مشاهداتي في عمان !
مضى الدرب بي إلى عمان مطلع الأسبوع الساري , والقصد .. بنية القاصد وعظم المقصود ..
دخلت مدينة لا شجر فيها ولا وبر .. استحكم الإسمنت في نواحيها .. فغلب على لونها الظلام , واختفى الأخضر من جنباتها ..
ندر الماء فيها , حتى اخترعوا حالات وترتيبات من التقنين , قد لا تخطر في بال الهانئين بماء الفيجة وبقين , تلك التي تتفجر من ينابيعها على مدار الساعة , ليملأ بعض السيّارة دلاهم .
قصدت محكمة شمال عمان , فوجئت ابتداءاً بقلة المتواجدين لدى الباب , إذ ظننت أني سأقف بدوري – خلف الجهاز - كما أقف على باب قصر العدل , أو ربما أطاحش - كما العادة - على باب الزبلطاني !
ظننت أن المحكمة مغلقة , خاصة وقد كان ذاك أول أيام الأسبوع , إلا أني كنت مخطئاً ..
دخلت دائرة الكاتب بالعدل , ثلاثة موظفين خلف نوافذ زجاجية وشاشات رقمية , من ورائهم طاولة كبيرة لرئيس الدائرة , الكاتب بالعدل .
بدأت بالسلام على رئيس الدائرة , وأتبعتها باستفسار عن صور الوكالات وهيئتها والمسموح منها والممنوع وما يجوز ومالا يجوز , وكم عدد الصور وعدد الطوابع وأنواعها ومكان تواجدها وكم للأصل وكم للصورة ..... وقد ملأت يد ي بمجموعة من الدنانير !!!
نظر إلي الكاتب فاغراً فاه .. يا سيدي : الموكل موجود .. قلت نعم , قال هاته ...!!
أتى الموكل , وقّع الوكالة , تناولها الموظف الأول , أدخلها على الحاسب , ناولها لرفيقه , طلب منا رسمها – ستة دنانير - , أخذها الأخير , ختمها وأعطاني إياها .. تفضل .
صعقت بالسرعة والتسهيلات والتبسيطات ..
قلت : إن أردت استخدامها في الخارج , قال : عليك بخاتم رئيس المحكمة !
رئيس المحكمة .. هو رأس المحكمة , ولا أدري ما قد يشبه عندنا , فهو كبير القضاة , الذي يُرجع إليه في كل هامة و لامة في المحكمة .
المحاكم تتجمع في طابق , ثم القضاة في طابق آخر , مكاتب متجانبة , بشكل طولي , المكتب الواحد كأكبر ما قد يتمتع به قاضٍ ,
يقبع القاضي في صدره خلف طاولة تليق بهيبته , وعن يمينه الكاتب أو الكاتبة وأمام كل منهما حاسب وشاشة أرقّ من سماكة جوالك !
دخلت غرفة رئيس المحكمة مسلّماً ومعرفاً بنفسي بأني المحامي فلان , وقد كنت معتاداً ألا أسمع إجابة على سلامي فضلاً عن تعريفي , إلا أني حين قلت : قاضينا الموقر خالد بيك – وقد علمت أن القضاة لديهم يحملون لقب بيك , كما كان المحامون من قبل لدينا وقد تبقى منهم بقية - المحامي عصام من دمشق .
أجاب : حيّ الله ! مر ما تشاء ..
فقدمت الورقة .. وقعها وأتبعها بالخاتم قائلاً : ديرتك وبلدك !!
انقلبت مسرعاً لأحصل على خاتم الوزارة والخارجية , وهما في مكانين مختلفين وبعيدين عن المحكمة .. إلا أن أحدهم قال لي : لكل من الوزارات المعنية مندوبين متجمعين في عدة مناطق , فعليك بهم .
انطلقت إلى أحدهم مسابقاً الساعة .. وصلت في الثانية وعشر دقائق , الباب مغلق , مجموعة من المراجعين في الخارج , وعليه ورقة مكتوب عليها : ينتهي الداوم الساعة الثانية .
ولكني معتاد أن أحاول جهدي مهما كلف الأمر , بالحسنى أو بغيرها ..
فتح الباب .. آخر الموظفين يحاول الخروج , أقبلت إليه قائلاً : أنا محامٍ سوري ..
رفع يده مقاطعاً : لا تكمل ..
ساورني ..أن أقترح بعض الحلول عليه , وقد دخل الشيطان في بعضها .. حيث أمسك بيدي وأدخلها في جيبي وقال : يا عصام ( بدك ترجع عـ الشام اليوم , وأنت تعلم أن الدراهم مراهم ) رفعت نظري إلى الموظف ..
وإذ به يقول تفضلوا جميعاً ..
حاولت تاخير نفسي , وأبقيتني على جُنُبٍ أرى ما يقصد هذا الموظف من إدخال هؤلاء جميعاً ..
لم يتركني أفكر .. فقد نادى أين المحامي السوري .. أتيت ..
أقال يا إخوان : أنتم تعلمون أن الدوام منتهٍ , ولكني أستحيي أن أعيدكم خائبين , وقد تأخرت وتأخرت , فهاتوا جميعكم أوراقكم واسمحوا لي أن أبدأ بالمحامي السوري فهو ضيفنا !!
حياكم الله !!
فقالوا جميعهم : حيّ النشامى !
أنهى كلامه وأوراقي وهو يحسب أني صدقته , تواريت لأحسب .. بكم خرج من تأخيره .
صدقوا أو لا تصدقوا ..
خرج بـ حي النشامى !!!
!!!
من جهتي أظن أن عمان قد حرمت من الماء والخضرة , وهي بيقين لن تتسم بما تتسم به دمشق جنة الدنيا .
إلا أنهم أثروا فيّ باحترامهم ومحبتهم ونشامتهم ..
حيّ النشامى من إخواننا في الأردن !
وحيّ النشامى ممن يسير على درب الحق !!!