الكثيرين الضالعين في الفساد واختلاس المال العام؟ فالمشكل ليس أن يوجد بالمغرب مفسدون ومرتشون، فهؤلاء يوجدون حتى في الدول الأكثر ديموقراطية، لكن المشكل هو أن لا يعاقبوا ولا يحاسبوا. فأول مرة حوكم فيها وزراء وموظفون كبار عن فسادهم واختلاسهم للأموال العامة كان ذلك بعد المحاولة الانقلابية في 1971، التي كان الفساد أحد أسبابها الرئيسية. ومنذ ذلك الوقت وعى أصحاب القرار أن الفساد شيء خطير قد يهدد وجود وكيان السلطة المخزنية برمتها. فما العمل إذا كان القضاء على الفساد أمرا مستحيلا لأنه جزء من بنية النظام المخزني الذي انتقل إلينا من الأندلس؟ فالقضاء النهائي على الفساد يعني القضاء على النظام المخزني نفسه. فكيف يمكن التوفيق بين ضمان استمرار النظام المخزني وضمان أن لا يؤدي الفساد الملازم لهذا النظام إلى غضب وتمرد ضد السلطة، كما كانت تفعل بعض القبائل قبل الحماية، أو كما حصل في المحاولة الانقلابية في 1971؟
هذه المعادلة الصعبة ستجد حلها في تدجين الفساد وتطبيعه ومأسسته، وذلك بتوريط الجميع فيه، بمن فيهم المعارضون للمخزن والمنتقدون للفساد. يجب إذن إن لا يبقى الفساد مقصورا على "الدوائر المخزنية"، بل ينبغي أن يتسع ليشمل حتى أولئك المنددين به والمعترضين عليه. ولكن ما هي الوسيلة التي ستجعل الجميع مشاركا في الفساد ومتورطا فيه؟ هذا ما سيضطلع به "الفلكلور الانتخابي" الذي سيدخل معه الفساد بالمغرب مرحلة جديدة منذ عقد السبعينات، حيث سيبرز إدريس البصري كمهندس لهذا "الفلكلور الانتخابي" الذي كان يوجهه ويشرف على جوقته بعبقرية فذة قل نظيرها، حتى انه يمكن تسميته بـ"وزير الفساد" بامتياز. إن خطورة وفعالية "الفلكلور الانتخابي" هو انه يجعل كل مواطن مشاركا في الفساد سواء شارك في الانتخابات أم لم يشارك، ترشح أم لم يترشح، صوّت أم لم يصوّت، ما دام أن ميكانيزم الانتخابات تجعل الممتنع عن المشاركة والتصويت مشاركا ومصوتا دون أن يريد ذلك، وبالتالي يصبح مساهما في لعبة الفساد رغما عن أنفه. ولم يكن لهذا "الفلكلور الانتخابي" أن ينجح إلا بخلق وإعداد "فلكلور حزبي" مواز "للفلكلور الانتخابي" ليضفي على هذا الأخير المشروعية والمصداقية. تلك كانت مهمة ما يسمى ب"الأحزاب الإدارية"، بأعدادها وألوانها. فكما أن منطق وميكانيزم الانتخابات، كما قلنا، يجعل الممتنع عن التصويت مصوتا، فكذلك يجعل من الحزب المقاطع للانتخابات مشاركا فيها، وبالتالي مشاركا في الفساد، أراد ام كره. إن "الفلكلور الانتخابي" آلة جهنمية لإشراك الجميع في الفساد حتى لا يبقى لأحد مبرر للاحتجاج على المفسدين الكبار.
ولم يؤد "الفلكلور الانتخابي" فقط مهمته المتمثلة في إشراك الجميع في الفساد، وبالتالي تزكيته ومأسسته، بل أدى كذلك إلى إفساد مفهوم الديموقراطية بتحويل ما هو وسيلة فيها إلى غاية في ذاتها: فالدول الديموقراطية الحقيقية تعتمد الانتخابات كوسيلة فقط للديموقراطية التي هي الغاية. أما عندنا فقد أضحت الانتخابات غاية في ذاتها، وأصبحت الديموقراطية تعني مجرد الانتخابات. وهذا من اخطر نتائج "الفلكلور الانتخابي والحزبي" لأنه يدمر جوهر الديموقراطية ويستبدلها بالشكل والزخرف الذي هو إجراء الانتخابات.
