عدت لتوي من زيارة استمرت عدة أيام لمدينة دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة.
دائما كنت ولا أزال أقول بأن أحلى لحظة أعيشها في كل مرة أسافر فيها خارج سورية هي لحظة عودتي إليها، وتحديدا عندما أركب الطائرة، وتدرج تلك الآلة العجيبة وتبدأ تسارعها للإقلاع نحو الفضاء، عندها أشعر بأن محركات الطائرة يزداد دورانها طردا مع ازدياد دقات قلبي المشتاق إلى الوطن بعزه وبؤسه، بتقدمه وتخلفه، بأزقته المسدودة وشوارعه المهملة الكئيبة، بقيادته الصامدة التي تواجه التحديات وشعبه البائس الذي يعاني من البطالة وارتفاع الأسعار وانخفاض معدلات المعيشة والقلق من المستقبل.
يوما، التقيت يابانيا كان منقولا حديثا إلى فرع شركته في دمشق من دبي وسألته: في نظرك، أيهما أحلى دبي أم دمشق؟ أجاب بدون تردد: دمشق. استغربت جوابه وظننت للوهلة الأولى بأنه يجاملني. وإذ فهم ما يدور بداخلي، أوضح قائلا: في دمشق تشعر أن كل شيء هو عريق وأصلي بينما دبي هي عبارة عن مدينة نابتة من الرمل من لا شيء وكل ما فيها هو على الطريقة الغربية تماما، وبتحديد أكبر، على الطريقة الأمريكية.
عندما كنت في دبي تذكرت ذلك الياباني، وقلت لنفسي: فعلا، دمشق أحلى، وكان من الممكن أن تكون أحلى بألف مرة لو أنها نالت الحد الأدنى من الاهتمام، بينما تنال دبي أقصى ما تحلم به مدينة في العالم. بلديتها تنفق عليها وعلى جمالها أكثر مما تنفقه بلدية نيويورك. كل شجرة في دبي بحاجة لأمتار من التراب الصالح للزراعة، كما تحتاج لمئات الأمتار المربعة من الماء الذي يتم تحليته من البحر لسقايتها، كذلك هي بحاجة لعمال على مدار الساعة لرعايتها وحمايتها والاهتمام بها، وقس على ذلك ملايين الأشجار التي تم زراعتها في دبي وفي غيرها من الإمارات العربية المتحدة. كيفما تلفت، هناك مساحات خضراء واسعة ومزدانة بعناية فائقة بورود ذات ألوان عديدة ومتنوعة تحسدها عليها باريس أو أي عاصمة أوروبية أخرى.
أبراج تناطح السماء. فيلات رائعة، شوارع عريضة ومخططة. أنفاق وجسور، لكن لا ننسى من الجانب الآخر أن هناك مخيمات مبنية خصيصا لإيواء العمال الآسيويين العاملين في دبي، وهؤلاء العمال هم الذين حولوا الإمارة إلى ورشة عمل دائمة على مدار الساعة.
دبي واحدة من أسرع الاقتصاديات نموا في العالم ، وهي الإمارة الثانية بعد إمارة أبوظبي والتي بدورها قد لا تقل عنها سرعة في النمو ربما. وعلى ذكر اسم الدولة الرسمي، يخطر على بال الزائر لو أنهم يستبدولون اسم دولة الإمارات العربية المتحدة لتصير الإمارات الهندية المتحدة، لأن حوالي خمسة وثمانين بالمائة من السكان هم من الهنود والباكستانيين، لذلك فإن اللغة التي يحتاجها الزائر هناك هي إما الإنكليزية أو الهندية، مع أن لغة الدولة الرسمية في المدارس والدواوين والجامعات هي العربية، لكن في حال عدم اتقان الزائر لإحدى اللغتين الإنكليزية أو الهندية بالحد الأدنى فقد يموت من الجوع دون أن يجد من يفهم عليه كلمة واحدة في دبي العربية، لذلك، ويا للأسف وأنت في دبي، كعربي، تشعر أنك غريب "كصالح في ثمود" كما قال المتنبي.
