التجديد في مباحث الأحوال الشخصية 1
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد..
فإن مباحث الأحوال الشخصية من أكثر جوانب الفقه الإسلامي نماءً في الدور الأخير للفقه الإسلامي، جاء ذلك نتيجة لعوامل عدة، وأثمر هذا النماء عن تجديد ما في الشكل والموضوع لهذه المباحث.
مشكلة الدراسة:
1. جاءت هذه الدراسة لتتناول الأسباب والعوامل التي كانت وراء نماء مباحث الأحوال الشخصية, والآثار التي ترتبت على هذا النماء، ومدى انسجامها مع روح الشريعة الإسلامية ومقاصدها العامة، وقيامها على أصولها المقررة.
2. الرّد على شبهة استغلها عدد من المستشرقين، توصلوا من ملاحظة النماء في مباحث الأحوال الشخصية إلى إمكانية إخراج الفقه الإسلامي من ثوبه الذي هو فيه، بل خروجه كلياً عن الأصول التي قام عليها وللرد على هذه الفرضية، تناولت الدراسة ضوابط التجديد في مباحث الأحوال الشخصية وأشارت إلى عدد من مواطن الخروج عن الأصول المرعية فيها، وهي قليلة.
3. ومن جانب آخر، تعالج هذه الدراسة ملامح الفقه الإسلامي في الدور الأخير، وبروزها في مباحث الأحوال الشخصية، كالاستفادة من المذاهب الفقهية، والتقنين. وهي بهذا تصلح مثالاً تطبيقياً على ملامح الفقه المعاصر، والذي يحتاج إلى مثل هذه الدراسة.
أهداف الدراسة:
تهدف هذه الدراسة إلى:
1. استخلاص قواعد التجديد، وأسبابه، وضوابطه في مباحث الأحوال الشخصية.
2. تحديد أساليب التعامل مع المشكلات التشريعية ومناهجها في مباحث الأحوال الشخصية.
3. الربط بين العوامل العامة والخاصة، وآثارها في التجديد على مباحث الأحوال الشخصية.
4. التمييز بين التبديل والتحريف للأحكام الشرعية من جهة، والتجديد في إعادة الصياغة ووضع الحلول للمستجدات في مباحث الأحوال الشخصية من جهة أخرى، والتحذير من الانسياق وراء الدعوات المغرضة، والمشبوهة.
أهمية الدراسة:
تنبع أهمية هذه الدراسة من أنها:
1. تعطي أنموذجاً لحياة المسلم، ومواكبة الأحكام الشرعية، لما يواجهه من مستجدات وأثرها على حياته الخاصة.
2. تدرس التجديد، فتبين بعض صوره، وأشكاله، وإيجابياته، وسلبياته.
3. تخدم رجال الشريعة والقانون في محاولاتهم المستمرة لتطوير قوانين الأحوال الشخصية والاستجابة للمستجدات التي تحدث.
4. تعطي أنموذجاً يمكن تطبيقه على جوانب أخرى من الفقه، ودراسة للتجديد فيها، وأسبابه وآثاره، ومدى انضباطه بالأصول التي يبنى عليها الفقه.
فرضيات الدراسة:
تقوم هذه الدراسة على الفرضيات الآتية:
1. إن التجديد في مباحث الأحوال الشخصية – محل الدراسة – نشأ في ظل مجتمعات لا تحتكم غالباً إلى شريعة الإسلام.
2. إن هذه الدراسة فرع من فروع علم تاريخ الفقه الإسلامي المعاصر، فهي دراسة تاريخية تحليلية.
3. إن التجديد في مباحث الأحوال الشخصية موجود علمياً في جانب الاجتهاد في المسائل المستجدة وفي الجانب الشكلي، وفي القناعة الحية للمسلمين بالاحتكام إلى الشرع الإسلامي، ويمكن اعتبار التغيير والانتقال من مذهب إلى آخر نوعاً من التجديد.
الجهود السابقة، ومراجع الدراسة:
ظهرت مئات الدراسات في الأحوال الشخصية، وارتبطت هذه الدراسات بما هو مطبق في بلد صاحب الدراسة، وبالحقبة التاريخية التي كتب فيها، والتغير في التناول بين عالم وآخر أمر يعتمد على سعة اطلاعه، ومنهجه في البحث، وهدفه منه، لكن الملاحظ أن تعابير الدارسين، والمسائل المطروحة للبحث، تنبئ أحياناً عن الفترة التاريخية التي كتب فيها.
لقد استفدت من دراسات كثيرة في هذا المجال منها:
1. قوانين الأسرة بين عجز العلماء وضعف النساء، للدكتور سالم البهنساوي، طباعة دار آفاق الغد، القاهرة، ط1/1980م.
2. في منهجية التقنين، للدكتور محمد كمال الدين إمام، دار المطبوعات الجامعية/الاسكندرية، 1997م.
