تتمة
في الرد على من يعتقد أن السنهوري قد انتقص من الشريعة الإسلامية ووضعها في موضع لا يليق بها كمصدر رئيسي و وحيد للتشريع، واعتناقه للتشريعات الفرنسية؟!
هذا السؤال هو الذي دفع مؤلف الكتاب موضوع القراءة إلى تأليف هذا الكتاب، وإن خير جواب وجدته، ما حملته الصفحات بين دفتي الكتاب لتكشف عن التشويه الذ طال هذا الرجل وتغييب وجهه الإسلامي عن قصد.
وسأحاول أن أوفر على القارئ الوقت والجهد وأضع بعض الحجج والأفكار التي استقيتها من هذا الكتاب لدحض هذه التهمة عن السنهوري باشا، الرجل الذي طالما أحببته وانحنيت إجلالاً لعمله.
يقول السنهوري عليه رحمة الله:
"لقد أعطى الإسلام للعالم شريعة هي أرسخ الشرائع ثباتاً، وهي تفوق الشرائع الأوربية، وإن استقاء تشريعنا المعاصر من الشريعة الإسلامية هو المتّسق مع تقاليدنا القانونية..إنها تراثنا التشريعي العظيم ..وبها يتحقق استقلالنا في الفقه والقضاء والتشريع ..إنها النور الذي نستطيع أن نضيء به جوانب الثقافة العالمية في القانون..لقد اعترف الغريب بفضلها...فلماذا ننكره نحن؟! ومابالنا نترك كنوز هذه الشريعة مغمورة في بطون الكتب الصفراء، ونتطفل على موائد الغير، نتسقّط فضلات الطعام؟!"
ويضيف أيضاً:
"أرى أن الأمم الشرقية أمامها أمران لا محيض عنهما: إما أن تجري مع المدنية الغربية، وهذا الطريق ليس مأموناً، وإما أن تختطّ لنفسها مدنية تصل فيها الماضي بالحاضر، مع التحوير الذي يقتضيه الزمن، فتحفظ لنفسها شخصيتها، وتستطيع أن تجاري الغرب، بدلاً من الجري وراءه..."
كان السنهوري زعيماً حقيقاً يبغي الإصلاح لإمته، فقد وضع مشروعاً متكاملاً عن نهضة الشرق بالاسلام وإقامة هيئة أمم اسلامية إلى جانب عصبة الأمم الغربية(( التي كانت موجودة قبل هيئة الأمم المتحدة في ذلك الوقت))، فكتب عن الإصلاح السياسي والدستوري والقضائي، وتحدث أيضاً عن إحياء علوم الدين لتسهم هذه العلوم في إحياء المدنية الإسلامية وتكون الخيار الحضاري لنهضة الشرق، تلك النهضة التي يجب أن تكون قائمة على الشريعة الاسلامية مما دفعه للمطالبة لفتح باب الاجتهاد حتى تعود الشريعة الاسلامية حية يستقي منها الشرق قوانينه، ولأن السنهوري رجل عمل وفعل فقد بدأ سلسلة من من الدراسات الإسلامية ضمن مشروع حقيقي لإحياء علوم الدين، ويقول عن عمله هذا رحمه الله:
" باسم - إحياء العلوم- أفكر أن أشترك مع من أرى فيه الرغبة الصادقة والكفاءة في تصنيف كتب في العلوم الإسلامية والشرقية، وهذه السلسة تنقسم إلى أفرع، كفرع للقانون ، وفرع للفلسفة وغير ذلك.....وقد عزمت - بعون الله تعالى - أن أبدأ قسم القانون بترجمة كتاب لمؤلف مصري وضعه باللغة الفرنسية، في سوء استعمال الحقوق في الشريعة الإسلامية، ثم أتلو هذا الكتاب بكتب أخرى في الشريعة يكون الغرض منها إزالة الجمود عن تلك الشريعة الغراء وبعث روح العصر فيها..."
ويبدي السنهوري إعجابه بالفقه الإسلامي وشوقه لسبر أغواره فيقول:
" إن الفقه الإسلامي هو صفحة خالدة في سجل الفقه العالمي ..وإن دراسة هذا الفقه المجيد والعتيد في ضوء القانون المقارن هي مشروع حياتي، والأمل المقدس الذي تنطوي عليه جوانحي، ويهفو إليه قلبي، ولا يبرح ذاكرتي منذ سن الشباب..
وإذا ما اكتمل لهذا الفقه تطوره، أصبحت الثقافة المدنية الإسلامية ...
وتحقق الهذف الذي قصدت إليه، وهو أن يكون للبلاد العربية قانون واحد يُشق رأساً من الشريعة الإسلامية"
وهاهو يقول الكلمة الفصل في الشريعة الإسلامية :
" أنا أفهم من أن الإسلام دين الفطرة، وأنه صالح لكل زمان ومكان، إنه شريعة مرنة صالحة لأن تلبس لباس الزمن الذي تعيش فيه.."
كل هذا التمهيد لأجل الجواب على السؤال الذي بدأنا به حديثنا، لماذا اذن لم يضع السنهوري تشريعات مصدرها الشرع الإسلامي وحسب؟!.