منذ اللحظة الأولى التي حطت بنا الطائرة في مطار دبي الذي يضاهي أفخم وأضخم مطارات العالم، راحت دمشق تلح على ذاكرتي، خصوصا مطارها الذي هو عبارة عن مطار صغير مثل كراجات الهوب هوب ويبعث على الكآبة. خدماته متواضعة وسوقه الحرة هي عبارة عن دكان صغيرة، بينما مطار دبي يفوق الوصف، وهو أجمل من مطار شارل ديغول في باريس ومن مطار هيثرو في لندن اللذين يعتبران من أفخم وأكبر مطارات العالم. أما عن مظهرها العام، فحدث ولا حرج. ودائما تقفز المقارنة إلى الذهن، ودائما كنت أشعر بالغيرة المشروعة على مدينتي من دبي التي بوسعها أن تنافس أجمل مدن العالم بكل ثقة بالنفس.
مرة التقيت فيها بمسؤول كبير نسبيا في دمشق، قلت له ما رأيك بمدخل دمشق الشمالي القادم من حمص؟ هل يعجبك يا حضرة المسؤول؟ فتعلمت من ذلك المسؤول بأن دمشق تعاني من "تلوث بصري". ماشاء الله مسؤولونا ما أشطرهم بالتنظير. أعجبتني العبارة. فعلا يشعر المرء بتلوث بصري كبير وهو في طريقه لدخول أقدم عاصمة مأهولة حتى الآن: مساكن عشوائية مبنية على عجل على جانبي الطريق، ولا توجد شجرة واحدة لا في الوسط ولا على جانبيه، وإذا كان الوقت ليلا، لا يوجد إضاءة. سيارات كبيرة وصغيرة على المازوت قديمة أو حكومية ذات مشاكل في الاحتراق تؤدي إلى إطلاق سحب دخان أسود تجعل المدينة مجللة بعباءة سوداء على مدار الساعة. أشعر بالخجل إذا ما نظرت بعيني سائح خليجي قادم ليدخل دمشق من المدخل الجنوبي القادم من عمان. اوتستراد حديث جدا لكنه لا يزال"مزفتا" بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، غير مخطط، غير مضاء، بدون أرصفة، بدون أي شجرة أو عشبة خضراء في وسطه وعلى جانبيه.
هذا هو حاله منذ تم شقه وحتى الآن دون أن يلوح في الأفق أية بارقة أمل في متابعة العمل به، ودون أن ترى أي عامل يقوم بأي عمل يبعث في نفسك الامل بأنه رغم التأخير لكن لا بد أن ينتهي العمل في المستقبل، وكأن الاوتستراد قد أخذ شكله النهائي.
جبل قاسيون المطل على مدينة دمشق، الذي هو أشبه ما يكون بجبين المدينة، وبدلا من أن يكون مشجرا ومتصلا بدمشق بتلفريك، تجد أته مكسو بكتل اسمنتية بشعة هي عبارة عن مساكن عشوائية بنيت في ظل فساد البلديات والانفجار السكاني والهجرة الغير منظمة من الريف إلى المدينة.
مرة ثانية التقيت مع مسؤول آخر وقلت له: هذه عاصمة كل من نطق بالضاد، فارجو الاهتمام بها أكثر، فأكد ذلك المسؤول بأنه يتمنى لو يتمكن من أن يحقق كل ما يحلم به كل إنسان لدمشق لكن المشكلة هي في التمويل.. المشاريع والأرصفة والإضاءة كلها بحاجة إلى مال، والعين بصيرة واليد قصيرة. عندئذ خطرت ببالي فكرة وطرحتها عليه فورا: قلت له بأن معظم التجار في بلادنا يكسبون كثيرا ويتهربون من الضرائب، حتى أن أولادهم لا يخدمون عسكرية، وإن خدموا فإنهم يخدمون في منازلهم لأن لهم علاقات كبيرة من المسؤولين. لماذا لا يتم جمع أموال من هؤلاء الأثرياء بشكل مباشرة لتمويل مثل هذه المشاريع وتحسين صورة دمشق؟ استغرب الاقتراح وقال لي بأنه لا يمكنه الإقدام على ذلك لأن أي جباية أو ضريبة يجب أن تكون بموجب قانون، قلت له استخدموا علاقاتكم الشخصية مع هؤلاء الأثرياء أبناء البلد. إنكم تجمعون تبرعات لتحسين بلدنا وليس لأسباب شخصية. اقترحت عليه تشكيل لجان من المتطوعين ليقوموا بتسجيل تلك التبرعات وإعلانها للجمهور، التاجر الفلاني تبرع بمبلغ مليون أو خمسة ملايين أو كذا مائة ألف لتشجير المنطقة الفلانية، أو لتحسين الشارع الفلاني وهكذا. ويتم صرف هذه الأموال في ظل رقابة شريفة وصارمة، هذه المسألة ليست مستحيلة. كانت الفكرة جديدة وبنت ساعتها، هز المسؤول رأسه وبدا كما لو أنه يفكر بها. قلت له: أنا وأنت أيضا نعرف بالاسم هؤلاء اللصوص الفاسدين الذين جمعوا أموالهم من خلال مكاتبهم ومواقعهم ولم يدفعوا قرشا واحدا لوزارة المالية كضريبة عنها. هؤلاء يمكن جمع تبرعات منهم بشكل أسهل لأنهم يعرفون أن باستطاعة الحكومة أن تحرك الدعوى العامة بحقهم في أية لحظة لو حاصوا أو فاصوا، لذلك هم على استعداد لدفع زكاة أموالهم بمجرد الإشارة. اعتبرني المسؤول كما لو أنني أمزح، وضحك ضحكة صفراء، لأن من في ظهره مسلة تنخزه كما يقولون.
