![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 1 | |||
|
![]() هذ البحث للدكتور كمال الغالي الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة دمشق من كتابع مقرر القانون الدستوري والنظم السياسية وسعياً للفائدة وللتمييز بين الدولة والسلطة إذ أنه وقع التباس في الفترة الأخيرة في التفريق بينهما بما في ذلك العاملين في المجال القانوني كما أنني وكمساهمة في نشر تراث أساتذتنا الكبار والقدامى بنشر تراثهم كنوع من العرفان لهم وعلينا أن ننتبه لحصول انحلال في الدول مثل الاتحاد السوفييتي ويوغسلافيا وتحول جنوبي افريقيا من التابعية للتاج البريطاني إلى دولة مستقلة إذ أن هذا الكتاب طبعة 1986-1987 وهذه التطورات حصلت بعد طباعته لذلك توليت نقل هذا البحث من حيز الكتاب المطبوع إلى الحيز الالكتروني والله من وراء القصد 00000000000 الدولة تمهيد - المجتمع حدث طبيعي تحتمه حاجة الإنسان إلى بني الإنسان 0 فالإنسان مضطر إلى الاشتراك مع غيره والانتماء إلى جماعة ما 0 والفرد لم يوجد منعزلاً قط ، فهو ينتمي إلى جماعة منذ ولادته ، وعندما يعي ذاته يجد نفسه أسير شبكة من العلاقات الاجتماعية المتنوعة 0 وغرائزه كلها ، تستوي في ذلك الغرائز النفعية والغيرية ، من غريزة من غريزة حفظ الذات إلى غريزة حفظ النوع ، تشده إلى المجتمع 0 ومع النمو المضطرد للملكات الإنسانية ، تظهر على وجه الدوام دوافع جديدة تعزز ارتباطه بالمجتمع وتشعره بأهمية هذا المجتمع وخطره 0 ففيه يجد الفرد انطلاق مواهبه ونمو شخصيته في مختلف مظاهرها ، وإمكانية بلوغ غاياته ، من أكثرها بدائية إلى أسماها وأنبلها 0 - يحلل الفقيه ديجي ارتباط الفرد بالمجتمع (1) ((1) المبسط في القانون الدستوري ، الطبعة الرابعة ، باريس 1923 ص7-10)0 مقتفياً أثر دوركهايم ، فيقول أن الفرد باعتباره جزءاً من جماعة له حاجات لا يمكن إشباعها إلا عن طريق الحياة المشتركة والآمال المشتركة بينه وبين كثير من الأفراد الآخرين ، لذلك ينزع إلى العيش المشترك لتحقيقها ، ويسمى ذلك التضامن بالتشابه 0 غير أن الأفراد يتميزون في الوقت ذاته بحاجات متباينة وأفكار مختلفة ورغبات متفاوتة ، وهذا أيضاً يفرض عليهم الحياة الجماعية ويخلق بينهم نوعاً خاصاً من التضامن ، بسبب التفاوت في ملكاتهم وقدراتهم ، وهذا التمايز يتجلى بالتضامن الناتج عن تقسيم العمل 0 وهذا النوع من التضامن يشكل رابطة عضوية تسهم أكثر من الأولى في تماسك المجتمع 0 - وفي المجتمع نجد كثيراً من الروابط المتنوعة ، حتى ليمكن القول أن بني الإنسان لا يتجمعون على نمط واحد بل بأشكال عديدة وفاقاً لمعايير وأهداف متنوعة 0 وتبعاً لذلك فإننا نجد جماعات من أنماط مختلفة : رابطة أولى تكونها وحدة الدم تنشأ عنها جماعات من أنماط مختلفة : رابطة أولى تكونها وحدة الدم تنشأ عنها جماعة توحد بينها أواصر القربى والنسب وتنشأ عنها الأسرة ، ورابطة ثانية تتكون من محل الولادة ، وتعبر عن نفسها بروابط أخرى (وحدة اللغة والعادات ) وتنشأ عنها الأمة ، ويمكن للبشر فوق هذا وذاك أن يتجمعوا تبعاً لمهنهم ووجوه نشاطهم ، وبصورة خاصة تبعاً لأسلوب الإنتاج أو توزيع الثروة ، ولدينا عند ذلك الجماعة الاقتصادية ، أو تبعاً لوحدة المعتقدات الدينية ، وهذه هي الجماعة الدينية 00 الخ 0 ونجد أخيراً الجماعة السياسية التي تكونها الرابطة القانونية : وهي الدولة 0 الدولة : إذا كانت الجماعة ، في مفهومها الشامل ، تنطوي في ذاتها على أنواع مختلفة من الروابط ، فإن بينها رابطة على جانب عظيم من الأهمية ، هي الرابطة القانونية أو بتعبير أدق ، الرابطة السياسية التي تجعل من الجماعة دولة 0 فالدولة إذن شكل من أشكال الجماعة ، هي الجماعة السياسية ، ولا يجوز الخلط بين هذين المفهومين ((1)) (1) ((ماسبيتول ، الدولة إزاء الشخص والمجتمع ، باريس ، 1948 ن ص13-15 وديل فيكو ، فلسفة القانون ، الترجمة الفرنسية ، منشورات دالوز ، باريس 1953 ، ص352 )) 0 فالجماعة في حد ذاتها تجمع عفوي أوسع من الجماعة السياسية وسابق عليها ، إذ في أحضانها تكونت ، قبل وجود الدولة ، القواعد القانونية الأولى من عادات وعرف وتقاليد 0 والأديان والقوميات ( وهي – كما رأينا – أشكال أخرى للجماعة ) تضم أحياناً عدداً من الأفراد ينضوون تحت لواء دول عديدة 0 غير أن رابطة الدولة ، وإن لم تكن أوسع الروابط ، فإنها تبقى أوثق هذه الروابط وأمتنها ، لأنها هي التي تضفي على الروابط الأخرى التي تنطوي عليها الحياة المشتركة شكلها ، وهذه الروابط الأخرى تتأثر إلى حد بعيد بالرابطة السياسية لأنها تنمو في إطار الدولة 0 فداخل الدولة نشاهد عملية تفاعل تنتهي إلى تحقيق نوع من التركيب ، نوع من الوحدة بين الأفراد المختلفين بحيث يتكون منهم كائن اجتماعي جديد (1) 0 ((1) هذه الحقيقة تفسر لنا إلى حد ما السياسة التي اتبعتها الدول الأوربية عند استعمارها البلاد العربية ، ففرنسا كنت تحتل الجزائر وتونس ومراكش ، وهي أقطار متجاورة ، لم تجعل منها وحدة اقتصادية وإدارية ، ولم تشذ عن هذا الأسلوب عند احتلالها سورية ولبنان فجعلت منهما دويلات عديدة في بداية المر ، وانتهت إلى تكوين دولتين 0 وانجلترة التي احتلت مصر والسودان والعراق والأردن وفلسطين جعلت كل قطر منها دولة بذاتها ، وبذلك قامت مصالح اقتصادية ومراكز اجتماعية نمت في ظل أوضاع التجزئة وارتبط كيانها باستمرار الفرقة 0 وهذه القوى الاقتصادية ، والاجتماعية هي القوى الانفصالية الحقيقية في الوطن العربي 0 والأنظمة القائمة في البلاد العربية إنما تعبر عن هذه المصالح والقوى الاقتصادية ، وليس عجباً بعد ذلك أن نجد أن الجامعة العربية التي قامت عام 1945 لم تحقق بعد ثلث قرن أية خطوة جدية في سبيل الوحدة العربية ، وإذا كانت المؤتمرات الدبلوماسية والخطب الرسمية تكثر من الحديث عن الوحدة فلمجرد تخدير جماهير الشعب العربي التي تربط بين التجزئة والتخلف والاستعمار ، وتحس أن الوحدة سبيلها الوحيد للتحرر وتحقيق التقدم ، وهذه الوحدة لا تتم غلا بقيام دولة عربية واحدة ، تجسد أماني الأمة وتسعى لتحقيقها 0 وهذه الحقيقة ذاتها تفسر لنا كيف تعتمد الصهيونية على دولة إسرائيل لصهر اليهود المهاجرين إلى فلسطين من شتى أنحاء العالم وبناء ((أمة يهودية ))0 فالدول الإقليمية تعوق مسيرة الوحدة وبناء الأمة العربية بينما الدولة الواحدة تتيح بناء أمة واحدة من عناصر متباينة 0))0 - وتستعمل كلمة الدولة (1) ((1)ظهر تعبير etat بمعنى الدولة في القرن السادس عشر ، مع نشوء الدول الأوربية الجديدة ، على أنقاض الإمبراطورية الرومانية المقدسة 0 وهو مشتق من الأصل اللاتيني status ، ويشير إلى فكرة ((الوقوف واستقرار الوضع )) ، ومنه اشتقت الكلمة في مختلف اللغات الأوربية 0 وكان ماكيافيل أول من استعمل التعبير في كتابه ((الأمير )) 0 ولعل من الطريف الإشارة إلى أن كلمة ((دولة )) في العربية ظهرت بمعنى السطوة والغلبة في فترة الانحطاط التي تلت انهيار الدولة العربية وتفككها ، واللفظ يعكس هذا المعنى بوضوح : فالزمان دال دولة ، أي دار وانقلب من حال إلى حال ، ودالت له الدولة صارت إليه ، والدولة مصدر جمعها دول ، وتعني ما يتداول فيكون مرة لهذا ومرة لذاك ، فتطلق على المال والغلبة ، والدهر دول أي لا ثبات فيه ولا قرار 0 هكذا نجد أن التعبير يدل على اضطراب الحال وعدم الاستقرار عكس المستفاد من الأصل اللاتيني 0))0 في معنيين مختلفين (2) ((2) ديفرجيه ، ص57 ، وبنتو مبادئ القانون الدستوري ، الطبعة الثانية ، ليل ، 1952 ، ص96 0 ويلاحظ أن النظرية الماركسية تستخدم تعبير الدولة بمعنى الدولة – الحكومة ، إذ يعرفها ماركس وانجلس بأنها أداة الإكراه التي تقيمها وتستخدمها الطبقة المسيطرة 0))0 فإذا ما تناول الحديث تدخل الدولة في المسائل الاقتصادية ، أو وجه النقد إلى الدولة وتصرفاتها وجرى الحديث عن إصلاحها ، فإنما ينصرف الكلام إلى الحكومة أو مجموع التنظيم الحكومي ، أي الحاكمين 0 أما إذا قلنا أن فرنسا وإيطاليا والاتحاد السوفييتي تكون دولاً ، فإنما تعني أنها مجتمعات بشرية من نوع خاص ، أنها أمم ذات سيادة 0 والصلة واضحة ووثيقة بين المعنيين ، فالدولة بالمعنى الأول ، أي الدولة – الحكومة ، إن هي إلا مجموع الحاكمين في أمة ذات سيادة ، أي الدولة بالمعنى الثاني ، الدولة – الأمة ، وبالتالي فإن المعنى الثاني أوسع بكثير من الأول ويشمله 0 ومن المهم توخياً للدقة أن نميز بين المعنيين المختلفين لكلمة الدولة ، وكثيراً ما يكفي سياق الحديث لتفادي الخلط بينهما 0 - ويذهب بعض الفقهاء (1) ((1) العميد ديجي ، المطول في القانون الدستوري ، الطبعة الثانية ، الجزء الأول ، ص432 وما بعدها )0 إلى أن الدولة ظاهرة مشتركة بين كل الجماعات البشرية ، من أكثرها بدائية إلى أكثرها مدنية 0 وإن الدولة توجد كلما تحققت ظاهرة معينة هي التمايز بين أولئك الذين يأمرون والذين يخضعون للأوامر 0 فكلما وجد فرد أو مجموعة من الأفراد ، قل عددهم أو كثر في وضع يمكنهم من فرض إرادتهم على مجموعة أوسع من الناس ، بالإقناع أو الإكراه المادي ، توجد الدولة 0 وتثير هذه النظرية معارضة عدد كبير من علماء التاريخ والقانون والاجتماع 0 من ذلك ما يذهب إليه بعض الفقهاء (2) ((2) العميد هوريو ، مشار إليه في بريلو ، ص3 ومن نفس الرأي برتملي ودويز )0 من أنه (( ليس من دولة بالمعنى الصحيح والدقيق للكلمة ، إلا عندما تتخذ السلطة السياسية ، في مجتمع على درجة متقدمة من المدنية ، وبعد أن تتحر من أي عنصر غريب وبصورة خاصة فكرة الملكية الشخصية ، شكل سلطة ذات سيادة تمارس على رجال أحرار )) أو على حد تعبير بوردو (3) ((3) بوردو الوجيز ، ص13 ويؤيده في ذلك بريلو ص3 )0 ، أن تكون السلطة السياسية ((مؤسسة )) يعني أن تصبح الدولة مقر السلطة السياسية ، وبذلك يتم الانفصال بين السلطة في ذاتها والشخص الذي يمارسها ، وستمد الحاكم سلطانه من مركزه بحيث يمارس سلطاته بوصفه ممثلاً للسلطة العليا لا باعتبارها امتيازاً شخصياً له 0 - ويبدو أن كلا من الرأيين يتسم بالغلو ، فمن شأن الرأي الأول إضفاء صفة الدولة على القبائل الرحل ، وهو ما ينكره الحس السليم ، ومن شأن الرأي الثاني أن يقصر مفهوم الدولة على الدول بمعناها الحديث التي نشأت في المجتمع الغربي بعد القرن السادس عشر واستكملت مقوماتها في القرن التاسع عشر 0 وهي نظرة ضيقة من شأنها إنكار صفة الدول على المجتمعات السياسية التي ظهرت في الحضارات الأولى في الشرق واليونان ، فضلاً أن اشتراط الحرية لدى السكان يخضع وجود الدولة لمعيار سياسي ومفهوم الحرية نسبي يثير كثيراً من الجدل والخلاف 0 ويبدو لنا مع دابان (2) ((2)دابان ، الدولة ، باريس 1957 ، ص181 وما بعدها ، ومن نفس الرأي ماسبينول )0 أنه يكفي أن توجد سلطة عامة مستمرة تعمل لمصلحة الجماعة ، ولا يهم في شيء أن تكون هذه السلطة فردية أو مؤسسة ، ما دام انتقال السلطة منظماً 0 وعلى هذا يمكن تعريف الدولة بأنها من )) مجموعة متجانسة من الأفراد تعيش على وجه الدوام في إقليم معين وتخضع لسلطة عامة منظمة ))0 الفصل الأول أركان الدولة - تقوم الدولة على أركان ثلاثة : سكان يؤلفون البيئة الاجتماعية التي تنبثق عنها ، وإقليم يحد سلطتها ، والسلطة التي تمارس ضمن الإقليم 0 المبحث الأول السكان (1) - الدولة تنظيم اجتماعي ، أي بشري ، فلا دولة من غير بشر ، شأنها شأن الأشكال الأخرى للجماعات الإنسانية 0 ولا يشترط لقيام الدولة حد أدنى أو أعلى من السكان 0 غير أنه من المفروض أن يكون العدد كبيراً بحيث يفسح المجال لقيام تنظيم كامل وحياة ذاتية للجماعة مستقلة عن أية سلطة خارجية 0 فقلة من الأفراد يمكن أن تكون عائلة أو عشيرة ، أما الدولة فتفترض تمايزاً وتوزيعاً عضوياً للوظائف يؤمن بشكل دائم ودقيق نمو الحياة الإنسانية في جميع مظاهرها وكلما كان عدد السكان كبيراً كلما ازدادت شوكة الدولة وقدرتها على تحقيق أغراضها 