الفصل بين السلطات ضرورة ديمقراطية
بقلم: د. حسن أبو طالب
في سمات النظم الديمقراطية العريقة فصل واضح بين السلطات الثلاث التي تمثل أعمدة العملية السياسية, وهي التشريعية والتنفيذية والقضائية. وهو الفصل القائم علي مبدأين, يبدوان متعارضين شكلا, ولكنهما متكاملان موضوعا. أولهما مبدأ التحديد الواضح للصلاحيات لكل سلطة علي حدة, منعا لتعدي واحدة علي صلاحيات الأخري, والثاني مبدأ المراقبة المتبادلة بين السلطات في ظل صيغة تعاون يفرضها عمل النظام ذاته. والمبدآن معا يشكلان ما يعرف بمعادلة التوازن الدقيق الذي تقبل فيه كل سلطة بدور السلطة الأخري دون منازع, ولا تتدخل في تلك الصلاحيات بالحذف أو الإضافة أو التجاهل.وفي حالتنا المصرية, ووفقا للدستور الصادر1971, والمعدل في بعض مواده, هناك تبن كامل لصيغة الفصل بين السلطات باعتبارها أساس النظام السياسي المصري, مع التزام بأن يحدد القانون صلاحيات كل سلطة علي حدة وعلاقتها مع السلطات الأخري. ومن هنا برزت بعض المشكلات, إذ جاءت القوانين أحيانا مخلة بروح الفصل الحقيقي بين صلاحيات كل سلطة, ووفرت أساسا لتدخل التنفيذية في عمل القضائية, وهو ما استدعي منذ فترة مبكرة جدا, وتحديدا في العام1986 أن يتقدم القضاة بمشروع قانون يحقق مبدأ الفصل المنصوص عليه في الدستور ويعالج الكثير من المشكلات التي يرونها تحد من حقوقهم كسلطة قضائية. وهو الأمر الذي لم يتحقق طيلة الفترة الماضية لأسباب عدة, من بينها غلبة الاتجاه القائل بأن الإصلاح الاقتصادي له الأولوية علي غيره من الإصلاحات, والمواجهة التي كانت علي اشدها طوال التسعينيات ضد جماعات العنف الديني, وأولوية العمل في مجال التسوية السياسية الاقليمية. ومع تغير الأوضاع والأولويات بات اتجاه التوازن في الإصلاحات السياسية والاقتصادية هو الغالب, ولم يكن هناك بد سوي التفاعل مع مطالب التغيير التي يموج بها المجتمع, والتي يعود بعضها إلي فترات زمنية بعيدة نسبيا. ومع ما جري أخيرا من استجابة لمطالب تغيير قانون السلطة القضائية, يصب في هذا الاتجاه العام, مع عدم أن إغفال الطريقة التي تتم بها الاستجابة لمطالب المجتمع المشروعة في التطور والحريات لها أيضا دور كبير ومؤثر في تحقيق تطور ديمقراطي تتطلع إليه مصر كلها دون استثناء.
وبالرغم من انه سابق لاوانه الحكم نهائيا علي مدي شمول أو جزئية التعديلات التي تقدمت بها الحكومة لقانون السلطة القضائية, فما زال الأمر مشروعا مقدما للجهات التشريعية, وما زال هناك بعض الوقت لاجراء المزيد من التعديلات والمواءمات, ومع ذلك يمكن القول أن هناك بعض تعديلات مما يطالب بها القضاة, كمنح مجلس القضاء الأعلي سلطة إدارة شئون القضاة والموازنة المستقلة وإلغاء تبعية النائب العام وأعضاء النيابة العامة لوزير العدل ووضع قواعد لدور التفتيش القضائي ومطالب أخري, غير أن إدماجا كاملا لدور نادي القضاة في إدارة شئون مرفق العدالة ككل غير ظاهر بعد, وكذلك مطلب الإلغاء الكامل لدور وزارة العدل كما نادي بذلك قطاع من القضاة ممثلين في نادي القضاة لم يحدث, حيث رؤي أن يكون دورها متمثلا في الإشراف الإداري علي الشهر العقاري وإنشاء وتنظيم المحاكم واقتراح الموازنة للقضاة, وهو الأمر الذي سوف تتضح صورته تماما بعد صدور القانون من قبل مجلس الشعب لاحقا.