هناك سؤال يتكرر مرارا في الصحف الوطنية: لماذا يتقاضى البرلمانيون المغاربة أجورا تعتبر من الأجور الأكثر ارتفاعا في برلمانات العالم ـ دون الكلام عن الفوائد والامتيازت الكثيرة الأخرى ـ بالمقارنة مع مستوى الأسعار والمعيشة بالمغرب؟ الجواب: حتى يكون هناك مزيد من الإقبال والمشاركة في "الفلكلور الانتخابي"، مع ما يعني ذلك من مزيد من الإقبال والمشاركة في الفساد وتدجينه وتطبيعه. لنفرض أن مرتبات البرلمانيين لا تتعدى أربعة آلاف درهم كتعويض شهري: فهل ستستمر جوقة "الفلكلور الانتخابي" بنفس الحماس والإيقاع والإقبال؟ الجواب البديهي لا. وهذا يؤكد أن الانتخابات عندنا أريد لها أن تكون هي غاية الغايات لتوريط الجميع وإشراكهم في اللعبة المحبوكة. وبناء على هذا المنطق الداخلي "للفلكلور الانتخابي والحزبي"، فإن المرشح الذي يشتري الأصوات والناخب الذي يبيع صوته، يتصرفان بعقلانية ومنطق: فالذي يشتري الأصوات يريد الفوز بمقعد جعله منطق "الفلكلور الانتخابي" أفضل ما يحلم به الإنسان في حياته لما يرتبط به من امتيازات سريالية تضمن حاضره ومستقبله هو والمقربين إليه. أما الذي يبيع صوته، فلا يفعل ذلك إلا لأنه واثق ومقتنع بأن نتائج الانتخابات، سواء نجح هذا المرشح أو ذاك، لا تغير من الأمر شيئا لأنها مجرد فلكلور وتمثيل مسرحي للديموقراطية. وما دام ليس هناك فرق بين المرشحين على مستوى البرامج والنتائج، فإن دفع مبالغ أكبر هو ما يشكل الفرق الحقيقي بين المرشحين بالنسبة للناخب. هذا هو منطق "الفلكلور الانتخابي" الذي يبرر الفساد ويشجع عليه.
تخليق الحياة ضرب لدولة الحق والقانون: جاءت حكومة "التناوب" التي كان الجميع ينتظر منها محاربة الفساد واستئصاله. فإذا بها تعلن، لتطمئن المفسدين، أنها لن "تطارد الساحرات". لكنها وعدت ب"تخليق الحياة العامة". واليوم، وقد مرت سنتان على تنصيب حكومة التناوب ولم نر شسئا من هذا "التخليق" الذي وعدت به. والكل يتساءل: أين هو "التخليق" الذي نادت به الحكومة منذ سنتين؟
لكن السؤال الحقيقي، ليس: أين هو "تخليق الحياة العامة" الذي وعدت به الحكومة؟، بل: لماذا اللجوء إلى "تخليق الحياة العامة" لتطهيرها من الفساد بدل تطبيق القانون الذي يعاقب على الفساد؟ إن محاربة الفساد ب"تخليق" الحياة العامة هو تساهل وتنازل وسكوت عن الفساد. بل إن الذي حمى هذا الفساد وشجع عليه هي علاقات ذات محتوى اخلاقي فاسد: القرابة العائلية، علاقة المصاهرة، تبادل المصالح.. إلخ. فمحاربة الفساد ب"التخليق" و"الأخلاق" هو عمل مناقض لدولة الحق والقانون التي تكون فيها السيادة للقانون وليس للأخلاق، لأن هذه الأخيرة مجرد وعظ يخاطب الضمير وليس ملزما ينزل العقاب بمن يخالف تلك الأخلاق، كما هو الشأن بالنسبة للقانون: فلا يكفي مثلا، لحمل الناس على الصدق وتجنب الكذب، أن نبين لهم محاسن الصدق ومساوئ الكذب من الناحية الدينية والأخلاقية ما دام أنهم لا يعاقبون على الكذب إلا في الحالات التي حددها القانون ـ وليس الأخلاق ـ كشهادة الزور مثلا. نفس الشيء في ما يتعلق ب"تخليق" الحياة العامة: تبقى مجرد وعظ وإرشاد لن يحدّ من الفساد شيئا. وعلى العكس من ذلك، يمكن القضاء على ظاهرة الفساد بسهولة إذا تم تطبيق القانون وإعمال القضاء. فنحن لا نحتاج إلى أخلاق، بل نحتاج إلى تطبيق للقانون. ف"التخليق" يعني التساهل والتسامح مع المفسدين. و"التخليق" هو سبب عدم "مطاردة الساحرات"
إن الفساد بالمغرب، لأنه تمت مأسسته وتطبيعه عن طريق "الفلكلور الانتخابي"، فقد أصبح سلوكا وثقافة وذهنية. ولا يمكن القضاء عليه، إذن، إلا بتغيير في الذهنية
بقلم ذ محمد بودهان