0 وضخامة عدد السكان عامل يشكل في حد ذاته سداً دفاعياً ، كما يكون سوقاً داخلية واسعة ، واتساع السوق شرط من شروط التقدم الاقتصادي 0 وتطور التقنية الحديثة ، يجعل الأخذ بأسباب الحضارة نفسها ، رهناً باتساع السوق ، ولذلك نجد أن الدول القديمة كانت تعد بالآلاف ، أما دول اليوم فيعد بعضها بعشرات بل بمئات الملايين (كالصين والهند والاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية 0 - والدولة التي لا يتجاوز عدد سكانها مجموع مدينة حديثة يمكن أن تتوفر فيها الخصائص القانونية للدولة ، ولكنها لن تكون كذلك من الناحية السياسية 0 وهذا ما يفسر لنا إلى حد بعيد المحاولات التي تقوم بها الدول الأوربية للتجمع ومحاولة تحقيق وحدة سياسية تضمن لها مزيداً من القوة السياسية والاقتصادية وتهيئها لمواجهة مطالب التقنية الحديثة (1) في عصر الذرة والفضاء 0 والأهمية التي ينطوي عليها حجم السكان تفسر لنا نظريات بعض العلماء الذين يحاولون تفسير جميع الحركات السياسية الكبرى في التاريخ بالحركات السكانية 0 الشعب والأمة : تنصرف كلمة (الشعب ) إلى سكان الدولة ، أي المجموعة البشرية التي تعيش في ظل سلطة معينة 0 فإذا وجدت في مجموعة بشرية ، ، بالإضافة إلى هذه الرابطة السياسية أو بدونها روابط أخرى طبيعية وليدة الحياة المشتركة ، تكون لدينا مفهوم ((الأمة )) 0 من جملة هذه الروابط وحدة العرق والتقاليد التاريخية والأعراف واللغة والدين والوطن وما يفترضه ذلك كله من روابط اقتصادية وثيقة0 وقد تتوافر كلها أو بعضها 0 - ولقد كتب كثيراً عن وحدة العرق (1) 0 والحقيقة أن العرق النقي لا وجود له في الواقع ، لأن العروق الإنسانية اختلطت ببعضها منذ أقدم العصور لأسباب عديدة كالفتوحات العسكرية والهجرات والموالاة 0 وليس إذن ثمة عرق نقي في العالم ، حتى في المجتمعات التي تدعمت الوحدة الاجتماعية بالرابطة السياسية منذ زمن بعيد : فالأمة الإيطالية ثمرة من ثمرات الهجرات العديدة والفتوحات المتعاقبة ، والأمتان الانجليزية والفرنسية ، وهما الموحدتان منذ قرون عديدة ، تتألفان من عروق مختلفة 0 ويلاحظ ديفرجيه بحق أن المهم في هذا المجال هو الفكرة أو الصورة التي يحملها أعضاء الجماعة عن العرق : فإذا كانوا يعتقدون بوحدة عرقهم بصرف النظر عن الواقع التاريخي ، فإن هذا الاعتقاد يلعب دوراً رئيسياً في تنمية الوعي القومي ، كما هو الشأن بالنسبة لألمانيا ، ومثل هذا عند العرب (1) الذين ما يزالون يعزون بأصلهم ويفخرون بنسبهم 0 - والحقيقة أن الأمة مردها إلى شعور يتصل بأعمق جذور كياننا : شعور بالوحدة يكون لدى الفرد إرادة الحياة المشتركة 0 فمفهوم الأمة يقوم أساساً على عنصر نفسي : وحدة عميقة في التفكير والإحساس تولد الشعور القومي ، وهي تفترض الإيمان بوحدة المصير ، تعززت ذكريات الماضي بأمجاده ونكباته 0 وهذا العامل يعتبر مظهراً محسوساً لعامل آخر ، هو وحدة اللغة 0 ووحدة اللغة دليل على قرون من الحياة المشتركة ، إن لم تكن دليلاً على وحدة الأصل ، تعبر على الاتفاق ويسر التفاهم بين الأفراد وتسهيل العلاقات الاجتماعية والروابط الاقتصادية وتيسر تواصل الأفكار والمشاعر ، فهي تلخص مجموعة من التقاليد تستمر جيلاً بعد جيل أساً للثقافة والتراث المشترك 0 وتتجلى قوة لرابطة القومية في وطنية الأفراد واستعدادهم للبذل والتضحية بذاتهم في سبيل ما يعتقدون أنه المستقبل المشترك الأفضل ، أي أنهم يؤثرون سلامة الجماعة على إشباع أنانيتهم الخاصة 0 فإذا اعتبرنا ماثلاً أمام الذهن هذين العاملين ، وحدة اللغة (1) والشعور القومي مظهراً لها (2) تكون لدينا مفهوم الأمة 0 (1) لا تكفي وحدة اللغة وحدها لتكوين الأمة 0 فوحدة اللغة بين انجلترا والولايات المتحدة الأمريكية ، وبين إسبانيا ودول أمريكا للاتينية ، بين البرتغال والبرازيل ، بين فرنسا والمقاطعات الفالونية في بلجيكا والأجزاء الناطقة بالفرنسية من سويسرا وكندا ، لم تجعل منها وحدة قومية ))0 ((2) يمكن في حالات استثنائية أن توجد قوميات بدون لغة 0 كما هو الحال في سويسرا وبلجيكا ، إذ تحل الإرادة المشتركة (المبنية على الدفاع عن كيان مشترك ) محل رابطة اللغة 0 غير أن الواقع يفرض نفسه ، إذ تشير التطورات في هاتين الدولتين إلى أن الوحدة القومية تبقى مهددة (الانقسام بين الفلامان والفالون في بلجيكا ، والنزعة الانفصالية التي تحرك السكان الجوراسيين الناطقين باللغة الفرنسية في سويسرة) (راجع فيما يتعلق بسويسرة صحيفة لوموند الفرنسية ، تاريخ 28تموز 1966 )0 الأمة والدولة : هل يمكن تعريف الدولة بأنها التنظيم القانوني للأمة أو بعبارة أخرى هل تعتبر الأمة ركناً من أركان الدولة ، بحيث لا دولة لا أمة هذا ما ذهب إليه الفقه الفرنسي منذ عهد الثورة (3) ((3)ايسمان : (( الدولة هي التشخيص القانوني للأمة )) مبادئ القانون الدستوري الطبعة الثانية باريس : 1927 ، الجزء الأول ص1 ))0 ، وهو ما يقوله مانشيني وتسايره فيه المدرسة الايطالية 0 فالدولة هي التعبير السياسي والأمة هي التعبير الاجتماعي 0 هذه النظرية تصح حيث تؤلف الأمة دولة واحدة 0 ولكنها لا تنطبق على واقع المجتمع الدولي ، كما أنها تخلط بين الدولة والأمة التي توجد في الواقع من الناحية الاجتماعية قبل الدولة ، بصرف النظر عن تشخيصها في شكل قانوني هو الدولة 0 فليس من الناحية القانونية تلازم بين الدولة والأمة 0 إذ يمكن أن تقوم الدولة على الرابطة القانونية وحدها ، وهذه يمكن أن توجد ولو انتفت الروابط الاجتماعية الأخرى ، فالاتحاد السوفييتي دولة تضم أمماً عديدة ، كما أن الأمة تتألف من عناصر طبيعية يمكن أن تتوفر خارج نطاق الوحدة القانونية والسياسية ، والأمة العربية تتوزع بين اثنتي وعشرين دولة ومجموعة من الإمارات والمشيخات 0 - غير أن هذه النظرية وإن لم يؤيدها الواقع تماماً ، تعبر عن حقيقة اجتماعية أساسية : فمعظم الدول يتألف من أمم موحدة 0 والتاريخ يدل على أن الدولة التي تضم أمماً مختلفة لا بد أن ينتهي بها الحال إلى التفكك والانهيار أو الانصهار في أمة جديدة 0 - إن كل امة ، ولو لم تكن ، تنزع إلى الانتظام في أهاب الدولة 0 فالأمة تمثل في الواقع مجموعة من الروابط الطبيعية : تركيباً معقداً من الأشياء الموحدة والمشتركة 0 وقد رأينا أن الرابطة السياسية هي أمتن الروابط في الجماعة وأقربها إلى الكمال ، لذلك كان من الطبيعي أن تنزع كل أمة إلى أن تكون لنفسها وحدة سياسية ، أي أن تطمح إلى أن تقيم لنفسها تنظيماً قانونياً يتفق وظروف حياتها ويحقق تطلعاتها 0 فالأمة إذا صح القول هي الأساس الطبيعي للبناء الذي يجب أن تقوم الدولة عليه 0 - وإذا ما وجد تناقض أو انفصال بين الأمة والدولة فمعنى ذلك وجود انفصال بين سلطة الدولة والقوى الاجتماعية التي تجسد المطمح والآمال الجماعية ، يترتب عليه صراع ، تمهيداً للتكيف والتلاؤم (1)0 ((1)ديل فيكو ، ص357)0 ونجد أن الدولة ، وهي تشكل بذاتها نوعاً من وحدة الحياة ، تنزع إلى تكوين الأمة وتمارس قوة جاذبة فعالة على العناصر العرقية أو اللغوية المكونة لها لتوحيدها وصهرها (2) 0 ((2)لا يكون اليهود قومية بالمعنى العلمي ولا تجمعهم إلا رابطة الدين 0 وقد دعت الحركة الصهيونية إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين تجمع فيه يهود العالم المشردين في فلسطين تجمع فيه يهود العالم المشردين في الأرض بحجة إعادة مجد إسرائيل في أورشليم ، وقد استطاعت بتأييد الدول الاستعمارية واستغلال تفرق كلمة الدول العربية أن تغتصب جزءاً كبيراً من فلسطين ن وتأمل هذه الدولة المغتصبة أن تعمل على تكوين ((قومية يهودية )) عن طريق إحياء اللغة العبرية ووحدة الأنظمة السياسية والاقتصادية والعسكرية بصهر الفروق العرقية واللغوية ووحدة الأنظمة السياسية والاقتصادية والحضارية التي تفصل بين سكانها المهاجرين إليها من جميع بقاع العالم (راجع محاضراتنا ((النظام السياسي الإسرائيلي )) منشورات معهد البحوث والدراسات العربية ، القاهرة ، 1969 ، بخاصة ص10 الحاشية رقم 3)0 ويلاحظ أن عمل الدولة كان ناجحاً بشكل خاص في العصور القديمة في صهر العناصر المتنافرة في بوتقة واحدة 0 فما من شك في أن سيطرة روما كان عاملا حاسما في تكوين الأمة الإيطالية وتوحيد شعوب شبه الجزيرة الإيطالية ، وأن الملكية الفرنسية كانت العامل الحاسم في تكوين الأمة الفرنسية 0 وينطبق هذا إلى حد ما على سويسرة والولايات المتحدة الأمريكية التي تتقارب العناصر المكونة لها على مر الزمن 0 وتشاهد تجربة فريدة في الإتحاد السوفييتي بتجمعيه القوميات المتنوعة القائمة في نطاقه والإقرار لكل منها بكيان خاص وحقوق مستقلة في حدوده 0 والحقيقة أن وجود عدة قوميات داخل الدولة الواحدة دفع بالعرف الدستوري إلى ابتداع شكل خاص لممارسة السلطة يكون أقدر على ضم جماعات تختلف ديناً أو ثقافة أو ثقافة أو عرقاً في إطار تضامن واسع 0 وهذا هو منشأ بعض أشكال الدولة حيث تتكيف مرونة اللامركزية أو النظام الاتحادي مع اختلاف القوميات وتعددها 0 - أما في العصر الحديث فنلاحظ أن الاتجاه المعاكس هو الغالب 0 إذ نلاحظ فعالية الأمة في تكوين الدولة 0 بحيث يمكن القول أن نزوع الأمة إلى تكوين وحدة قانونية تلائم حاجاتها الخاصة حدث محتم ثابت ، وقد ظهر سعي الأمم لتنظيم في دول بشكل قوي (مبدأ القوميات ) خلال القرن التاسع عشر الذي أطلق عليه ((عصر القوميات )) فأدت إلى انتفاضات وثورات وحروب كان من نتيجتها أن تغيرت معالم الخريطة الأوربية تغييراً جذرياً ، ابتدأت بالوحدة الإيطالية والوحدة الألمانية ، إلى أن أطلقت سائر القوميات من عقالها 0 وإذا كان القرن التاسع عشر عصر القوميات الأوربية فإن القرن العشرين هو عصر القوميات الآسيوية والإفريقية ، حيث نشاهد انحسار المد الاستعماري تحت ضربات الشعوب المستعبدة الطامحة إلى استرداد حريتها وتقرير مصيرها بنفسها 0 - والخلاصة أن القومية قوة سياسية تتجه في جميع الأقطار إلى تحقيق الدولة القومية ، والشعور القومي قوة حقيقية لم تستنفذ أغراضها في تكوين الدولة وتحويلها(1)0 ((1) تهاجم الفكرة من بعض الكتاب في الدولة الغربية ، إذ يعتقدون أن تطور العالم قد تجاوزها ، وأصبحت من مخلفات الماضي ، يؤدي التمسك بها إلى زعزعة السلم العالمي ، كما تهاجم من بعض الكتاب الاشتراكيين الذين يتبون النظرية الستالينية في القوميات 0أما فيما يتعلق بالكتاب الغربيين فيلاحظ أنهم ينتمون عادة إلى قوميات تكونت منذ زمن ، وبالتالي فإن المشكلة غير مطروحة بالنسبة لهم إلا فيما يتعلق بالشعوب المستعمرة ، وكانت دعوتهم تفضي بالنتيجة محاولة وقف تحرر هذه الشعوب 0 ويهمنا هنا أن نستعرض النظرية الستالينية لما تخلفه حتى الآن من التباسات في أذهان الكثيرين 0ففي أوائل عام 1913 نشر ستالين مقالاً مسهباً عن المسائل القومية ، (سمي فيما بعد (الماركسية والمسألة الوطنية ) ، عرف فيه الأمة بأنها : (( جماعة ثابتة من الناس تكونت تاريخياً لها لغة مشتركة وأرض مشتركة وحياة اقتصادية مشتركة وتكوين نفسي مشترك يجد له تعبيراً في الثقافة المشتركة )) وهو يقصد بالجماعة الثابتة جماعة تتصف بالاستقرار والدوام أي أن الأمة ليست جماعة مؤقتة طارئة سريعة الزوال 0 ويقصد أنها تكونت تاريخياً ، إن الأمة لها بدايتها ونهايتها في التاريخ ، وليست اجتماعاً قائماً على رابطة الدم كالعائلة والعرق والجنس ، بل هي تقوم على أساس تمازج أجناس وأقوام مختلفة في عهد تاريخي معين 0 أما رابطة اللغة ورابطة الأرض فتتكونان وتثبتان في عهد قديم نسبياً 0 وأما الاقتصاد المشترك فلا يتحقق إلا عهد نشوء الرأسمالية وانتصارها على التفكك الإقطاعي ، أو كما يقول ستالين : (( إن الأمة مقولة تاريخية لعهد الرأسمالية الصاعدة ))0 ثم يضيف ستالين ![]() ![]() نقله من حيز الكتاب المطبوع إلى الحيز الالكتروني ونشره بالمنتدى أغيد شرف الدين آخر تعديل المحامي ناهل المصري يوم 17-02-2012 في 05:25 PM.