الجواب أن الرجل عليه رحمة الله كان يسعى كما قلنا إلى بناء نهضة شرقية قائمة على أساس الشريعة الإسلامية، فهو كان يرى أن الشرق وإن تعددت فيه الأديان فإن ثقافته وروحه كانت تتلاءم إلى حد كبير مع الشرع الإسلامي، ولأنه لا يمكن الوصول إلى هذا الهدف انطلاقاً من حالة الضياع والتدهور الحضاري الذي كانت تعانيه الأمة في ذلك الزمان -وما زالت- فقد اعتمد الرجل على مبدأ التدرج في عمله أيضاً فهو يعتقد أن توحيد القانون من أهم عوامل توحيد الأمة، وهو يرى أن الإسلام عندما نظم أحكام المعاملات نظمها بشكل تناسب المنطق والعقل ومافيه خير للبشرية دون أن يخصها بمؤمن أو كافر مما يساعدنا إن عدلناها مؤقتاً ضمن المباح والمكروه في نشرها وترسيخها وكل ذلك بالاجتهاد، فهذا الدين كما يرى السنهوري عليه رحمة الله أنه دين العقل والقلب، دين الفرد المندمج في الأمة والمجتمع، دين العمل وتحقيق الذات، دين الأرض والسماء، دين يسعى إلى عمار الأرض مع خلاص الروح.
كل هذا ولم أتحدث بعد عن نضاله الطويل في المؤتمرات الدولية، حيث كان يسعى دوماً إلى نزع الاعتراف من الفقهاء وكبار رجال القانون بجدارة وقيمة الفقه والحضارة الاسلامية إلى أن حصل على ذلك في مؤتمر لاهاي عام 1932 حيث وجه إليه أستاذه بالدكتوراه الفقيه الفرنسي " لامبير" خطاباً مفاده أن الشريعة الاسلامية تستطيع أن تسكب النور على الفقه المقارن فيما لو توفر رجالٌ كأمثال السنهوري.
أثناء تعديل القانون المدني المصري ، استطاع هذا الرجل أن يخطو خطوات كبيرة بمشروع حياته، ألا وهو جعل الشريعة الاسلامية المصدر الأول للتشريع.
ولكل من يريد أن يشاهد بوضوح بصمات السنهوري الإسلامية في وضع القوانين فليطلع على القانون المدني العراقي، فهو قد تبنى أغلب المبادئ والنظريات الاسلامية ولم يأخذ من الفقه المقارن سوى الصياغة والتبويب.
وهو يقول في هذا الصدد رحمه الله:
" لقد كلفتني الحكومة العراقية بوضع مشروع لقانون مدني عراقي، فسرّني كثيراً أم أكلّف بهذه المهمة، ......ويقوم المشروع الذي أعده على أساس المجلة ( مجلة الأحكام العدلية) والفقه الإسلامي،هذا هو الأمل الذي كنت أطمح إليه منذ عهد الشباب، حقق الله الأمل...."
ثم نجده يناجي الإمام الأعظم أبا حنيفة النعمان في بيتين من الشعر مؤكداً على أن الأصول باقية والتجديد في الفروع ،فيقول:
أبا حنيفة هذا فقهكم بقيت **** منه الأصولُ وقامت أفرعٌ جددُ
ماذا على الدوحة الشماء إن ذهبت **** منها الفروع وظلًّ الجذعُ والوتدُ
كان رجلاً عظيماً منذ شبابه، فلقد بدأ حياته العلمية برسالتي دكتوراه من جامعة ليون الأولى في القانون المدني والثانية في فقه الخلافة الإسلامية كعصبة للأمم الإسلامية.
ورد على كثير من توافه وعظماء المفكرين والناقدين في ذلك الزمان.
كذلك غاص الرجل في بحور الفقه الإسلامي ليضرب الأمثال على تفوق وامتياز الشريعة الإسلامية في كثير من التقنينات ....مثل " مسؤولية المؤجر " و" نظرية تحمل التبعة "
و " حوالة الدين " و" والإبراء" و" الملكية الشائعة " و " حقوق الارتفاق " و" التزامات المؤجر " و"والتعسف باستعمال الحق " و" النزعة المادية " ......عليه رحمة الله
حتى أن أساتذته في فرنسا كان يسمونه ب " الفقيه الخامس" لما شاهدوا منه من رسوخ قدم في الفقه والشريعة الإسلامية
وما زال هنالك الكثير الكثير مما لم أستطع ذكره مما فعله وكتبه هذا الرجل، فقد ضاقت حروفي عن وصفه، وعجزت كلماتي عن ايفائه حقه من الشكر والدعاء،
ولو قرأتم أجزاء من الكتاب لاقتنعتم بما أقول
فليرحمه الله وليسكنه فسيح جنانه
هذا رفعٌ للحيف عن إمام الفقهاء المعاصريين، وجوابٌ لسؤال حير بال الكثيرين، وإنصافٌ لرجل لم يزح الستار عن جوهر عمله الحقيقي.