ومن المقالات:
1. اختيار مدونة الأحوال الشخصية، للدكتور عبدالسلام العسري، مجلة دار الحديث الحسينية، العدد 8، سنة 1410 هـ - 1990م.
2. التشريع الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري (دراسة ونقد)، للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، مجلة كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة الملك عبدالعزيز بمكة المكرمة، العدد الأول، السنة الأولى/ 1393هـ - 1394هـ.
مصطلحات الدراسة:
استخدمت هذه الدراسة عدة مصطلحات، منها: الأحوال الشخصية، التجديد، أما الأحوال الشخصية، فيراد بها: "الأوضاع التي تكون بين الإنسان وأسرته، وما يترتب على هذه الأوضاع من آثار حقوقية، والتزامات أدبية أو مالية"(1).
وأول من استعمل هذا المصطلح من علماء الإسلام(2)هو محمد قدري باشا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي إذ سمى أحد كتبه بـِ "الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية"(3) ويتكون من 647 مادة ويدخل في هذا المصطلح أقسام ثلاثة:
1. أحكام الزواج، وما يترتب عليه من مهر، ونفقه، ونسب، ورضاع، وطلاق، وعدة وغيرها.
2. أحكام الأهلية، والحجر، والوصايا على الصغير وغيره، والوصية وأنواعها.
3. أحكام الإرث وما يتعلق به(4).
وكانت كتب الفقه تتناولها في مباحث مستقلة، وجاءت غير متتابعة من حيث الترتيب في تبويبات هذه الكتب.
خصائص مباحث الأحوال الشخصية:
ومباحث الأحوال الشخصية لها الخصائص الآتية:
1. بنيت معظم أحكامها على النصوص، بمعنى كثرة النصوص التفصيلية فيها، ففيها سبعون آية(5)، ومئات الأحاديث، واستناداً إلى هذه الخاصية، فمجال الاجتهاد في تطبيقها أوسع في مجال الاجتهاد في معالجة المستجدات منها.
2. تعتبر من النظام الشرعي العام الذي لا يترك للأفراد حرية الالتزام به، أو عدمه، وإن جاز لغير المسلمين أن يلتزموا في الأحوال الشخصية وفق دياناتهم، إلا أنه لا يجوز للمسلمين أن يتفقوا على خلاف ما هو منصوص عليه في أحكام الأحوال الشخصية(6).
3. حظيت مباحث الأحوال الشخصية بالتطبيق في الوقت الذي استعيض عن الأحكام الشرعية بأحكام وضعية في الجوانب الأخرى من الفقه الإسلامي في معظم الدول الإسلامية وترتب على تطبيقها استمرارها ونماؤها، وحلها لما يعترض التطبيق من مشاكل واستفادتها من التغيرات الاجتماعية والعلمية التي تحصل.
4. حظيت مباحث الأحوال الشخصية بالتطبيق في حركة مستمرة، تأثرت بالمذهب السائد في كل بلد واستنبط عدد كبير من مواد قوانين الأحوال الشخصية من المذهب السائد، وإن خرجت عنه جزئياً، إلاّ أن النص على الأرجح من المذهب السائد في المسائل التي لم ينص عليها رسخ الالتزام المذهبي، في الوقت الذي استفاد التقنين من المذاهب الأخرى جزئياً، وفي بعضها ازدواجية فقهية بين مذهبين، ومحاولة توفيق بينهما وبين رغبة المدعي(7).
5. أعادت الجمع بين مواضيع فقهية متباعدة في الفقه، لتجعل منها موضوعاً واحداً وعظمت الجوامع بين هذه المواضيع، على أن ما يدخل في صلاحيات المحاكم الشرعية قد يتجاوز مواضيع الأحوال الشخصية، ليأخذ ماله صبغة دينية، كالدية، والردة – في جانب تعلقها ببطلان الزواج، لا إقامة الحد، والهبة، والوقف، ودخل عدد من الحدود في ولاية المحاكم الشرعية، كما في دولة الإمارات(8).
6. تفاوتت قوانين الأحوال الشخصية في شمولها لمفردات الأحوال الشخصية، فالقانون السوري شامل لكافة جوانب الأحوال الشخصية، وقانون الأحوال الشخصية الأردني لم يتناول كل مسائل الإرث.
كما تتفاوت هذه القوانين في السبق لمعالجة عدد من القضايا المستجدة، وحلّ المشاكل الناجمة عن تطبيق نصوص سابقة.
7. تدريسها في كليات الشريعة والقانون، وظهور المحاماة الشرعية.
8. تعرضت لهجمة شرسة من غير المتدينين، وبخاصة من النساء، ومع ذلك بقيت هذه القوانين – على الرغم من كل محاولات الهدم فيها -، لانسجامها مع الفطرة كونها مستمدة من النصوص الموحى بها من خالق البشر، الأعلم بما يناسبهم، ويصلحهم.