|
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 2 | |||
|
![]() الفصل الثاني أصل الدولة (1) ((1) بوردو ، المطول في علم السياسة الجزء الثاني ص11-67 ، فيلنوف 0 ص35 -62 ، الدكتور طعيمة الجرف ، ص40-75 0 - شغل البحث عن أصل الدولة أذهان المفكرين والباحثين منذ القدم ،، ووضعت في ذلك نظريات عديدة ، وسنقتصر فيما يلي على أهمها : - 1- الأصل الإلهي للدولة : يرى البعض (2) ((2) دي بونالد ، مشار إليه في مطول بوردو ، علم السياسة ، ج1، ص11-12 )0 أن الدولة ظاهرة طبيعية تحتمها القوانين الإلهية 0 وكما أن المجتمع حدث نسبي مستقل عن الإرادة البشرية ، كذلك الدولة فهي نتيجة قانون لا راد له ، ولا يستطيع بنو البشر الخروج عليه بدون الوقوع في أخطار حالة وحشية لا تتفق مع الطبيعة الإنسانية 0 وهذا القانون يلزم الأفراد بقبول شكل الحياة الاجتماعية الذي يسمى الدولة 0 وهو يحكم جميع التغيرات الطارئة عليها ، ويحدد اختصاصاتها ووظائفها0 فالدولة إذن ثمرة عقل مدبر وإرادة حكيمة تسمو على إرادة البشر 0 ((1) نجد في كتابات الفيلسوفين اليونانيين ابيقور وأرسطو إشارة عابرة إلى الأصل التعاقدي للمجتمع 0 ويعتبر الفارابي (870-950 ) من أبرز ممثلي الفكر العربي الذين قالوا بالأصل التعاقدي للمجتمع والدولة 0 (راجع في ذلك الدكتور فاضل زكي محمد ، أسس الفكر السياسي العربي الاسلامي ، بغداد ، 1964 ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي ) غير أن هذه النظرية ازدهرت بشكل خاص في القرنين السابع عشر والثامن عشر 0 فقال بها هوبز 1588-1679 وسبينوزا 1632 – 1677 وكروتيوس 1583 -1645 وبودندروف 1632-1664 وبوسيه 1627-1704 ولوك 1632 – 1704 وروسو 1712-1778 0 ويرد على هذه النظرية (2) ((2) سنتناول بشيء من التفصيل النظريات العقدية عند بحث أساس السلطة ، لأن معظمها لم يقصد في الواقع الكشف عن نشوء الدولة من الناحية التاريخية بل انصب اهتمامه على تأييد سلطة معينة أو مقاومتها )0 بأن الحالة الفطرية التي يتحدثون عنها لم توجد في الواقع قط ، كما لم يوجد الفرد منعزلاً في مرحلة ما من تاريخه الطويل 0 وهي إلى ذلك تقيم الجماعة والدولة على أساس فردي بحت ، يناقض الواقع التاريخي ، ولا يتمشى مع مقتضيات تطور الجماعات السياسية ونموها 0 وحتى لو سلمنا جدلاً بوجود عقد فإن هذا العقد لا يمكن أن يكون إلا مجموعة من التزامات فردية ، ولا يستطيع أي فرد أن يلتزم تجاه مجموع الأفراد لأن الجماعة افتراضاً لم تتكون بعد ، وأخيراً فإن الرابطة الاجتماعية لا تنشأ من تلاقي إرادات منفردة بل تنبثق عن التسليم بهدف مشترك والسعي لبلوغه 0 -2- الدولة ثمرة التطور الطبيعي : ترى أغلبية الشراح أن الدولة ظاهرة طبيعية ونتيجة عفوية للقوى الاجتماعية التي أسهمت في ظهر الجماعة ، وغرائز التجمع التي تدفع بني البشر إلى العيش جماعة (1)0 ((1)ومنهم الفيلسوف العربي الغزالي (1508-1111 ) الذي سبق في آرائه في نشوء الدولة الفيلسوفين الانجليزيين هربرت سبنسر وهكسلي (راجع الدكتور فاضل زكي محمد ، المرجع سالف الذكر ص17) 0 إلا أن الشراح يختلفون فيما بينهم عندما يحددون العامل الذي كان له الدور الرئيسي في نشوء الدولة 0 -أولاً – العائلة أصل الدولة : ويرى بعضهم (2) ((2) قال بها فيلمر الانجليزي في القرن السابع عشر ومن بعده تابلريلي وليبراتوري ، مشار إليهم في مؤلف فيلنوف ص39)0 أن الأسر الأبوية ، أي مجموعة من ذوي القربى تحسب فيها رابطة النسب بالنسبة للأب ، ويملك الأب فيها السلطة العليا ، هي أصل الدولة 0 فقد تكاثرت هذه الأسرة ونمت حتى أصبحت أسراً عديدة ، تألفت منها مدينة إذا كانوا حضراً وقبيلة إذا كانوا رحلاً ، واستمرت في خضوعها لسلطة رب الأسرة 0 فالعائلة أصل الأمة (3) ((3) نلاحظ أن كلمة (أمة ) في اللغة العربية مشتقة من (أم ) وكأنها ترمز إلى وحدة الأصل المشترك 0))0 وسلطة الأب على أسرته أصل سلطة الحاكم في الدولة 0 - يؤيد هذه النظرية أن الأديان تجمع على أن آدم وحواء هما أصل الجنس البشري ، وأن الشعور القومي الذي يوجد بين أفراد الجماعة السياسية أشبه بالشعور العائلي الذي يجمع أفراد الأسرة الواحدة ، كما أن سلطة الأب على أفراد أسرته تبدو كأنها النواة الطبيعية لسلطة الحاكم 0 وينقضها أن الأسرة ليست سابقة على الجماعة ، بل أنها لم توجد إلا بوجود الجماعة ونتيجة لتنظيمها (1) 0 ((1) فالرأي السائد ، نتيجة الأبحاث العلمية الحديثة ، أن الشكل الأول للحياة المشتركة هو الرهط ، أي تجمع من الأفراد بدون قاعدة ثابتة ، يعيشون على الشيوع وزواج المشاركة 0 وفي هذه المرحلة يتصف التنظيم الاجتماعي بعدم الاستقرار 0 فالجماعة قوم رجل 0 والسكن غير ثابت ، والزراعة لا وجود لها ، ووسائل المعيشة هي الصيد والقنص والقطاف 0))0 ومع مرور الزمن وتوفر الظروف الملائمة يتغير هذا النظام فتبدأ الزراعة ويصبح السكن ثابتاً ، وما هو أهم من ذلك التخلي عن حالة الشيوع البدائية في الحياة الاجتماعية ليبدأ الاعتراف يتم بادئ ذي بدء من جهة الأم لا الأب ، لأن الرابطة التي تجمع الابن إلى أمه لا تزال بطبيعتها أوثق من تلك التي تشده إلى أبيه ، ولأن الأمومة بطبيعتها أسهل إثباتاً من الأبوة ، وهكذا يتم الانتقال من نظام الرهط إلى نظام الأمومة الذي تكون المرأة فيه نواة الحياة الاجتماعية (لا علاقة لمركز المرأة هذا بسيطرة الأم السياسية ، كما يحلو للبعض أن يصوره ، ويقتصر الأمر على تحديد القرابة عن الأم )0 وفي مرحلة لاحقة يصبح الأب مركز الحياة الاجتماعية ورئيس الأسرة ، ومنه يحتسب النسب ))0 ثانياً- نظرية العنف : حاول العديد من المؤلفين نسبة نشوء الدولة إلى صراع نشأ في مرحلة معينة من تاريخ الشعوب 0 ويؤيد هذه النظرية المؤرخون وعلماء الاجتماع 0 فيرى سبنسر (( أن الحكم نشأ نتيجة العدوان من أجل العدوان ))0 وكذلك اوبنهايمر الذي ينفي إمكانية نشور الدولة عن طريق التباين الاجتماعي (انقسام طبقي ) يتم في جماعة واحدة من الأفراد الأحرار المتساوين ))0 فلا بد من غالب ومغلوب 0 وهذه السيطرة لم يمكن لها قط من هدف غير استغلال الغالب اقتصادياً للمغلوب 0 وليس من دولة أصلية في التاريخ كان لها غير هذا الأصل ))(1)0 ((1)فيلنوف ،ص58 -59 ،وبوردو ،علم السياسة ،الجزء الثاني ،ص13 وما بعدها )0 - ونظرية العنف تستهدف تفسير نشوء الدول الأصلية نشوء الدول الأصلية (الأولى ) ، وتنطبق بالتالي على الدول التي يتحقق فيها للمرة الأولى التمايز الاجتماعي في جماعة معينة 0 أما الدول الأكثر تعقيداً ، لا سيما الدول الحديثة ، فلا تعدو أن تكون ثمرة سلسلة من الفتوحات قامت بها الدول ضد بعضها بعضاً0 والتنظيم الحديث هو ثمرة اندماج متزايد بين الشعوب تم خلال تطور تاريخي طويل 0 وقد ساد هذا التفكير لدى قدماء المؤرخين والفلاسفة ، وهم يؤكدون أثر الصراع المادي والانتصار في ساحة المعركة في نشوء الدولة (2) ((2) ومن أوائل المؤلفين الذين فسروا نشوء الدولة بالصراع بين الجماعات ، الفيلسوف والمؤرخ العربي الكبير ابن خلدون (1332-1406 ) إذ يفسر في مقدمته (القرن الرابع عشر ) قيام الدول بغلبة الجماعات القبلية المحاربة وانتصارها على الجماعات التي أفقدها الترف حس العصبية (بوردو المطول ، الجزء الثاني ، ص13 )0 وقد سبق إلى ذلك ابن جمعة في مؤلفه ((تحرير الأحكام ))0 ويفرد ابن خلدون في مقدمته (نشر المطبعة الخيرية ، القاهرة ، 1322 هجرية ) أكثر من مائة صفحة لبحث شؤون الدول الخارجية يتخللها تحليل طريف وعميق في كثير من جوانبه 0 ونثبت هنا فقرات متفرقة مختارة ، فهو يقول ((الملك منصب طبيعي للإنسان لأننا قد بنا أن البشر لا يمكن حياتهم و وجودهم إلا باجتماعهم و تعاونهم على تحصيل قوتهم و ضرورياتهم و إذا اجتمعوا دعت الضرورة إلى المعاملة و اقتضاء الحاجات و مد كل واحد منهم يده إلى حاجته يأخذها من صاحبه لما في الطبيعة الحيوانية من الظلم و العدوان بعضهم على بعض و يمانعه الآخر عنها بمقتضى الغضب و الألفة و مقتضى القوة البشرية في ذلك فيقع التنازع المفضي إلى المقاتلة و هي تؤدي إلى الهرج و سفك الدماء و إذهاب النفوس المفضي ذلك إلى انقطاع النوع و هو مما خصه الباري سبحانه بالمحافظة فاستحال بقاؤهم فوضى دون حالم يزغ بعضهم عن بعض و احتاجوا من أجل ذلك إلى الوازع و هو الحاكم عليهم و هو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم و لا بد في ذلك من العصبية لما قدمناه من أن المطالبات كلها و المدافعات لا تتم إلا بالعصبية)) ، ص102)0 وقوله ((إعلم أنه لما كانت البداوة سبباً في الشجاعة كما قلناه في المقدمة الثالثة لا جرم كان هذا الجيل الوحشي أشد شجاعة من الجيل الآخر فهم أقدر على التغلب و انتزاع ما في أيدي سواهم من الأمم بل الجيل الواحد تختلف أحواله في ذلك باختلاف الأعمار فكلما نزلوا الأرياف و تفنقوا النعيم و ألفوا عوائد الخصب في المعاش و النعيم، نقص من شجاعتهم بمقدار ما نقص من توحشهم و بداوتهم و اعتبر ذلك في الحيوانات العجم بدواجن الظباء و البقر الوحشية و الحفر إذا زال توحشها بمخالطة الآدميين و أخصب عيشها كيف يختلف حالها في الانتهاض و الشدة حتى في مشيتها و حسن أديمها و كذلك الآدمي المتوحش إذا أنس و ألف و سببه أن تكون السجايا و الطباخ إنما هو عن المألوفات و العوائد و إذا كان الغلب للأمم إنما يكون بالإقدام و البسالة فمن كان من هذه الأجيال أعرق في البداوة و أكثر توحشاً كان أقرب إلى التغلب على سواه إذا تقاربا في العدد و تكافآ في القوة والعصبية ))((ص77))0 وقوله : ((أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقهر و صاحبها متبوع و ليس له عليهم قهر في أحكامه. و أما الملك فهو التغلب و الحكم بالقوة و صاحب العصبية إذا بلغ إلى رتبة طلب ما فوقها فإذا بلغ رتبة السؤدد و الاتباع و وجد السبيل إلى التغلب و القهر لا يتركه لأنه مطلوب للنفس و لا يتم اقتدارها عليه إلا بالعصبية التي يكون بها متبوعاً فالتغلب الملكي غاية للعصبية)) (ص77)0 وقوله تحت عنوان : إن الملك والدولة العامة إنما يحصل بالقبيل والعصبية 0 (( إن الممانعة والمغالبة إنما تكون بالعصبية لما فيها من النعرة والتذامر واستمالة كل واحد منهم دون صاحبه ، ثم إن الملك منصب شريف ملذوذ يشمل على جميع الخيرات الدنيوية والشهوات البدنية والملاذ النفسانية فيقع فيه التنافس غالباً وقل أن يسلمه أحداً لصاحبه إلا إذا غلب عليه فتقع المنازعة وتفضي إلى الحرب والقتال والمغالبة ، وشيء منها لا يقع إلا بالعصبية 000 )) (ص85) 0 وقوله تحت عنوان إن الدولة لها أعمار الأشخاص : ((و إنما قلنا أن عمر الدولة لا يعدو في الغالب ثلاثة أجيال لأن الجيل الأول لم يزالوا على خلق البداوة و خشونتها و توحشها من شظف العيش و البسالة و الافتراس و الاشتراك في المجد فلا تزال بذلك سورة العصبية محفوظةً فيهم فحدهم مرهف و جانبهم مرهوب و الناس لهم مغلوبون و الجيل الثاني تحول حالهم بالملك و الترفه من البداوة إلى الحضارة و من الشظف إلى الترف و الخصب و من الاشتراك في المجد إلى انفراد الواحد به و كسل الباقين عن السعي فيه و من عز الاستطالة إلى ذل الاستكانة فتنكسر سورة العصبية بعض الشيء و تؤنس منهم المهانة و الخضوع و يبقى لهم الكثير من ذلك بما أدركوا الجيل الأول و باشروا أحوالهم و شاهدوا اعتزازهم و سعيهم إلى المجد و مراميهم في المدافعة و الحماية فلا يسعهم ترك ذلك بالكلية و إن ذهب منه ما ذهب و يكونون على رجاء من مراجعة الأحوال التي كانت للجيل الأول أو على ظن من وجودها فيهم و أما الجيل الثالث فينسون عهد البداوة و الخشونة كأن لم تكن و يفقدون حلاوة العز و العصبية بما هم فيه من ملكة القهر و يبلغ فيهم الترف غايته بما تبنقوه من النعيم و غضارة العيش فيصيرون عيالاً على الدولة و من جملة النساء و الولدان المحتاجين للمدافعة عنهم و تسقط العصبية بالجملة و ينسون الحماية و المدافعة و المطالبة و يلبسون على الناس في الشارة