تؤدّي محكمة النقض وظيفة عامّة تتجسّد في توحيد الأحكام القضائيّة وسلامة إعمال القانون ، وهذه الوظيفة هي الصق بالصالح العام منها بمصلحة الخصوم ولذلك قيل بأن المتقاضين أمام محكمة النقض ليسوا هم الخصوم أمام محكمة الموضوع وإنّما هي الأحكام القضائيّة الصادرة عن محاكم الموضوع .
ومن هنا نشب الخلاف بين محكمة النقض وقاضي الموضوع ، واكتسب هذا الخلاف خصوصية معينة ، ذلك أنّ محكمة النقض ليست محكمة درجة ثانية أو ثالثة ، إلاّ حينما يصرّ قضاة الموضوع على التمسك برأيهم بعد نقض الحكم ، فتضطر محكمة النقض إلى رفع يدهم نهائيّاً عن الدعوى ، وتصبح محكمة درجة ثانية أو ثالثة بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى ، ثمّ تفصل في النزاع المرفوع إليها للمرّة الثانية بشكل نهائي .
ومحكمة النقض وهي محكمة قانون لا تتدخّل إلاّ في سلامة إعمال القانون ، ولا علاقة لها بالوقائع ، ذلك أنّ الوقائع من إطلاقات قاضي الموضوع ، غير أنّ صعوبة الفصل بين ما هو من مسائل الواقع وبين ما هو من مسائل القانون وتشابك هذين المفهومين يثير مشكلات لا حصر لها بين محكمة النقض وقاضي الموضوع .
ففي الوقت الذي يقرر فيه قاضي الموضوع على أنّ هذه المسألة من مسائل الواقع وأنّها من إطلاقاته يفهمها كما يشـــاء ويكيّفها كما يشاء ، تحتج محكمة النقض على هذا الفهم وعلى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا التكييف ، وتعلن أنّ المسألة تتعلّق بقواعد الإثبات ، وأنّها مسألة قانون ، وليست مسألة واقع ، ثمّ تبسط رقابتها عليها ، الأمر الذي دفع بعض الفقهاء الفرنسيين للقول بأنّ الفصل بين ما هو من مسائل الواقع وبين ما هو من مسائل القانون أمر يستغلق على الفهم والتمحيص .
وبعيداً عن نظرة التشاؤم تلك ، فإنني أرى أنّه بالإمكان وضع معايير عامّة ، وإن لم تكن دقيقة للتمييز بين ما يعتبر من مسائل الواقع وما يعتبر من مسائل القانون]
ومن خلال هذا المعايير يمكن معرفة حدود قاضي الموضوع ومقدار سلطته على الوقائع ومتى يفلت من رقابة محكمة النقض ، ومتى يصبح سيّد الوقائع .
ومن الجدير بالتنويه أن اللجوء إلى محكمة النقض محدّد في القانون ، وقد نصّت عليه المادّة /250/ من قانون أصول المحاكمات المدنية السوري .
وفي المواد المدنيّة والتجاريّة تضاف صعوبة جديدة في علاقة قاضي الموضوع بمحكمة النقض ، ألا وهي مفهوم القانون كما حدّدته المادّة الأولى من القانون المدني السوري ، فالقاضي المدني قد يجد نفسه مشرّعاً ، وقد يجد نفسه باحثاً عن القانون يستمدّه من أهل الخبرة والعرف، بينما يكون القاضي الجزائي في مأمن من ذلك .