مشاركة متواضعة في موضوع شائك
منذ نحو سنة ونصف أو سنتين تفاءل المواطنون بأن عربة التحديث والتطوير ربما ستجد سكتها أخيراً مع تشكل الحكومة السورية الجديدة.. لكن بعد الإعلان عن تشكيلة الحكومة انخفضت عتبة التفاؤل إلى النصف عند الكثيرين.. وربما بعد مرور الفترة المنقضية لم يزدد تفاؤل الناس بل على العكس تراجع.
و ربما أكثر ما ينطبق ذلك على موضوع الإصلاح القضائي.. فقد انتشرت شائعات قوية في البداية لصالح الرغبة في تحسين واقع القضاء والعمل على الشروع بعملية إصلاح قضائي... ليكتشف أصحاب الشأن، القضاة والمحامون، أن العملية لا تتعدى الشكليات وصولاً إلى قرارات إدارية غاية في الارتجال واللاموضوعية.
1- فمثلاً، ما الغاية من نقل قاضٍ من إحدى المحافظات الشمالية رئيساً لمحكمة الجنايات في محافظة جنوبية - وهو، أي القاضي المنقول، لم يبق على تقاعده أكثر من بضعة أشهر بقليل؟.. وهذا القاضي لا بيت له في مكان تعيينه الجديد ولا عائلة (وهذا الأمر يضعفه معنوياً ويكسره نفسياً).. مما يضطره إلى التنقل بشكل غير منتظم بين المحافظتين.. ليتعرض في النهاية إلى حادث سير تسبب في كسور.. مع إجازة صحية طويلة، مع عرقلة عمل المحكمة المعنية وعرقلة قضايا الناس..؟! وأمثلة كثيرة من هذا النوع..
2 - أو مثلاً: عُمم على جميع المحاكم قرار (تم سُلّمت نسخة منه في ظرف إلى كل قاض باليد ليقرأه بنفسه) يؤكد ضرورة تقيد القضاة.. بالدوام الرسمي، لما في ذلك من أهمية للمصلحة العامة. القرار في ظاهره حسن.. لكن أريد أن أسأل هنا: أيعقل أن القاضي، الذي أؤتمن على أعراض وأموال الناس والبلاد، وهو مخول باتخاذ قرارات تصل إلى حد الحكم بالإعدام أو البراءة من ذلك - أيعقل أنه غير قادر بمفرده من تمييز المصلحة العامة لناحية الدوام.. وإذا كان هناك من لا يتقيد بالدوام فقطعاً هذه حالة فردية ولا تشكل ظاهرة.. ويمكن للمحامي العام المعني أن يدعو القاضي غير الملتزم بالدوام إلى مكتبه ويبين له -مع فنجان قهوة وباحترام- ضرورة التقيد بالدوام، وفي حال تكرار المخالفة يمكن اتخاذ الإجراء الإداري المناسب. هذه أمور شكلية لكنني اعتقد أن القاضي بأمس الحاجة لترسيخ قيم احترامه من قبل السلطات، ومنحه الثقة الكاملة بشخصيته الاعتبارية.
3- وبهذا الموضوع ترتبط ظاهرة أرجو أن لا تتفاقم اكثر، وهي على جانب مهم في طريق استقلالية القضاء.. القضية تتعلق بخوف بعض القضاة من الفصل في قضايا توصف بأنها (حسّاسة).. وكلمة (قضية حساسة) هنا يعرفها المحامون والقضاة.. أي حين يكون طرف من أطراف قضية معينة ممن هم في منصب المسؤولية في الدولة أو أن يكون هذا الطرف أو ذاك في القضية ممن لهم باع طويل مع الأجهزة الأمنية أو الحزبية (باختصار واصل ويده طويلة - هكذا يقال).. عندها يلجأ القاضي إلى التنحي عن الفصل بالقضية التي يُعطاها لكي لا يتورط باتخاذ قرار صعب (أيرضي الله وضميره، أم يرضي المسؤول أو الوصولي؟!).. وهذا ما حصل في إحدى المحافظات (حمص) حيث رفض أكثر من خمسة عشر قاض النظر والفصل في قضية (حساسة) كما أسلفنا.. وهذا ناتج على الأرجح من خوف القاضي من البطش الذي سيمارسه ضده ذلك المسؤول.. إلى درجة أن الأمر وصل ببعض القضاة أن يترددوا في التوقيع على أمور غاية في البساطة، مثل توقيع مذكرة تبليغ أو ما شابه..
بكلمة أخرى: إن إصلاح القضاء لا يكون بالشكليات رغم أهميتها (كأن تطالب القاضي بارتداء طقم رسمي مع ربطة عنق وثوب القضاة الرسمي في الصيف الحار جداً مع عدم وجود أجهزة تكييف). بل المهم أن يشعر القاضي بإنسانيته وأن تتوفر الظروف الضرورية لأن يمارس عمله بكل ثقة ودون خوف من البطش مادام يتقيد بالقانون ولا يخرق الأنظمة ولا يقوم بما يسيء للقضاء وللعدالة.
أما الأمور التنظيمية والقانونية والإدارية وكذلك المشاكل التي تعترض عمل القضاة والمحامين، فمن الأفضل أن أتركها لأهل الاختصاص.. لكنني أعتقد أنه لن يضر لو حدث تنسيق وحوار بين نقابة المحامين ومجلس القضاء الأعلى (كأن يتم تشكيل لجان من هنا وهناك لتقدم كل جهة ما تراه مفيداً) لدراسة سبل تطوير العمل القضائي، وكيفية مراعاة ما يحفظ للقاضي اعتباره ومكانته، وللمحامي دوره واهتمامه بالمهنة وبدراسة القانون، مما سينعكس بالتالي إيجاباً على مصالح الجميع، وفي ذلك خير للوطن بكامله.
منفول عن مقال لـ
د. ابراهيم استنبولي: النور 22/9/2004