و الزي و ركوب الخيل و حسن الثقافة يموهون بها و هم في الأكثر أجبن من النسوان على ظهورها فإذا جاء المطالب لهم لم يقاوموا مدافعته فيحتاج صاحب الدولة حينئذ إلى الاستظهار بسواهم من أهل النجدة و يستكثر بالموالى و يصطنع من يغني عن الدولة بعض الغناء حتى يأذن الله بانقراضها فتذهب الدولة بما حملت 000 )) (ص93)0 بينما يعمل المؤلفون المحدثون والمعاصرون على الإفادة من نتائج تقدم العلوم في أبحاثهم 0 ثالثاً – ويطبق وارد مبادئ علم الحياة (البيلوجيا)،فيرى أن الأفراد يتكاثرون في العشيرة (الجماعة الأصلية ) ويصبح عددهم كبيراً ، فيحتم انقسامها ، وتفرق بعض الأجزاء ، ويشكل هذا التكاثر والانقسام المرحلة الأولى في التطور 0 ثم تفضي الشهوات والغرائز والأطماع إلى تنازع هذه الجماعات ، وتفرض إحداها سيطرتها وتستبعد عدوها ، وهذه هي المرحلة الثانية0 والمزيج الناتج عن الفتح يؤدي إلى تجميع الأجزاء التي كانت قد انفصلت ، وأخيراً ينشأ تسلسل داخل النظام الاجتماعي يتكون من طبقات ، فالعصبة المنتصرة تحتكر لمصلحتها ملكية الأراضي كما تختص بالسلطة وحق الأمر ، وتفرض على الجماعة المغلوبة على أمرها العمل والطاعة 0 وهذه هي المرحلة الأخيرة من مراحل التطور، فتظهر الدولة كياناً اجتماعياً يجمع القوى المتناقضة في وحدة منسجمة 0 - رابعاً – أما النظرية الماركسية فتطبق النظرية الداروينية ، وتؤكد على العامل الاقتصادي 0 وفي هذا يقول انجلس في كتابه (أصل الأسرة والملكية والدولة )): ((ليست الدولة بحال قوة مفروضة على المجتمع من خارجه 0 والدولة ليست كذلك (واقعية الفكرة الأخلاقية ) وصورة واقعية العقل ، كما يدعي هيجل 0 الدولة هي ثمنتوج المجتمع عند درجة معينة من تطوره 0 إنها إفصاح عن واقع : إن هذا المجتمع قد وقع في تناقضات مع ذاته لا يمكنه حلها ، عن واقع أن هذا المجتمع قد وقع في تناقضات مع ذاته لا يمكنه حلها ، عن واقع أن هذا المجتمع قد انقسم إلى مضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها 0 ولكيلا تقوم هذه متضادات مستعصية هو عاجز عن الخلاص منها 0 ولكيلا تقوم هذه المتضادات ، هذه الطبقات ذات المصالح الاقتصادية المتنافرة بالتهام بعضها بعضاً ، والمجتمع في نضال عقيم 0 قوة تلطف الاصطدام وتبقيه ضمن حدود النظام ) 0 إن هذه القوة المنبثقة عن المجتمع والتي تضع نفسها فوقه وتنفصل عنه أكثر فأكثر هي الدولة (1)0 ((1) لينين – الدولة والثورة ، النسخة العربية ، دار الطبع والنشر باللغات الأجنبية ، موسكو، ص8 0 ويفسر ذلك لينين فيقول : (( وعندما ظهر انقسام المجتمع ، في شكله الأول ، إلى طبقات : طبقة الرقيق ، عندما أمطن لطبقة من الناس ، تنصرف إلى أشق أنواع العمل الزراعي ، إنتاج فائض ما ، عندما أمكن لمالك الرقيق أن يتملك هذا الفائض الذي كان يزيد عن الحد الأدنى الضروري لاستمرار حياة الرقيق ، عندما توطد كيان هذه الطبقة من مالكي الرقيق ، ولتتمكن من توطيد كيانها ، كان لا بد أن تظهر الدولة ))(1)0 ((1) مبادىء الاقتصاد السياسي ، المجمع العلمي للاتحاد السوفييتي ، الطبعة الفرنسية ، باريس 1956 ، ص36 0 وانجلس ، أصل الأسرة والملكية والدولة ، 1883 ، تعريب أديب يوسف ، دمشق 1958 0))0 فالدولة في نظر ماركس وانجلس ليست الأمة المنظمة ، كما أنها ليست ثمرة تقسيم الوظائف كما يذهب علماء الاجتماع التقليديون ، ولا ظاهرة قوة يمكن أن تصبح مشروعة إذا أصبحت أداة القانون كما ينظر إليها ديجي فما هي إلا ثمرة تناقض الطبقات وصراعها ، فهي الأداة الضرورية لإبقاء العناصر ، فهي الأداة الضرورية لإبقاء العناصر الاجتماعية المتأخرة في حالة تبعية وانقياد ، حيث تبدو الدولة وكأنها أداة الاضطهاد تستخدمها الطبقة المحظوظة اقتصادياً ، ويكون التنظيم الذي تفرضه ، القانون الوضعي ، بالضرورة التعبير عن مصالح هذه الطبقة أو إيديولوجيتها 0 - خامساً – ويرى آخرون (2) ((2)ديجي ، المطول في القانون الدستوري ، الجزء الثاني ص432وما بعدها ، والدكتور عثمان خليل ، القانون الدستوري ، الكتاب الأول ، في المبادئ الدستورية العامة ، القاهرة ، 1956 ، ص456 ))0 أن ظاهرة القوة المادية غير محتم ة 0 إذ يكفي التفوق في النفوذ أو المهارة أو الذكاء أو الثروة لفرض مبدأ التمايز الذي يقوم بين الأقلية المسيطرة والأغلبية المحكومة ، فثمة صراع في جميع الأحوال ، ولكن ليس من المحتم أن يتخذ الصراع شكلاً عنيفاً 0 فالمنتصرون هم الذين يفرضون سيطرتهم بحكمتهم أو دهائهم أو الضغط الاقتصادي 0 وفي هذا يقول ديجي : (( يمكن القول أن الدولة توجد كلما وقع في مجتمع تمايز سياسي ، وسواء أكان التمايز بسيطاً أم معقداً ، فالدولة حدث تاريخي يتحقق عندما تجد جماعة من الناس قل عددها أو كثر أن في مقدورها أن تفرض إرادتها بالإكراه المادي على أعضاء الجماعة الآخرين 0 - هذه السلطة التي يمارسها الأقوياء على الضعفاء ظهرت على صور مختلفة ، فكانت تارة مادية محضة وتارة أخرى معنوية ودينية وكانت تارة فكرية وأخرى – وهو الغالب – اقتصادية 0 حقيقة أن السلطة الاقتصادية لم تكن بحال من الأحوال العامل الوحيد في السلطة السياسية كما تقول الماركسية في نظرية مادية التاريخ ، إلا أنها لا شك تلعب دوراً هاماً في النظام السياسي 0 وتطور تاريخي طويل يمكن أن ينتهي إلى تطوير ما كان في الأصل ظاهرة فرضت بالحديد والنار ، إلى قبول المحكومين ورضاهم بسيطرة الحكام فالخدمات التي يقدمها هؤلاء ، والتعلق بالهدف الذي يسعون إلى بلوغه ، والنفوذ الأدبي الذي يحيط بهم ، كلها عوامل من شأنها أن تساهم في إنشاء نظام لا يتجلى فيه الإكراه المادي إلا بصورة استثنائية 0 غير أن هذا التحول الذي هو ثمرة حتمية لكل تطور يطرأ على التمايز السياسي لا ينفي الحقيقة الأساسية وهي أن الدولة تقوم على سلطة الإكراه تملكها جماعة من الناس في وسط اجتماعي معين 0 فالدولة إذا مجموعة من الناس بينها طبقة حاكمة وأخرى محكومة ، والمميز للطبقة الحاكمة هو حقها في إصدار الأوامر تنفذ بالإكراه المادي ، هو ((قوة الأقوياء تسيطر على ضعف الضعفاء ))0 الفصل الثالث نشوء السلطة السياسية وتطورها - إن نشوء الدولة يرتبط في الواقع بنشوء السلطة السياسية 0 فإذا لاحظنا أي مجتمع من المجتمعات نجد أفراداًَ يصدرون الأوامر ، ويفرضون تنفيذ أوامرهم باستخدام الإكراه المادي عند الاقتضاء ، فنسمي حكاماً أولئك الذين يتعين عليهم التنفيذ 0 هذه العلاقة ، أو هذا التمايز السياسي كما يسميه العميد ديجي ، يشكل جوهر السلطة السياسية (1) 0 ((1) تعبر اللغة العربية بوضوح عن ذلك : سست الرعية سياسة أمرتها ونهيتها ، وسوس فلان أمر الناس صير ملكاً ، أي حاكماً (راجع القاموس المحيط )0 والسلطة السياسية بالتالي ظاهرة اجتماعية ، بمعنى أنه لا يمكن تصور وجودها خارج نطاق المجتمع لأنها لا يمك أن تتحقق إلا عبر العلاقات الاجتماعية ، كما أن المجتمع يبقى – إذا لم توجد السلطة – مجرد عضو جامد لا حياة فيه عاجز عن تحقيق مبرر وجوده 0 فتنظيم السلطة أي تكوين الدولة – هو الذي ينقل المجتمع من حالة الفوضى إلى الوجود 0 وإذا كانت السلطة السياسية ظاهرة اجتماعية ، فمعنى ذلك أن استقصاء المظاهر الأولى للسلطة السياسية يقتضي منا الرجوع إلى المجتمعات الفطرية ودراسة حالتها 0 وتدل الدراسة على أن السلطة تتطور وتتخذ أشكالاً مختلفة ، وأنها تتطور في المجتمع الواحد من السلطة الجماعية إلى السلطة الفردية ثم تصبح تدريجياً سلطة مؤسسة ، وإن يكن ثمة تفاوت كبير بين المجتمعات في المدد التي التي يستغرقها الانتقال من مرحلة إلى أخرى (1) 0 ((1) راجع بحثنا تطور السلطة السياسية )) دمشق، 1964، والمراجع المشار إليها ))0 - أ – السلطة الجماعية : يقوم التنظيم القانوني البدائي على رابطة الدم 0 فالعشيرة تؤمن أنها تنحدر من أصل مشترك ، يرمز إليه بحيوان تتخذه الجماعة إلهاً ورمزاً لها يطلق عليه اسم طوطم 0 هذه الالهة تمثل القانون والعرف والأخلاق ، وتمثل الجزاء 0 فهي التي تعاقب من يخالف أوامرها وتكافئ من يلتزمها ، وهي التي تمثل السلطة العليا 0 وبعبارة أخرى فإن السلطة كانت جماعية ، منتشرة بين أفراد الجماعة ، وتصدر عن مجموعة من المعتقدات والأحكام والأعراف تفرض مباشرة على الأفراد المواقف التي يتعين عليهم اتخاذها دون الحاجة إلى نفوذ رئيس يؤمن انضباطهم 0 فالشعور الجماعي يطغى على الشعور الخاص للأفراد ، وتتكرر المعلومات والعمليات العقلية واحدة عند كل فرد من أفراد الجماعة بحيث يفنى الشعور الخاص للفرد في الشعور العام للجماعة 0 - هذا الشعور الجماعي هو الذي يخضع أفراد الجماعة لسلطانه فيدفعهم إلى القيام بنفس الأعمال ويلهمهم رغبات ومعتقدات واحدة ، يدور معظمها حول تحقيق حماية الجماعة وتأمين بقائها 0 فالحرية الفردية معدومة لا وجود لها ولا كيان 0 ولم يكن الأفراد من الوجهة النفسية إلا وحدات مجهولة غير فعالة ضمن مجموعة مدركة فعالة ، ولا يعمل الفكر إلا في شكل صور جماعية ( فالطاعة والخضوع الآلي هو القاعدة السائدة ، وتبدو الطاعة وكأنها النتيجة الحتمية للحياة المشتركة 0 لذلك يمكن القول أن الجماعة هي صاحبة السلطة وأداة ممارستها في الوقت ذاته 0 وقد تحققت هذه المرحلة في مجتمعات تعيش على الصيد والقطاف ، ولم تكن تعرف تقسيم العمل 0 ولدينا أمثلة كثيرة عليها ، منها قبائل فرنسا (الغول) البدائية ، فقد كانت السلطة تتركز في مجالس شعبية ، ولم يكن لملوك هذه القبائل من سلطة إلا اللقب 0 ولا يظهر الرئيس الحقيقي إلا أثناء الحروب ، وينتخب لمدة محدودة لا تتجاوز السنة الواحدة 0 -ب – السلطة الفردية : وحيث كانت الظروف الطبيعية ملائمة استطاعت بعض هذه العشائر الانتقال إلى الحياة الزراعية جزئياً وأمكن بالتالي ازدياد عدد السكان ، وتكون المدن ومراكز السكن المستقرة البدائية 0 وشيئاً فشيئاً تنشأ السلطة الفردية 0 وقد كان نشوؤها ضرورة عسكرية اقتضتها الحروب : فما أن يستعر لهيبها حتى يعلن على رأس الجماعة قائد له حق الطاعة والخضوع المطلق والامتثال على جميع أفراد تلك الجماعة 0 وكثيراً ما يبدو من الضروري تجميع عدة عشائر أو جماعات ضد العدو المشترك فتمتد سلطة القائد على أكثر من جماعة 0 هذه السلطة ليس لها في البداية إلا صفة عسكرية وموقتة تتعلق بغرض محدد (( الهجوم أو الدفاع ) ، وتدريجياً تتحول إلى سلطة مدنية ودائمة ، وينقلب القائد الحربي إلى رئيس سياسي وقاض ومشرع ، لأسباب عديدة منها ضرورة تأمين استمرار خضوع المغلوبين (لا سيما وأن مع الانتقال إلى الزراعة أصبح من الممكن استرقاق العدو بدلاً من استئصاله ) ، وقطف ثمرة النصر المشترك ( تملك ما في حوزة المغلوب ) وتفادي الأخطار التي تنشأ عن التفكك (تعرض لهجوم جديد يسلب الغالب أسلاب النصر )0ويمكن القول بالإضافة إلى ذلك كله أن الجماعات التي تعرف فعلاً كيف كيف تتحمل الوحدة أكثر من غيرها يحتمل استمرارها في البقاء أكثر من غيرها وتصبح هذه الأخيرة عرضة للإنقراض ، بأن تستأصل أو تمتصها جماعات أخرى 0 بتأثير كل هذه العوامل ، وفوق الجماعات العشائرية تتكون شيئاً فشيئاً جماعة أوسع بكثير وأشد تعقيداً لا تقوم على رابطة الدم ، بل على رابطة من طبيعة سياسية في جوهرها : ومنذ ذلك الحين ترتسم في الأفق المعالم الكبرى للدولة : مجموعة كبيرة – نسبياً – من الأفراد يتم فيها توزيع عضوي للعمل ونواع الوظائف الاجتماعية ، نسبة مستقرة من السلطان على إقليم معين ، تنظيم معين يقوم في أساسه على العرف ، سلطة الرئيس القائد 0 - يقابل هذه المرحلة من الناحية الاقتصادية الانتقال من الصيد إلى طور تربية الحيوانات والزراعة ، ومع هذه المرحلة بدأ ظهور التقسيم الاجتماعي للعمل وظهرت الملكية الفردية وتبادل الإنتاج والتفاوت في الثروة 0 فانها نظام السلطة الجماعية ليقوم نظام جديد يستند إلى الأرض باعتبارها المصدر الرئيسي للثروة وبالتالي للقوة والسلطة 0 وكان الري من أهم العوامل التي دعمت السلطة المركزية ومكنت للسلطة الفردية أن تكون مطلقة ، وقد لاحظ هيرودوت أهمية وحدة السلطة في الاستفادة من توزيع المياه بما يحقق أعظم فائدة للجميع ولذلك ليس عجيباً أن نرى الدول الأولى تقوم في مراكز المدنية الأولى على شاطىء الأنهار في مصر وما بين النهرين(العراق منذ الألف الثالث قبل الميلاد 0 - وقد لعب الدين البدائي دوراً هاماً في دعم السلطة الفرديةوتعزيز مركزها، وتأمين استمرارها وصهر العشائر المختلفة0 ففي جميع الممالك القديمة سواء أكانت في استرالية أم في مصر ، في روما أم في الصين ، كان للسلطة صفة دينية 0 وممثلو هذه الممالك : فرعون والقيصر وابن السماء مقدسون ، تحميهم قوانين محرمات (تابو) شنهم شأن بقية الآلهة 0 فالرئيس كالإله الوطني ، يمثل فكرة عامة ، وهو يشخص الجماعة كما يجسد السلطة الاجتماعية بصورة مادية حقيقية 0 ولما كان الرئيس أو الملك أو الإمبراطور يمثل المجتمع بأسر فهو لا يزول ، وبعبارة أخرى يجب أن تستمر سلطته على المجتمع بأسره فهو لا يزول ، وبعبارة أخرى يجب أن تستمر سلطته بعد وفاته ، وأن تنتقل بشكل متصل بدون انقطاع ، فترمز بذلك إلى خلود الجماعة ذاتها 0 ولكن هذه الفكرة ، فكرة خلود الرئيس ، تظهر لنا تحت مظاهر عديدة ، وتزداد تطوراً وتعقيداً بتطور الجماعة 0 وعندما بدأت الجماعة تتفهم بوضوح أكثر من ذي قبل ظاهرة الموت ، اعتبرت في الرئيس السياسي لا الفرد بذاته ، بل السلطة التي يمثلها 0 فإذا كان الفرد يمضي إلى العالم الآخر ، فإن السلطة تنتقل مباشرة إلى فرد آخر 0 وهذا هو أصل شعار (مات الملك ، يحيا الملك !) 