دمشق مدينة كبيرة وهي بحاجة لعمل دؤوب وأموال كثيرة. تأخرنا كثيرا في العناية بها لكن أن نبدأ ولو متأخرين أفضل من حالة التردد واللامبالاة. انظروا إلى ظاهرة الجسور التي تم إشادتها فوق أوتستراداتنا ولم يتم إكمالها رغم مضي عدة سنوات على الانتهاء منها لكن دون أن يتم وصلها بالمفارق والشوراع وبالتالي تبدو كما لو أنها مصممة لأن تُرفع السيارات إليها بالسلالم أو المصاعد لتمر من فوقها ثم يتم إنزالها بسلالم أو مصاعد من الجانب الثاني ( يالها من نكتة سمجة وثقيلة وغير مضحكة). وبالمناسبة درجة التقدم في أي مشروع في دمشق هو أشبه ما يكون بحركة الشمس، بمعنى أنه غير ملحوظ، بطيء جدا، لدرجة أن المشروع ينتهي عندما يكون المواطن قد نسي متى بدأ. من يذكر متى بدأ العمل بساحة الأمويين و كيف انتهت بعد خمسة سنوات؟ والمشروع كله عبارة عن نفق لا يتجاوز طوله مائتين أو ثلاث مائة متر بالحد الأقصى ولا يحتاج لأكثر من ثلاثة أشهر من العمل الجدي، لكنه في الحقيقة احتاج لخمسة سنوات، ولنضحك بعبنا أنه انتهى، ساحة العباسيين التي بدأ العمل بها مع ساحة الأمويين لم تنته رغم مرور قرابة العقد من الزمن على بدء العمل بها دون أن يلوح أي ضوء في نهاية النفق. ليت المحافظة تضع لنا لوحة تقول بأنهم يقومون بتنفيذ كذا وكذا، وأن ستين شهرا أو ستمائة شهر هي مدة تنفيذ العقد.
مشاريع الإنشاءات في بلادنا مثلها مثل مشاريع الإصلاح والتنمية ومكافحة الفساد وخطط التطوير الإداري. كلها مشاريع تبدأ ولا تنتهي. وفي نظري أن تبدأ ولا تنتهي أسوأ من أن لا تبدأ أبدا.
ما العمل؟
سيدي الرئيس، نحن بحاجة لتدخلك المباشر لتصير بلادنا مثل غيرها من العواصم، لأنك أنت المهاب وأنت الوحيد من بين باقي المسؤولين من هو خارج دائرة المصالح، مصلحتك الوحيدة هي الوطن، ولا مصلحة لك إلا تقدم الوطن. بينما هم يا سيدي أصحاب مصالح خاصة وضيقة ومستفيدون مباشرة من هذا الفساد والتأخير والمساومة وغايتهم بناء مصالحهم الخاصة وليس مصلحة الوطن وتطوير حساباتهم الخاصة وليس الوطن، وتنمية أوضاعهم الاقتصادية وليس تنمية اقتصاد الوطن وتحسين امورهم المعاشية وليس تحسين أمور الوطن والمواطن.