المهم هنا أن الحكومة تقدمت أخيرا بمشروع قانون بتعديل بعض مواد السلطة القضائية وأحالته لمجلس الشوري لدراسته قبل أن ينظر فيه مجلس الشعب ليحوله إلي تشريع نافذ, وبما يصب في تعديل وتصحيح بعض جوانب العلاقة بين السلطتين التنفيذية والقضائية. وهي خطوة أتت بعد شد وجذب كبيرين تصاعدت وتيرته في الآونة الأخيرة, وكان مثار جدل سياسي كبير اشتبك مع مطالب تعزيز الحريات والتطور السياسي وتعديل الدستور, وغير ذلك من صدي ومطالب لحظة التغيير الكبري التي تمر بها مصر والمنطقة العربية بأسرها.
تاريخيا في مصر كما في غيرها, في هذه اللحظات الكبري دائما ما تنطلق المطالب والطموحات, وهو حق مشروع لكل فئات المجتمع, والذي يصبح أمامه ثلاثة خيارات, إما تجاهل هذه المطالب, وهو ما لا تسمح به لحظة التغيير الكبري الجارية في الوقت الراهن مصريا ودوليا, وإما احتواؤها جزئيا بما لا يقود إلي انفجاره وفي الوقت نفسه لا يحقق إنفراجة حقيقية في مجمل عناصر الموقف, وأخيرا تحقيق تلك المطالب بالتشاور والتنسيق مع أصحابها الأكثر ارتباطا بها, ولاسيما المناسب منها والمتفق مع جوهر الدستور, وبما يدفع المجتمع والنظام السياسي خطوات إلي الأمام, ويحقق الانفراج المنشود.
ولعل الأسلوب الثالث هو الأكثر مثالية نظريا علي الأقل, فبقدر ما فيه من تجاوب محمود مع مطالب التغيير المشروعة, فيه أيضا تجسيد لمعني المشاركة والمسئولية الجماعية للحفاظ علي الوطن وتقدمه وتطوره الديمقراطي, وهو الهدف العام الذي تعلنه كل فئات المجتمع, ويظل الفعل هو الحكم حول مدي الالتزام بما يقال. وإذا قمنا بقياس ظاهري بين الأسلوب الذي يجري به تعديل مواد السلطة القضائية بالفعل, حيث صاغته الحكومة, وهي السلطة التنفيذية المساوية في الصلاحيات الدستورية حسب الدستور, لقانون السلطة القضائية الذي يحكم العلاقة ويحدد الصلاحيات وأسلوب العمل بينها كسلطة وغيرها من السلطات الأخري, فسوف نجد أنفسنا بين أسلوب وسط بين الاحتواء الجزئي, وبين الأسلوب الأمثل القائم أساسا علي مشاركة أهل الاختصاص وأصحاب المطالب. وهو ما تدعمه تصريحات المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء د. مجدي راضي بأن الحكومة حرصت خلال مراحل إعداد المشروع علي الاستماع إلي كل الآراء والتوجهات سواء من مجلس القضاء الأعلي أو المجلس الأعلي للهيئات القضائية أو من مجلس إدارة نادي القضاة.( الأهرام2006/6/15) ولاشك أن الاستماع إلي الآراء شئ جيد, وفي بعض المواد المعدلة صدي لبعض مطالب التغيير المنشودة لا يمكن إغفاله كما سبق القول, لكن هناك مطالب أخري تبدو غائبة, وبما يجعل الأسلوب ككل بعيدا نسبيا من المشاركة بتقديم الاقتراحات والصياغات القانونية المحكمة المتوافقة مع الدستور نصا وروحا. وهنا تبدو المفارقة, فالسلطة التنفيذية هي التي قامت بتعديل مواد قانون يخص سلطة أخري, يفترض الدستور أنها مساوية لها في الصلاحيات و لا تخضع لها. ولعله كان الأمثل أن يقوم القضاة أنفسهم وفيهم الخبراء العتاة في فهم الدستور وفي التطلع إلي إعمال مواده الصريحة بالفصل بين السلطات, بوضع مشروع قانون يخص سلطتهم, ثم يترك الأمر من حيث التشريع وتغيير المواد حذفا وإضافة إلي السلطة التشريعية التي تعبر عن التوازن العام في المجتمع. بيد أن ما لا يدرك كله لا يترك جله. وطبيعة الحياة المعاصرة لا تغلق أبدا مطالب التغيير والتصحيح يوما بعد آخر.
الأهرام