0 وعلى هذا النحو اعتبرت السلطة شيئاً ملموساً كائناً حقاً ودائماً إلى ما لا نهاية 0 وقد أدى الاهتمام بانتقال السلطة ، هذا الانتقال الذي يؤكد خلود الجماعة ، إلى نشوء نظام السلطة الوراثية 0 - إن الضرورة الملحة هي التي جعلت سلطة الرؤساء في الجماعات البدائية مطلقة ، لأن الملك – الكاهن – الإله لا يمكن أن يسمح لبشر بالحد من سلطته 0 وقد تغلغلت هذه الفكرة ف النفوس وتأصلت بحيث اعتبر الملك مسؤولاً عن سعادة شعبه وشقائه (1) ((1) ما تزال المعتقدات الشعبية في بلادنا تحمل حتى اليوم آثار هذه القناعة ولو أنها تتخذ أحياناً شكل التعليق الساخر )0 فإذا أصابت القوم مصيبة سواء أكانت مجاعة أم وباء أم جفافاً ، فالملك هو المسؤول الوحيد عنها ، وعليه تحمل عناءها والتكفير بشخصه عن آلام شعبه ، وقد ينحى عن العرش بإرادة أتباعه 0 - جـ - السلطة المؤسسة : - وتتميز هذه المرحلة بالانفصال التدريجي بين السلطة والشخص الذي يمارسها 0 فلم تعد السلطة تتجسد في شخص الرئيس ، كما كان عليه الحال سابقاً 0 وتصبح الدولة ، أي التنظيم السياسي والقانوني ، هي المقر الوحيد للسلطة العامة 0 ويستمد الرئيس سلطانه بوصفه ممثلاً للسلطة العليا بدلاً من أن تكون هذه السلطات امتيازاً شخصياً له ، ويمكن بذلك التعبير عن نشاطه بأنه يقوم ((بوظيفة )) ، ولم تعد السلطة بحاجة إلى الصفات الاستثنائية التي تتوافر في شخص الرئيس (( من قوة بدنية أو جرأة أو حكمة أو دهاء ) لتبرير وجودها 0 وأصبح استمرار السلطة مؤمناً ما دامت المؤسسة (الدولة ) تبقى قائمة رغم جميع التغيرات التي تطرأ على أشخاص الحاكمين ، وبعبارة أخرى أصبحت قواعد القانون تحكم أكثر من الأشخاص 0 - والانتقال إلى هذه المرحلة يفترض إذن الأخذ ببعض المبادىء فيما يتعلق بممارسة السلطة من قبل هيئات الدولة المختلفة أما الأشكال التي تمارس فيها هذه السلطة فعديدة ، ويمكن أن تتراوح من الحكومات ذات السلطة المطلقة إلى الحكومات المباشرة التي يحكم فيها الشعب نفسه ، وما بينها من أشكال تتفاوت فيها نسبة مساهمة إرادة الحكام وإرادة الشعب في توجيه الشؤون العامة 0 ويمكن أن نلاحظ تطوراً تدريجياً وئيداً من الملكيات المطلقة الحديثة المستندة إلى الحق الإلهي ، إلى الملكيات المقيدة ، إلى الأنظمة القائمة على مبدأ السيادة الشعبية ، وأخيراً الأنظمة القائمة على مبدأ الديموقراطية الاجتماعية وسيادة الطبقة الكادحة (البروليتاريا)0 الفصل الرابع أساس السلطة - تمهيد ما هو أساس السلطة (1) ؟ ((1) يختلط موضوع أساس السلطة مع أصل الدولة ونشوء السلطة السياسية ، لما بين الموضوعين من ارتباط وثيق / فإذا أمكن تعيين الظروف التي أدت إلى نشوء الدولة إن أمكن في الوقت ذاته تحديد الأساس الذي تقوم عليه سلطتها ، ولذلك كثيراً ما نجد أن النظريات التي قيل بها في موضوع أصل الدولة تصلح في الوقت ذاته لبيان الأساس الذي تستند إليه السلطة 0 ولذلك تتناول معظم المؤلفات العربية الموضوعين في بحث واحد دون تفريق ، رغم ضرورة التمييز بينهما ، فالبحث عن أصل الدولة بحث تاريخي واجتماعي ، والثاني سياسي وقانوني بالدرجة الأولى 0))0 كيف نتصور أن إرادتين من طبيعة بشرية واحدة يمكن أن تتفاوتا بحيث تسمو إحداهما على الأخرى ، فتصدر أوامر يتعين على الثاني تنفيذها ، وتعتبر هذه من جهتها أن خضوعها واجب لازم ؟ وبعبارة أخرى ما هو الأساس الذي يقوم عليه خضوع المحكومين للحاكمين ؟ أول ما يتبادر إلى الذهن أن السلطة ، أي حق الأمر ، وبعبارة أخرى السيادة ، تعود للأفراد المعينين وفق أحكام الدستور ، وبالتالي فإن أوامرهم وقراراتهم نافذة وتلزم المحكومين ، ما دامت صادرة وفق النظام الدستوري 0 هذا صحيح 0 ولكن هذه الشرعية التي تحدثنا عنها ، وهي ما يسمونه الشرعية الشكلية أو القانونية ، لا تفسر لنا الأساس الذي يقوم عليه حق الأمر ، ويبقى موضوع أساس السلطة بدون جواب شاف 0 - وظاهرة السلطة ظاهرة اجتماعية بالدرجة الأولى ، ولا غنى بالتالي عن استقصاء مظاهرها المختلفة عبر العلاقات الاجتماعية لمحاولة الوصول إلى تحديد أسسها 0 وأياً كان الأساس الذي تقوم عليه السلطة ، فإن الملاحظة تدلنا أن الحاكمين يسعون دائماً إلى إقناع المحكومين بأهليتهم للحكمين ، وأن لهم الحق فيه (هذا هو الأمر الهام ) 0 فالحاكم لا يقنع بأن يطاع ، بل يجب أن يدان له بالطاعة 0 وتشير الوقائع التاريخية إلى أن الاستقرار السياسي في مجتمع ما رهن بمدى رسوخ هذا الالتزام في النفوس 0 ولهذا فإننا نجد في أي مجتمع من المجتمعات في زمن معين ، مذهباً للمشروعية أي تحديد أساس للسلطة ، تسلم به الأغلبية الساحقة للمواطنين 0 وتعتبر مشروعة ، بالمعنى السياسي ، الحكومة التي يتمشى وضعها مع منطق هذا المذهب السائد 0 ومذاهب المشروعية هذه نسبية بحتة ، يتطور محتواها بتطور المعتقدات السائدة فعلاً في بلد معين 0 وكثيراً ما يتفق أن يفقد مذهب ما التأييد الجماهيري الواسع الذي كان يتوافر له ، بتأثير انتشار مذهب جديد ، فيوجد بالتالي مذهبان للمشروعية في وقت واحد ، وأزمة الرأي هذه تستتبع عادة أزمات حكومية خطيرة (1) 0 ((1) عرفت سورية هذا الصراع بأشكال مختلفة ، وكان في معظم الأحوال تنازعاً على السلطة ، ففي عام 1949 وقع الانقلاب العسكري الأول وأطاح بالحكومة الدستورية القائمة 0 وكان صراع بين المشروعية القانونية أو الشكلية التي تمسك بها أنصار العهد البائد والمشروعية السياسية التي تمسك بها مؤيدو الانقلاب مستندين إلى فشل الحكام السابقين في تمثيل إرادة الشعب وتحقيق أمانيه 0 واتخذ هذا الصراع شكلاً جديداً ، وبلغ أوجه بعد الانفصال الذي وقع في 28أيلول 1961 وانهيار الجمهورية العربية المتحدة 0 فقد بادر جماعة الانقلاب إلى إجراء استفتاء شعبي ووضع دستور جديد وإقامة حكومة بمقتضاه لإسباغ المشروعية على العهد ، ولكن أغلبية المواطنين بقيت على ولائها للوحدة ودولتها واستقر في نفوسها أن دولة الوحدة ، التي جاءت وليدة حتمية للتاريخ العربي المندفع في اتجاه الوحدة وكانت من صنع الإرادة الاجتماعية الشعبية في سورية ومصر على السواء لا يمكن أن تنهار نتيجة مؤامرة حيكت في الظلام ونجحت في اغتصاب إرادة الشعب 0 ولذلك تميزت الفترة الماضية بعدم استقرار سياسي لم تشهد البلاد له مثيلاً ، فكانت مقاومة شعبية عنيدة ، تجاوب معها الجيش أكثر من مرة ، إلى أن كان انقلاب الثامن من آذار 1963 الذي استهدف غسل عار الانفصال ، وما تلاه من مفاوضات أفضت إلى عقد ميثاق 17 نيان 1963 المتضمن مشروع إقامة دولة اتحادية تجمع أقطار مصر وسورية والعراق 0 ولم يقدر لهذا الميثاق أن يوضع موضوع التنفيذ 0))0 وهكذا فقد رأينا في القرنين السابع عشر والثامن عشر انتشار مذاهب السيادة المستمدة من إرادة إلهية ، وشاهدنا اصطراعها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع مذاهب السيادة الشعبية ، ونشاهد حالياً في بعض البلاد اصطراع مذهب السيادة الشعبية مع مذهب آخذ في الانتشار ، مذهب سيادة الطبقة الكادحة 0 وسنفرد بحثاً خاصاً لتحليل العناصر الاجتماعية والنفسية والاقتصادية التي تكون ظاهرة السلطة ، ثم نستعرض في بحث ثان أهم المذاهب التي تحدد أساس السلطة 0 المبحث الأول ظاهرة السلطة (1) ((1) راجع ديفرجيه ص16-31 وكتابه علم السياسة ، تعريب الدكتور جمال الأتاسي والدكتور سامي الدروبي ، دمشق 1964 ، وبصورة خاصة الصفحات 23-29 و40-47 و67-191 و223-247 ، وروبرت م 0 ماكيفر ، تكوين الدولة ، تعريب الدكتور حسن صعب بيروت ، 1966 ، ص59-182 ومارسال ، السلطة ، المطابع الجامعية الفرنسية ، باريس ، 1958 ))0 - السلطة ظاهرة طبيعية ، فجذورها عميقة في المجتمعات الإنسانية ، بل أننا نجد بعض آثارها في بعض المجتمعات الحيوانية (2)، ولهذا فإنها تبدو للإنسان أمراً عادياً ، يجدها في المجتمع الذي يعيش فيه شأن الشمس والرياح 0 ((2) نجد في بعض جماعات الحيوانات العليا مظاهر للسلطة شبيهة إلى حد بما نشاهده في المجتمعات الإنسانية 0 فبعض أفرادها ينهضون بدور قائد الجماعة : كالعصفور الذي يقود مجموعة من الطيور المهاجرة ، والفيل الذي يقود القطيع 0 وبين الدجاج نجد تسلسلاً حقيقياً في الترتيب يتفق مع درجة القوة 0 ويبدو أحياناً أن أساس السلطة بيولوجي بحت ، كما في الديوك ، وحقن ديك بالهرمونات الجنسية يكسبه مركزاً ممتازاً لم يكن يتمتع به ، ولعل من الطريف أن نشير هنا إلى القيمة الأسطورية التي تلتصق بالذكورة في المجتمعات الإنسانية ، كمصدر من مصادر النفوذ والسلطة ، وتحريم اعتلاء الإناث العرش في معظم الممالك القديمة ، أو تقلد رئاسة الدولة في معظم الدول المعاصرة 0 ويبدو في حالات أخرى أن السلطة تستند إلى أسس اجتماعية أكثر منها بيولوجية 0 ففي كثير من المجتمعات الحيوانية يقوم الحيوان الأكبر سناً بدور القائد ، وفي حالات غيرها يقوم صراع بين الحيوانات ويتولى السلطة من يكتب له الغلبة ، وتكون القوة البدنية هي العامل الحاسم ، وفي معظم الحالات تمتزج هذه العوامل كلها وتتداخل 0))0 - دور الهيبة – وتلعب الهيبة دوراً هاماً في تكوين السلطة 0 وهي ظاهرة تمثل ، رغم ما يكتنفها من غموض ، حقيقة واقعة 0 وقد كان دور الهيبة عظيم الشأن في المجتمعات البدائية ، وتتداخل فيه عناصر كثيرة تسهم في فرض إرادة الزعيم القائد : كقدرته على التعبير بوضوح عن القيم التي تؤمن بها الجماعة ، وتحديد أهدافها ، وكثيراً ما تتجسد هذه القيم والأهداف في شخصه 0 والهيبة تفترض اتصالاً مباشراً بين الزعيم واولئك الذين يصدر إليهم الأوامر ، وهو شرط لا يتوافر في الجماعات البشرية الكبرى كامجتمعات الحديثة ، وهذا يفسر لنا إلى حد ما تضاؤل دور الهيبة فيها 0 غير أنه يلاحظ أن تطور التقنية الحديثة يتجه إلى رد اعتبار ((الهيبة )) ، بحيث يتزايد شأنها وأهميتها في المجتمعات الحديثة باضطراد ، فالصور ، والإذاعة والسينما والتلفزيون تجدد عهد الاتصال المباشر بين الزعيم والجماهير 0 إلا أن السلطة في المجتمعات تكمن ، بالرغم من كل ذلك 0 في المؤسسات والنظم أكثر مما تلتصق بالزعيم (1) 0 ((1) تنطبق هذه الحقيقة على واقع البلاد المتقدمة ، أما البلاد المتخلفة أو التي لم يتحقق فيها الاندماج القومي بدرجة كافية فإن الدور الذي تلعبه الزعامة أو القيادة يصبح هو الأهم 0))0 - ب – المصادر اللاشعورية للسلطة : وينهج علم النفس التحليلي على خطوات فرويد فيتجه إلى تفسير معظم الظواهر النفسية والنفسية – الاجتماعية بالذكريات اللاشعورية للطفولة الأولى ، والسعي لاسترداد الفردوس المفقود (فردوس الطفولة )0 ويرى فرويد أن المرء تحكمه طفولته ، بمعنى أن حالات الصراع الداخلي التي عاناها المرء وهو طفل تفسر حياته وسلوكه 0 وعلى هذا تكون السلطة السياسية أثراً من آثار السلطة الأبوية وامتداداً لها 0 وهذه العلاقة بين الآباء والأبناء تحكم كل العلاقات الاجتماعية ، التي تبنى على صورتها 0 ويتحدد موقف المواطن من السلطة السياسية انطلاقاً من موقفه وهو طل من آبائه 0 ويتلخص صراع الطفل فيما يحسه من تناقض بين شعوره بالسعادة المطلقة في حماية والديه ، وتبرمه من القيود اللاحقة التي يفرضونها على سلوكه (الفردوس المفقود )0 وهذا التناقض نفسه هو الذي يحدد فيما بعد موقف المرء من السلطة ، فهي تغريه وتجذبه بما يحسه من حاجة إليها وما يتوقعه من سعادة مرجوة على يدها ، غير أنه في الوقت ذاته يشعر بضيق منها وتبرم أنها بما تفرضه عليه من قيود تحول دون بلوغه السعادة المرجوة ، وحول هذه الصورة الأساسية تدور جدلية السلطة (1)0 ((1) كثيراً ما توصف السلطة في جميع صورها بالأبوة مجازاً (( أباناً الذي في السموات والأرض )) للسلطة الإلهية ، والملك يعتبر أباً للرعايا ، وقائد الفرقة العسكرية أباً لها ، والبابا هو الأب الروحي للمؤمنين به ويطلق على رجل الدين المسيحي بالعربية لقب (أبونا) بالنسبة لرعيته ، وكلمة باترون (رب العمل ) مشتقة في الأصل من باتر أي الأب0 هذه الأوصاف كلها تعبر بدقة عن الحقيقة الموضوعية بشكل لا شعوري ))0 - جـ - السلطة من المعطيات المباشرة للوجدان : وأياً كان التفسير الذي يتبناه العلماء ، فإن الحقيقة الاجتماعية كما يلمسها الإنسان تنطوي في ذاتها على فكرة الرئيس والسلطة 0 وتبدو السلطة في المجتمع ظاهرة طبيعية شأنها شأن الماء والنار في العالم الطبيعي 0 وفكرة العيش بدون رؤساء لا تتصور ولا يمكن الوصول إليها إلا بالاستدلال 0 ولعل التدريب يلعب دوراً كبيراً في هذا المجال 0 فالطفل يروض منذ طفولته المبكرة على الخضوع لإرادة والديه والانقياد لأوامرهم فالأبناء هم المحكومون والآباء هم الحاكمون 0 ثم تلي في هذه المرحلة مرحلة الدراسة بما تشتمل عليه من مدرسين ومراقبين ومديرين ونظام للعقوبات ، فتغرس هي أيضاً في الطفل حس السلطة والخضوع 0 وكلما شب الطفل (1) ((1) أزمة المراهقة إنما تعني أن الطفل يحس أنه أصبح نظيراً لرؤسائه السابقين (أبويه وأساتذته ) ، بمعنى أنه تحرر من وصايتهم ووساطتهم ، وأصبح يخضع مباشرة لنفس الرؤساء الذين يخضعون لهم )0 ونما إدراكه للمجتمع الذي يعيش فيه تقوى لديه الشعور بوجود السلطة في كل مكان وفي جميع نواحي الحياة 0 ومن العوامل الهامة في تكوين السلطة : - 1- السلطة والإكراه : ما أن يتجاوز الطفل مرحلة التعليم حتى يجد أن الإكراه في الحياة متصل بلا انقطاع 0 وإذا كان قد تجاوز المرحلة التي يهدده مدرسه ومربيه بعصاه ، فإنه يجد هراوات الشرطة تمثل هي الأخرى صورة من صور الإكراه الاجتماعي ، والإكراه في هذه المرحلة لايقف عند حد الإكراه المادي ، بل يتخذ أشكالاً وصوراً كثيرة ، يتمثل بعضها بدور الدعاية في الدولة الحديثة 0 والسلطة ليست ظاهرة من ظواهر القوة فحسب ، بل تساهم كثير من العوامل في تكوينها 0 ولقد لعبت القوة في الماضي البعيد الدور الأول في إقامة السلطة ، إلا أن دورها أصبح ثانوياً في المجتمعات الحديثة 0 وعندما يلجأ الحاكمون إلى القوة لدعم سلطتهم وفرض الخضوع لإرادتهم ، فمعنى ذلك أن هذه السلطة تصدعت أسسها وأصبحت معرضة للانهيار 0 بالرغم من ذلك فإن القوة تلعب دوراً هاماً في هذا المجال ، وإذا كان يصح القول أن الدولة لا تقوم على الشرطة فقط فإنه يجب أن يضاف فوراً أنه ما من دولة بدون شرطة 0 - وكانت القوة في الأصل تكمن في التفوق البدني (1) 0 ((لعل هذه القوة الأصلية ذات علاقة وثيقة بسلطة الأب على ولده والزوج على زوجته والمعلم على تلميذه ))0 غير أنها تطورت مع تعقد المجتمعات ونمو المدينة ، بحيث أصبح الذكاء والحيلة يلعبان ، مع التقنية من جهة أخرى ، الدور الأهم 0 ففي الدولة الحديثة مثلاً اتخذ افكراه البدني شكلاً مخففاً يتمثل في الإجراءات الجنائية وملاحقة الشرطة ، بدون تغيير أساسي في طبيعة العلاقة بين الحاكمين والمحكومين : فالكلمة الأخيرة والعليا تبقىللأولين ، لأن باستطاعتهم أن يفرضوا مادياً على الآخرين على الآخرين الخضوع لإرادتهم 0 والسجن والتعذيب والإعدام وما إلى ذلك من وسائل تنص عليها القوانين الجنائية في الدول كافة لا تعدو أن تكون ضرباً من وسائل الإكراه المادي ، ولا فرق بين هراوات الشرطة ومسدساتها ورشاشات الجيش ودباباته في حالة الثورة 0 - 2- الإكراه الاقتصادي : والإكراه الاقتصادي وثيق الصلة بالإكراه المادي : فمن يستطيع أن يحرم آخرين من مورد رزقهم يسهل عليه فرض إرادته عليهم وإلزامهم بالطاعة 0 والملاحظ أن السلطة الساسية والإكراه الاقتصادي يرتبطان بأوثق الصلات وأمتنها 0 وعلى مر العصور فإن الطبقة التي تملك وسائل الانتاج والثروة كانت تمسك مقاليد الحكم وتمارس السلطة السياسية 0 وعندما كانت الأرض تعتبر المصدر الرئيسي للثروة انحصرت السلطة بيد المالكين العقاريين 0 وما إن أصبحت الصناعة والتجارة عماد الثروة حتى انتقلت السلطة إلى طبقة البورجوازية الصناعية والتجارية 0 - في الدولة الرأسمالية المعاصرة التي تأخذ بحق الاقتراع والديموقراطية السياسية نجد انفصالاً بين السلطتين السياسية والاقتصادية يتفاوت قوة وضعفاً تبعاً لظرف كل دولة ، وكان هذا الانفصال أكثر وضوحاً في الدول الأوربية الرأسمالية في القرن التاسع عشر مما هو عليه الآن ، وهذا الانفصال يفضي إلى إيجاد طائفتين من الحاكمين : الحاكمين الظاهرين والحاكم الخفي 0 ففي الفئة الولى نجد رئيس الدولة والوزراء والنواب ، وبصورة عامة ممثلي السلطات العامة الرسمية التي تقيمها الدساتير والقوانين ، وفي الفئة الثانية أصحاب الصناعات الضخمة ورؤساء اتحادات أرباب العمل ومنظمات التجار والمزارعين 0 ونجد إلى جانب هؤلاء وأولئك قوى أخرى لها وزنها كالنقابات العمالية والأحزاب الجماهيرية والمنظمات الدينية 00 الخ 0 - 3 – الإكراه والتنظيم الجماعي (1) : ((1) بوردو ، القانون الدستوري والنظم السياسية ، ص23-24 ))0 وإلى جانب الصور التقليدية للإكراه نجد صوراً جديدة تتميز بأنها مباشرة وأكثر جدوى 0 فيلاحظ بوردو أن المجتمعات المعاصرة تتميز بما تقوم عليه من مؤسسات 0 فالمجتمع الحديث لا يتكون من مجموعة من الأفراد ، بل من تعايش جماهير تخلق البيئة المناسبة لتكوين سلوك جماعي ، وهذا السلوك الجماعي يتشكل بأنماط عديدة نتيجة ظروف الحياة وضغط المصالح وانتشار الايديولوجيات ، فيجد الفرد نفسه ((منظماً) وسلوكه ((محدداً )) بدون أن يعي ذلك دائماً 0 وقد تقدم فن التنظيم الجماعي وأصبح على درجة من الكمال في الحياة السياسية ، بحيث يتم تنظيم المواطنين في منظمات جماعية تضمن الخضوع التام لأنها مقبولة وتقوم بإرادة المحكومين ، من ذلك النقابات ، والأحزاب ، والدعاية التي تتزايد أهميتها وفعاليتها بما تسلحت به من نتائج تقدم العلوم الاجتماعية والنفسية ، التي توصلت إلى معرفة أدق لنوازع النفس البشرية والنشاط الإنساني والتأثير فيها 0 ((1) بوردو ، علم السياسية ، الجزء الثاني ص110 – 112 ))0 أياً كان دور القوة والإكراه فإنها لا تستطيع في حد ذاتها أن تكون أساساً متيناً للسلطة 0 ولذلك نجد أن من المسلم به بشكل عام أن أساس السلطة ومشروعيتها يكمنان في التوافق والتلاقي بين آمال المجتمع وأهداف السلطة 0 فالسلطة لا تعدو أن تكون تجسيداً للجماعة ذاتها لأنها تعبر عن طموحها وآمالها 0 ولا بد أن تعي الجماعة هذه الرابطة التي توجد بينها وبين السلطة ، عن طريق الرضا والاعتراف بها 0 وفي أي مجتمع سياسي على درجة كافية من التجانس نجد تصوراً عاماً للنظام الاجتماعي الأمثل الذي تنشده الجماعة ، هذا التصور يسميه البعض فكرة القانون ، إذ أن النظام المنشود يجب بالضرورة أن يتحقق أو يكفل بالتنظيم القانوني ، بحيث تجد الجماعة في السلطة ، عبر تصوراتها القانونية ، الصورة التي ترتضيها عن النظام الأمثل 0 - فالرضا أساس السلطة ، وهو وحده يمنح السلطة أساساً متيناً ، وإرادة السلطة يجب أن تتعزز بثقة المحكومين إذ الخضوع هو الذي يخلق السلطة وليست السلطة هي التي تخلق الانقياد (2) ((2)يعبر الخليفة عمر بن الخطاب عن هذه الحقيقة ببلاغة ، إذ يقول : (( لا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ، ولا إمارة إلا بالطاعة 00 ))0 ويلاحظ كابيتان (3) ((3) مشار إليه في بوردو ، علم السياسة ، الجزء الثاني ، ص111)0 بحق أن الأمر المميز للقانون الوضعي ليس اقترانه بالمؤيد (الإكراه ) ، بل كون الخضوع لأحكامه ونواهيه عاماً بين المواطنين ، فالجزاء (المؤيد ) لا يمكن إعماله إلا إذا كانت الحاجة إليه استثنائية ، أي أن مخالفة القانون أمر استثنائي 0 إذ لا يمكن بحال من الأحوال إلقاء أغلبية المواطنين في السجن 0 ولا من باب أولى قطع رؤوسهم 0 والمثل الأعلى للاستقرار السياسي أن يصدر الرضا عن قبول كل فرد من أفراد الجماعة 0 لكن مثل هذا القبول الصادر عن إرادة حرة واعية أمر استثنائي ، وأقرب إلى الواقع أن نقول أن المحكومين يقبلون السلطة بحكم العادة ، وبعجزهم عن تصور شكل آخر لها ، أو خشية ما قد يمارسه الحاكمون ضدهم من إكراه في حالة التمرد والثورة 0 المبحث الثاني أساس السلطة إن النظريات التي تصدت لتفسير السلطة كثيرة ومتنوعة وسنكتفي باستعراض ما كان له تأثير بارز في تطور النظم السياسية (1) 0 ((1) فيلنوف ، ص270 -289 ، وديفرجيه ، ص2-39 والدكتور ثروت بدوي ، ص205 -217 والدكتور طعيمة الجرف ، ص59-72 0))0 - المصدر الإلهي للسلطة : أقدم النظريات التي تفسر أساس السلطة ، تقيمها على أساس إلهي 0 فالسلطة مصدرها الله ، وما دام الحاكم يستمد سلطته من مصدر علوي فهو يسمو على غيره من البشر ، وبالتالي تسمو إرادته على إرادة المحكومين 0 وقد لعبت هذه الفكرة دوراً كبيراً في التاريخ 0 وقامت عليها السلطة في معظم الديانات القديمة والملكيات المطلقة الحديثة في أوربا 0 وتجلت النظرية في أشكال مختلفة وتطورت عبر التاريخ فاتخذت ثلاث صور رئيسية : - أ- في الأصل كان الحاكم يعتبر من طبيعة الهية (2) ، ((2) بقي الميكادو امبراطور اليابان يعتبر إلها حتى عام 1947))0 فهو لم يكن مختار الالهة لأنه هو نفسه إله 0 فكان فراعنة حمص وملوك الشرق الأوسط وأباطرة فارس وملوك الهند والصين واليابان يعتبرون آلهة ويعبدون على هذا الأساس ، وكان الرومان أنفسهم يقدسون الإمبراطور ويعتبرونه إلهاً ، حتى الاسكندر ذو القرنين وخلفاؤه من اليونان (البطالسة ) الهوا في مصر 0 ويمكن القول أن هذا الشكل يكاد يكون عاماً في مرحلة معينة من التطور التاريخي0 ب- نظرية الحق الإلهي غير المباشر أو العناية الإلهية (1) ((1) يمكن تصنيف النظرية في الصين القديمة في هذه الفئة ، فالإمبراطور ، وإن كان ابن السماء ، فإن كونفوشيوس يسلم بأن اختياره ليس نهائياً ، وإن بقاؤه على العرش رهن سلوكه، بحيث يفقد العرش إذا جنح إلى الظلم والشر والاستبداد ))0 ومع ظهور المسيحية تطورت النظرية ، ولم يعد الحاكم إلهاً أو من طبيعة إلهية ولكنه أصبح يستمد سلطته من الله 0 فالسلطة مصدرها الله بعنايته الإلهية ، وبما يتفق مع الحرية التي أودعها البشر 0 وتعتبر النظرية الرسمية للكنيسة البابوية (2)0 ((2) من أنصارها القديس توما الاكويني وبونالد وميستر وبوسيه)0 وقد استخدمت النظرية بأشكال شتى منذ القرون الوسطى وأثناء الصراع بين الكنيسة والإمبراطور، والكنيسة والملكيات الناشئة في أوربا 0 ففسرت على أن الله يرتب الحوادث بشكل معين بحيث تقوم أسرة بذاتها في وقت معين بأعباء الحكم 0 وعلى هذا النحو تؤيد النظرية سلطان الملوك ضد تدخل الكنيسة أو الشعب0 وفسرت أحياناً بأن من الممكن أن يرشد الله الأفراد إلى الطريق الذي يؤدي بهم إلى اختيار حاكم معين ، وكان هذا الطريق الكنيسة بالنسبة للبعض ، تأييداً لسلطانها ، وقيل أحياناً بأن ذلك يتم عن طريق الشعب ، معارضة من الكنيسة في استقلال الملكيات الأوربية الناشئة 0 وهذه النظرية مرنة كما نرى بحيث يمكن أن تتفق مع جميع أشكال اختيار لحكام ، بما فيها الشكل الديموقراطي 0 وقد ذهب فعلاً بعض رجال اللاهوت إلى القول أن اختيار الحاكمين من قبل المحكومين عن طريق الانتخاب ) مطابق للقوانين الاجتماعية التي وضعتها العناية الإلهية (1) 0 ((1) تستلهم هذه الفكرة الأحزاب الديموقراطية المسيحية في أوربا 0 وبالرغم مما تنطوي عليه محاولة تكييف نظام الدولة الإسلامية وفقاً للمقاييس السياسية المعاصرة من خطر أكيد لما تنطوي عليه من الخطأ في النظر إلى مشاكل المجتمع الإسلامي من زاوية التجارب التاريخية الغربية وحدها يمكن القول أن السيادة في الدولة الإسلامية مصدرها الله عز وجل : (( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير )) الآية الكريمة 0 دون أن يترتب على ذلك اعتبار الدولة الإسلامية دولة ثيوقراطية على نسق المفهوم الأوربي ) لسبب بسيط هو أن لا وجود في الإسلام للكهانة ولا لطبقة ممتازة من رجال الدين 0 - والخليفة له رئاسة الدين والدنيا 0 وعليه أخ الرأي ((وأمرهم شورى )) دون تحديد لمن يؤخذ رأيه والأسلوب الذي يتبع في ذلك وبالتالي يمكن الأخذ بخير الوسائل مما يتفق مع تطور الظروف والبيئة 0 والخليفة مقيد بكتاب الله وسنته والاجتهاد فيما ليس فيه نص 0 وشمول الخلافة الشؤون الدينية لا يجعل الخليفة ذا صفة إلهية أو مستمداً سلطانه من قوة غيبية ، فهو ليس خليفة الله ، بل خليفة رسول الله وما هو ، وما هو إلا فرد من المسلمين وثقوا بكفايته لحراسة الدين وسياسة الدنيا فبايعوه على أن يقوم برعاية مصالحهم وله عليهم حق السمع والطاعة ما دام في حدود الشرع ، وإلا جاز خلعه ((لسبب يوجبه )) 0 ((راجع السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية للأستاذ عبد الوهاب خلاف ، القاهرة 1350 هـ ، ومحمد أسد ، منهاج الإسلام في الحكم ، تعريب منصور محمد ماضي ، بيروت ، 1957 ، والدكتور محمد يوسف موسى ، نظام الحكم في الإسلام ، القاهرة ، 1962)0 ولهذا فقد ذهب معظم الباحثين إلى تكييف الخلافة بأنها ((عقد )) بين الأمة من جهة والخليفة من جهة أخرى ، وحسبنا أن نشير الآن إلى أن العرب والمسلمين عرفوا نظرية الحق الالهي بصورتيها ، فالشيعة الآمامية تصف ا~مة : كما جاء في كتاب أصول الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني المتوفي سنة 328 هجرية : (( الأئمة شهداء الله على خلقه ، ولاة أمر الله 00 اصطفاهم الله من عباده 00 إن الإمامة أجل قدراً وأعظم شأناً وأعلى مكاناً وأمنع جانباً وأبعد غوراً من أن يبلغها الناس بعقولهم وأن ينالوها بآرائهم ويقيموا إماماً باختيارهم 000 إن العبد إذا اختاره الله لأمور عباده فهو معصوم مؤيد موفق مسدود ، قد أمن من الخطأ والزلل)) 0 ويقول ابن عبد ربه الأندلسي المتوفى عام 328 هجرية في مصنفه الفريد في كتاب الؤلؤ في السلطان ( إن السلطان هو حمى الله في بلاده وظله الممدود على عباده ))0 والملاحظ أن معظم مؤلفات ما بعد القرن الخامس الهجري يضع الملوك والسلاطين في منزلة أعلى من البشر 0 ويقول المنصور في خطبة له : (( أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده ، وحارسه على ماله ، أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه 0 فقد جعلني الله عليه قفلاً 0 إن شاء أن يفتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم وإن شاء أن يقفلني عليها فقفلني ))0 ولا يقتصر هذا الموقف في الواقع على الشيعة وحدها ، إذ من المأثور عن الخليفة عثمان بن عفان قوله – عندما اختلطت الأمور في آخر عهده ونصح بالتنازل عن الخلافة : (( كيف أخلع لباساً ألبسنيه الله تعالى ))، ومعنى ذلك واضح أن الخلافة أسندها الله تعالى ، فمنه يستمد سلطته (الدكتور أحمد شلبي ، ص52 ) 0 ولئن كانت هذه الصورة أقرب ما تكون إلى الحق الإلهي المباشر ، فإن الزيدية أقرب إلى نظرية الحق الإلهي غير المباشر إذ أن الإمام منصوص عليه ، في نظرهم ، بالوصف لا بالاسم 0 ولا تنتقل الإمامة بالتالي بطريق الإرث من الأب إلى الابن 0 ويكمن الفارق الأساسي بين هذه النظريات الإسلامية ، والنظرية الغربية أن الإمام أو الخليفة مقيد بكتاب الله وسنة رسوله ، بينما لا يخضع الملوك في النظرية الغربية لأي قيد ، وسلطانهم مطلق غير محدود 0))0 - جـ - نظرية الحق الإلهي غير المباشر : واتخذت النظرية شكلاً جديداً مؤداه أن الحاكم إنسان كبقية البشر ، إلا أن الله يصطفيه ويودعه السلطة 0 وفي هذه المرحلة تسمى انظرية نظرية الحق الإلهي المباشر ، لأن الحاكم يستمد سلطته من الله مباشرة ، دون وساطة إرادة أخرى في اختياره ، ومن ثم يحكم بمقتضى الحق الإلهي المباشر 0 وقد عاشت هذه النظرية عصرها الذهبي في فرنسا في القرنين السابع عشر والثامن عشر ، فكان شعار مبوكها ((ملك فرنسا لا يستمد ملكه إلا من الله وسيفه ))0 وكثيراًَ ما كان لويس الرابع عشر يردد أنه يستمد سلطته من الله وأنه غير مسؤوول أمام أحد غير الله 0 ويبقيت النظرية سنداً للكثير من الملوك في تأييد سلطانهم المطلق ، فقال بها أباطرة روسيا واستعان بها غليوم الثاني امبراطور ألمانيا حتى الحرب العالمية الأولى ، وبقيت أساس حكم الملوك في إنكلترا حتى القرن السابع عشر 0 وهذه النظرية تستبعد أي تدخل من المحكومين في اختيار الحاكمين ، وبالتالي فلا مجال معها لأي انتخاب 0 وكان أساس ظهورها نشوء النظام الرأسمالي في طوره الأول – القرن الخامس عشر – فظهرت طبقة جديدة هي طبقة التجار والصناع التي نمت أثر اكتشاف العالم الجديد وطريق رأس الرجاء الصالح وما ترتب عليهما من نشاط الحركة التجارية والصناعية ونمو المدن 0 فكانت مصلحة هذه الطبقة البرجوازية في القضاء على نظام الإقطاع والعقبات التي يقيمها في وجه نمو مصالحها والعمل على تركيز السلطات في يد الملوك 0 - مذاهب السيادة الشعبية (1) : ((1) راجع فيلنوف ، ص289-336، ديفرجيه ، ص32-39 ، والدكتور ثروت بدوي ص205-217 ، ومحاضرات بوردو ، ص261-282 ، وبحثنا ((تطور السلطة السياسية )) دمشق 1964 والمراجع المشار إليه فيه ))0 فكرة اعتبار الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطة قديمة قدم الفكر السياسي 0 فقد عبر عنها أرسطو من فلاسفة الإغريق ، وصاغ المذهب في القرون الوسطى وقال به عدد من المفكرين على رأسهم القديس توما الاكويني ، واستخدمها فيما بعد المعارضون من الكاثوليك والبروتستانت وشهروها سلاحاً في وجه الملكية ، وفي القرن السابع عشر التقط الفكرة فقهاء مدرسة القانون الطبيعي فوسعوها وصقلوها ، وهؤلاء ألهموا مباشرة جان جاك روسو 0 فمنذ عهد الإصلاح الديني (2) ((2) حركة دينية سياسية ظهرت مطلع القرن السادس عشر وانحسر نتيجتها سلطان الكنيسة الكاثوليكية عن نصف أوربا الوسطى والشمالية )0 ترددت فكرة أن ثمة عقداً سياسياً بين الملك والشعب يعتبر الشعب بمقتضاه مالك السيادة والملك مقرها (أي أنها وديعة لديه ) ، وبالتالي فإن للشعب أن يخلع الملك عن العرش إذا لم يقم بواجباته على نحو مرض ، والسيادة نظام إنساني بحت لا يمكن أن يعتبر حقاً خالصاً للملك يستمده من القدرة الإلهية أو يحوزه بقوته بل هي نتيجة الخضوع الواعي (الإرادي) للرعايا ونوع من إرادة أصحاب العلاقة (المحكومين ) ورضاهم 0 - وتقوم الفكرة على أساسين : .أ- إثبات المساواة بين البشر : ليس من سبب في جماعة من الناس المتساوين أن يسيطر الواحد دون الآخر ، والسلطة بالتالي ملك للشعب بمجموعه 0 ب- إن السلطة السياسية قامت لمصلحة الجميع ، ويجب بالتالي أن تخضع لمراقبة أصحاب الشأن أجمعين ، وبعبارة أخرى يجب أن يساهم الجميع في إقامتها 0 وفي هذا يقول بعضهم (1) : ((1) مشار إليه في فيلنوف ص398)0 (( يبدو للبعض أن الشعوب لم توجد إلا من أجل الملوك 0 مع أن الصحيح هو أن الملوك لم يوجدوا إلا من أجل الشعوب 0 ففي كل زمن وجدت شعوب بدون ملك ، ولكنه لم يحدث قط أن وجد ملوك بدون شعوب ))0 - ولكن إذا لم يقدر لهذه الأفكار أن تثمر في حينها مباشرة ، فقد انتشرت في القرن الثامن عشر ، مع اختراع الآلة والانتقال إلى الصناعة الآلية ( الثورة الصناعية ) ، وكان لا بد لهذا التطور الجذري في الميدان الاقتصادي أن ينعكس على النظام السياسي والاجتماعي بسيادة مذهب جديد هو مذهب السيادة الشعبية لتبرير القضاء على الأنظمة القديمة ومنح السند الشرعي للطبقات البرجوازية الناشئة 0 - وقبل أن نعرض نظرية جان جاك روسو الذي عبر عن هذا المذهب بأقوى صوره ، وكان لآرائه الأثر البعيد في التطور السياسي ، يحسن أن نعرض بعض النظريات التي حاولت التوفيق بين السيادة الشعبية – الفكرة الآخذة في الانتشار – والسلطة الملكية ، فتصور ببعض المفكرين أن الشعب مصدر السلطة ، تنازل عن حقوقه لمصحة الملك أو أن تقادماً قد تم (نتيجة الحيازة طويلة الأمد ) لمصلحة الملك (2) ، ((2) قال بها لوازو في الأصل ونادى بها في الجمعية التأسيسية في بداية الثورة الفرنسية كازاليس فقال : إن الملك لا يستمد ملكه من الله أو سيفه ، بل من رضا الشعب وقبوله0 غير أن الشعب الفرنسي قد فوض منذ ثمانمائة عاماً إلى الأسرة الملكية حقها في العرش (مشار إليه في فيلنوف ، ص300-301) )0 ويمكن أن نطلق على هذه النظريات (الثورة المضادة )0وسنكتفي باستعراض نظرية هوبس في هذا المجال 0 - أ- نظرية هوبس : كان هوبس ربيب ملك الإنكليز شارل الثاني وظهرت نظريته في وقت انتشرت فيه الأفكار الثورية التي أقامت جمهورية كرومويل على أثر انهيار أسرة استيوارت، لذلك صيغت النظرية على نحو يؤيد الملكية المطلقة في بريطانيا 0 يرى هوبس أن حالة الإنسان الطبيعية كانت حياة حرب وصراع تسيطر فيها غريزة الأثرة توجهها اللذة والألم 0 والحق هو ما يملكه الإنسان من وسائل لإشباع رغباته ، وهو يملك نظرياً كل ما يستطيع أخذه 0 ولما كان البشر جميعاً في مركز واحد ، فقد نتج عن ذلك صراع مرده أن لكل فرد تجاه الآخرين نفس الحقوق التي لهم تجاهه(1) 0 ((1) قارن بآراء ابن خلدون ، حاشية البند 44، وقد سبق إلى هذا الرأي الفيلسوف الفارابي (870-950) راجع الدكتور فاضل زكي محمد ، أسس الفكر السياسي العربي الإسلامي ، ص15 ))0 (حرب الجميع ضد الجميع )0 فزهدوا في هذه الحياة إبقاء على أنفسهم وصوناً لمصالحهم ووضعوا لها حداً بالاتفاق فيما بينهم أن يعيشوا تحت إمرة سلطة واحدة يتنازلون لها عن كل حقوقهم لتوفق بين مصالحهم المتضاربة 0 ويرى هوبس أن هذا العقد تم بين جميع الأفراد ما عدا شخصاً واحداً هو الذي اتفق المتعاقدون أن يكون صاحب السلطة الآمرة في الجماعة 0 وهذا الرئيس لم يكن طرفاً في العقد ، مما ينبني عليه أ سلطة الملك مطلقة من أي قيد (2) .((2) باستثناء التصرف في حياة الرعايا، لأن مثل هذا الحق يتناقض مع الهدف الذي أراد الأفراد بلوغه بخضوعهم لسلطة الملك 0ويترتب على ذلك ، تبعاً لهوبس ، أن الدولة لا تملك فرض الخدمة العسكرية على رعاياها 0(راجع موسكا ، تاريخ المذاهب السياسية ص195))0 ومهما استبد فإن حالة الفرد في الجماعة تبقى خيراً مما كانت عليه في الحالة الطبيعية الأولى 0 ولم يبق للأفراد بعد أن تنازلوا عن حقوقهم إلا الخضوع الذي اختاروه بمحض إرادتهم بغية تحقيق الأمن والسلام 0 فالسيادة تكمن أساساً في الشعب إلا أنه تنازل عنها نهائياً للملك 0 - ب – نظرية لوك : ويمثل لوك مرحلة انتقالية بين نظرية هوبس وجان جاك روسو 0 فهو يرى أن الأفراد كانوا في حالة الفطرة أحرراً تجري الحياة فيها على أصول القانون الطبيعي 0 وقد رغب الأفراد في الانتقال لحياة الجماعة لضمان الحريات التي يتمتعون بها وتفادياً للاعتداءات الممكن وقوعها ، حياة أساسها التعاون مع كل الأفراد والخضوع لحاكم عادل ، وسلكوا في سبيل ذلك طريق التعاقد 0 ولم يتنازلوا عن كافة حقوقهم بل اقتصروا على القدر اللازم لإقامة السلطة العامة ، واحتفظوا بالجزء الباقي وهو مالا يصح للسلطة العامة المساس به 0 ويجعل لوك من الملك طرفاً في العقد ، بحيث إذا أخل بشروطه ولم يحافظ على حقوق الأفراد المتعاقدين معه انفسخ العقد ، فالسلطة وديعة اؤتمن عليها الحاكم لمصلحة الشعب، ويحق للشعب بالتالي أن يسحب ثقته ويسترد وديعته ويستعيد سيادته الأصلية ليفوض حاكماً جديداً بممارستها 0 ومن هذا يتبين أن لوك يرى أن الشعب هو صاحب السيادة 0 إلا أنه يملك أن يفوض ممارستها إلى حاكم معين هو الملك ، ضمن قيود يجوز عزله إذا لم يتقيد بها 0 وكان لوك من أنصار الملكية المقيدة وقد برر ثورة 1668 ودافع عنها بحرارة فكان لآرائه أبلغ الأثر في الفكر السياسي في القرن السابع عشر 0 - جـ - نظرية جان جاك روسو : ومع جان جاك روسو يستقر مذهب السيادة الشعبية على أسس راسخة وجان جاك روسو يلجأ أيضاً إلى فكرة العقد الاجتماعي لتفسير النظام السياسي (1) ((1) يفرق روسو بين العقد الاجتماعي ، الذي بمقتضاه وجدت الجماعة أو على حد تعبير روسو العقد الذي بمقتضاه أصبح الشعب شعباً والعقد السياسي الذي بمقتضاه ينتخب ينتخب الشعب حكومته أي الأشخاص الذين يمارسون السلطة (دابان ، ص196) 0 ويرى روسو أن الأفراد كانوا أحرار متساوين ، وبمقتضى العقد الاجتماعي تنازل كل فرد للمجتمع عن جميع حقوقه 0 وهو بتنازله هذا لا يخسر شيئاً ، فما يخسره باعتباره فرداً يكسبه باعتباره عضواً في المجتمع 0 وبعبارة أخرى تنازل الفرد عن حق نظري هزيل كان يتمتع به في حال الفطرة ليكسبه مضموناً بالنظام السياسي عن طريق المساهمة في تكوين الإرادة العامة 0 فالشعب هو بالضرورة مصدر السيادة ومالكها ، والسيادة تكمن في الإرادة الشعبية العامة 0 والإرادة لا يمكن تمثيلها ، فهي إما أن تكون نفسها أو تكون إرادة أخرى غيرها ، وليس من وسط 0 ولما كانت السيادة لا تعدو أن تكون ممارسة الإرادة العامة ، فإنها لا تقبل التنازل ، وصاحب السيادة ما هو إلا كائن اجتماعي لا يمكن أن يمثل غير نفسه 0 والسلطة يمكن نقلها أما الإرادة فلا 0 ونظراً لأن السيادة لا تقبل التنازل ، فإنها لا تقبل التجزئة (2) ((2) نص الدستور الفرنسي لعام 1789 صراحة على أن ((القانون هو التعبير عن الإرادة العامة كما تعبر عنها أغلبية المواطنين أو أغلبية ممثليهم )) كما نصت معظم الدساتير الفرنسية أن السيادة مصدرها الشعب وهي وحدة لا تتجزأ وغير قابلة للتنازل 0 ويلاحظ أن عبارة ((أغلبية ممثليهم )) تشير إلى مفهوم سيادة الأمة وخلافاً لنظرية روسو كما سنبين فيما بعد ))0 ، لأن الإرادة إما أن تكون عامة أو لاتكون ، وهي إما أن تكون {أي الشعب أو جزء منه ، ففي الحالة الأولى فقط هي عمل من أعمال السيادة السيادة وهي بمثابة القانون 0 أما في الحالة الثانية فلا تعدو أن تكون إرادة خاصة 0 وعلى هذا النحو يهدم روسو إدعاءات الكتاب الذين قالوا بإمكان تنازل الشعب عن سيادته لأقلية حاكمة أو أسرة مالكة 0 - وإذ ننتقل إلى تحديد ماهية هذه الإرادة العامة نجد تناقضاً كبيراً ، فينسب إليه البعض أخذه بالديموقراطية المبشرة دون غيرها (1) ((1) من هذا الرأي شيغاليه ، تاريخ الأفكار السياسية ، محاضرات في معهد العلوم السياسية بجامعة باريس ، 196 -1964 ، الجزء الأول ، ص62-64 وبصورة خاصة ص59 ، وموسكا تاريخ المذاهب السياسية ، باريس ، 1955،223 )0 بينما يرى آخرون أنه يأخذ بحكم الأغلبية ، أي بنظرية التمثيل على أساس الاقتراع العام ويعززون رأيهم بمثل يضربه : لنفرض أن الدولة تتكون من عشرة آلاف مواطن ، فكل عضو فيها ليس له إلا 1/10000 من السلطة ذات السيادة 0 ويرتب البعض على ذلك أنه ما من تعبير صحيح عن السيادة إلا إذا ساهم كل الأفراد فيها ، وبالضرورة يجب الأخذ بالاقتراع العام 0 وهذا هو التفسير الذي أخذت به الثورة الفرنسية مع بعض التعديل كما سنرى ، عن طريق صياغة مفهوم جديد للسيادة الشعبية هو سيادة الأمة 0 - مذهب سيادة الأمة : لم تأخذ الثورة الفرنسية بمبدأ الاقتراع العام 0 فقد كانت في حقيقتها ثورة بورجوازية، يهمها إبعاد ((الشعب )) الحقيقي عن مراكز السلطة 0 وساعد على ذلك أن فلاسفة القرن الثامن عشر وكذلك أعضاء الجمعية التأسيسية الفرنسية عام 1789 كانوا يحذرون الغوغاء ويتعالون عليها 0 فرأوا أن التمثيل النيابي ينطوي على ميزة سياسية هي تكوين مجالس يقوم بينها وبين الشعب فاصل حقيقي ، ولذلك نجدهم يحبذون تقييد حق الاقتراع واستبعاد الطبقات الدنيا (الفقيرة ) من السكان 0 - وكان لا بد من تبرير ذلك نظرياً فظهرت فكرة سيادة الأمة 0 ومقتضاها أن الشعب هو الأمة ، والسيادة للأمة 0 والأمة كائن حقيقي يتميز عن الأعضاء الذين يكونونه ، وليس من فرد بذاته يحق له أن يسهم في الحكم عن طريق اختيار الحاكمين ، لأن هذا ليس حقاً من حقوقه ، بل من حق أولئك الذين تسند إليهم الأمة هذه الوظيفة 0 - وقد كونت هذه النظرية المبدأ الأساسي للقانون العام الفرنسي ، والأنظمة التي سارت على نهجه 0 - ويرى ديفرجيه (1): ((1) ص38) 0 أن مذهب سيادة الأمة ، وإن كان ديموقراطياً في ظاهره ، إلا أنه غير ذلك في الحقيقة ، لأنه يمكن أن يستخدم لتبرير كافة أشكال الحكم ، بما فيها الحكم الفردي (2)0 ((2) يرى بوردو ، وقد يكون رأيه صواباً ، أن مذهب سيادة الأمة يشكل في الواقع مذهباً وسطاً بين النظام القديم ومذهب السيادة الشعبية ، فقد كان الملك في الماضي وحده صاحب السيادة 0 وتشخيص دون استبعاد شخصه ، وهو أمر لم يكن يحلم به أحد عام 1789 ، وبذلك انقلب مركز الملك إلى شخص مفوض يمثل الأمة جنباً إلى جنب مع الجمعية التأسيسية 0 (محاضرات ص272 ))0 فهو – بإقامة حداً فاصلاً بين الأمة والعناصر المكونة لها ، أي مجموع المواطنين – يفسح المجال لاستبعاد هذه العناصر من المساهمة في اختيار الحاكمين عن طريق الانتخاب ، ومن الناحية العملية فإن جميع الأنظمة السياسية التي تقلبت على فرنسا من ملكية 1789 المقيدة إلى إمبراطوريتي نابليون الأول والثالث ، استندت إلى هذا المبدأ بنفس القوة التي استندت إليها الجمهوريات الخمس التي توالت على فرنسا 0 - والصراع الذي دار في القرن التاسع عشر يمكن تلخيصه بأنه صراع في الداخل للحصول على حق الاقتراع وتأمين الحريات العامة ، صراع ساهم فيه إلى حد بعيد انتشار الأفكار الاشتراكية ونمو الحركات العمالية المتعاظمة بنمو الصناعة وتركزها ، وصراع على المستوى الدولي بين الأنظمة الملكية القديمة (التي تمثلها بقايا الأريستوقراطيات العقارية ) والأنظمة الليبرالية الجديدة (التي تمثل البورجوازية الصناعية والمالية ) وساد في كل مكان تقريباً حق الاقتراع العام ، واعتبر الشعب – بما يفتعل فيه من آراء سياسية متضاربة – مصدر كل السلطات ، يمارسها عن طريق ممثليه على الوجه المقرر في الدستور 0 وتحققت بذلك الديموقراطية السياسية 0 - مذهب سيادة الطبقة الكادحة (البروليتاريا)، في مطلع القرن العشرين أخذت أنظمة سياسية جديدة تظهر إلى الوجود – النظام الاشتراكي في الاتحاد السوفييتي – تقوم على الفلسفة الماركسية (1) 0 وتوجه النظرية الماركسية سهام نقد لاذعة إلى الديموقراطية السياسية ، وتتهمها بأنها ديموقراطية وهمية وشكلية 0 فالحريات العامة لا تعدو أن تكون إمكانيات قانونية لا يستطيع ممارستها إلا من تتوافر لهم الوسائل المادية 0 فما قيمة حرية التنقل بالنسبة لمن لا يملك ثمن تذكرة السفر ؟ وما قيمة حرية السكن وحرمته لمن لا سكن له أو يسكن كهفاً مظلماً وما قيمة حرية الصحافة إذا كانت الظروف الاقتصادية تجعل من الصحافة أدلة مسخرة لأصحاب رؤوس الأموال ؟ وما قيمة حرية الفكر لمن تضطرهم ظروفهم إلى العمل منذ طفولتهم لكسب عيهم (قوتهم ) ولا يتاح لهم أن يتعلموا ليمارسوا رياضة التفكير والتأمل ؟ وما قيمة حق الاقتراع إذا كان في وسع الطبقة الرأسمالية أن تضغط بصحافتها وأجهزة إعلامها على الرأي العام فتضمن نجاح من يمثلها وتقطع الطريق على من عداهم ؟0 - إن هذه الحريات لا تعدو أن تكون حريات وهمية ، أو على أحسن الفروض حريات قانونية لا يستطيع ممارستها إلا الرأسماليون 0 - إن أساس السلطة السياسية هو ملكية طبقة خاصة لوسائل الإنتاج 0 وهذه الملكية هي التي تمكنها من استثمار الطبقة الشعبية التي لا تملك إلا قدرتها على العمل0 ولهذا فلا غنى – الوصول إلى الديموقراطية الحقيقية – عن هدم أسس الاضطهاد ((استغلال الإنسان لأخيه الإنسان )) ، بإلغاء التملك الفردي لوسائل الإنتاج ، وإقامة نظام اشتراكي 0 وللوصول إلى ذلك لا بد من تحطيم مقاومة البورجوازية وإلغاء الرواسب الرأسمالية ، فهي الطبقة المستغلة ، ولهذا لا يمكن اعتبارها جزءاً من الشعب ، لأنها عنصر طفيلي يجب استئصاله أو تمثله تدريجياً 0 ولا محيص إذن عن إقامة دكتاتورية البروليتاريا ، الطبقة المستغلة 0 وعند ذلك يمكن القول بوجود ديموقراطية حقيقية ، لأن جماهير الشعب الكادحة تستطيع آنئذ ممارسة السلطات التي تنص عليها الدساتير دون أن تحجبها طبقة عازلة0 فمفهوم الشعب يختلط إذن في النظرية الماركسية بمفهوم الطبقة الاجتماعية الأكبر عدداً ، ويتحقق فناء الدولة – وهي بحكم تعريفها سيطرة طبقة تملك وسائل الإنتاج على غيرها واستغلالها لمصلحتها – بمجرد تحقيق النظام الاشتراكي في مجتمع يقوم على الحرية والمساواة ، ولا مجال فيه لاستغلال الإنسان للإنسان 0 وقد أدت هذه النظرية إلى حرمان أعضاء الطبقة المستغلة سابقاً من حق الانتخاب بمقتضى القوانين الانتخابية السوفييتية النافذة قبل دستور 1936 ، وأخذ بهذه النظرية جزئياً في القوانين الصادرة بالجمهورية العربية المتحدة وقانون العزل المدني في سوريا (1)0 ((1) مادة 1 : يفرض جزاء العزل المدني بمرسوم يتخذه المجلس الوطني لقيادة الثورة بحق الأشخاص والهيئات التالية : و – الإقطاعيون والرأسماليون والمستغلون الذين تسلطوا على الحكم فزيفوا إرادة الشعب 00 (المرسوم التشريعي رقم 11 تاريخ 23/3/1963 )0 2 - الأصل التعاقدي للدولة : وذهب آخرون إلى أن أصل الدولة تعاقدي ، بمعنى أن الأفراد وجدوا في حالة فطرية أحراراً يتمتعون بحقوق طبيعية لا حدود لها وانتقلوا إلى الحياة الاجتماعية والسياسية بإرادتهم ، بمقتضى عقد صريح أو ضمني 0 فأنشأوا المجتمع والدولة معاً (1) 0 0والدولة ليست إلا الكيان الاجتماعي الذي يهدف إلى استمرار سيطرة الغالب ضد الثورات في الداخل والهجمات الخارجية 0 وهو يقول : إن الدولة من حيث نشوؤها ، ومن حيث طبيعتها ، في المراحل الأولى لوجودها ، لا تعدو أن تكون تنظيماً اجتماعياً تفرضه جماعة غالبة على أخرى مغلوبة ، تنظيماً يقتصر هدفه على تأمين استمرار سيطرة الجماعة الغالبة بحماية سلطتها من خطر الثورات الداخلية والهجمات الخارجية 0 4- السلطة والرضا (1) : |
|||
![]() |
![]() |
رقم المشاركة : 3 | |||
|
![]() الفصل الخامس |
|||
![]() |
![]() |
مواقع النشر (المفضلة) |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
التحكيم في عقود B.0.T -Build-Operate-Transfer | سامر تركاوي | أبحاث في القانون الإداري | 1 | 12-04-2011 06:40 PM |
الضمانات التي تضمن للقضاء الإداري استقلاله عن مجلس الوزراء | المحامي نذير سنان | أبحاث في القانون الإداري | 5 | 23-07-2010 01:14 AM |
اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد | المحامي عارف الشعَّال | الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية | 0 | 02-11-2009 10:12 PM |
اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب | المحامي ناهل المصري | الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية | 0 | 28-05-2006 10:41 PM |
اتفاقية جنيف بشأن معاملة أسرى الحرب | المحامي ناهل المصري | الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية | 0 | 28-05-2006 10:40 PM |
![]() |