أما التجديد في مباحث الأحوال الشخصية، فيراد به معان أربعة، هي:
الأول: بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بالمستجدات من مفردات هذا العلم، كإجراء عقد النكاح بوسائل الاتصال الحديثة، فيكون التجديد هنا رديفاً للاجتهاد – المصطلح الشرعي المعروف.
ثانياً: تبديل الأحكام الشرعية الثابتة في مباحث الأحوال الشخصية، والخروج عليها، وتغييرها استجابة لضغط الواقع، ولتتناسب مع أهواء البشر، كمنع تعدد الزوجات، ومنع الطلاق إلا بإذن القاضي، وهذا ليس من التجديد في شيء، بل هو هدم، والتجديد بناء وهذا تجاوز عن الإسلام، و التجديد انطلاق مرتكز على مبادئ الإسلام.
ثالثاً: إعادة عرض مباحث الأحوال الشخصية من حيث التبويب، والصياغة، وهو التجديد الشكلي، الذي يراعى فيه الأيسر والأقرب للناس، على اختلاف ثقافاتهم، كتقنين مباحث الأحوال الشخصية، وهو تجديد مطلوب مخاطبة للناس على قدر عقولهم.
رابعاً: إحياء الإسلام في نفوس أتباعه، وبيان ما يتعلق بالأحوال الشخصية من أحكام شرعية ليعملوا بها، وهذا تجديد في المسلمين، بعد أن مضت عليهم حقب من الزمان فترت فيها هممهم عن طلب العلم الشرعي، وبخاصة أحكام الإرث، والناس أحوج ما يكونون إلى تجديد من هذا النوع، وفي هذا المضمار تستخدم وسائل عدة، كتناول مسائل الأحوال الشخصية من منظور نفسي، أو اجتماعي، أو إحصائي أو مقارنتها مع غيرها من الأنظمة المشابهة لتحقيق الطمأنينة والقناعة فيها لدى المسلم.
وخلاصة القول، إن معان ثلاثة تدخل في اهتمامات هذه الدراسة، سوى التجديد بمعنى التبديل والتغيير، والذي رفضه أبو المجد بقوله: "التجديد لأمر الدين ومكانته، وسلطانه ليس تجديداً للدين نفسه"(10). ذلك لأن عناصر الثبات في الدين أمر في غاية الأهمية، وإلا تلوّن الدين بحسب أهواء الناس، وفي مباحث الأحوال الشخصية كان من أدلة الثبات التي يبنى عليها التجديد ما يأتي:
?أ. قيام هذه المباحث على نصوص كلّية، وأخرى تفصيلية، انبنى عليها قواعد عامة لا يخرج التجديد عن دائرتها.
?ب. المرجعية الثانية واضحة، فالإحالة على الراجح من المذهب السائد مادة تراها في قوانين الأحوال الشخصية تربط الجديد وما لم يذكر في القانون، بالراجح من المذهب السائد، والذي يستند إلى أصول وقواعد ثابتة معروفة أيضاً.
?ج. ارتكاز التجديد على مصالح الأمة، ومن قبل علمائها المتمكنين في فهم مبادئها المنطلقين من أصول هذا الدين وقواعده، استلهاماً لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها"(11).
خطة الدراسة:
تحتوي هذه الدراسة على مقدمة، وهي التي بين يديك، وتمهيد، وثلاثة مباحث، على النحو التالي:
المبحث الأول : العوامل المؤثرة على التجديد في مباحث الأحوال الشخصية.
ويحتوي على مطلبين:
المطلب الأول: العوامل العامة.
المطلب الثاني: العوامل الخاصة
المبحث الثاني : أنواع التجديد في مباحث الأحوال الشخصية، وملامحه
ويحتوي على مطلبين:
المطلب الأول: التجديد الشكلي.
المطلب الثاني: التجديد الموضوعي.
المبحث الثالث: آثار التجديد في مباحث الأحوال الشخصية، وضوابطه.
ويتكون من مطلبين:
المطلب الأول: آثار التجديد على مباحث الأحوال الشخصية.
المطلب الثاني: ضوابط التجديد في مباحث الأحوال الشخصية.
الخاتمة والتوصيات.
المرجع والفهرس.
*****************************************
المبحث الأول
العوامل المؤثرة على التجديد في مباحث الأحوال الشخصية
المطلب الأول: العوامل العامة
ويراد بها العوامل التي كان لها تأثير على مباحث الأحوال الشخصية وغيرها أتناولها في الفروع الآتية:
الفرع الأول: التطور العلمي
إن التسارع المضطرد في الابتكارات العلمية، وغزارة الدراسات الاجتماعية والطبية وغيرها، مكن البشرية من الوصول إلى كثير من الحقائق التي كانت تجهلهها في السابق، وفي جانب مباحث الأحوال الشخصية، كان للتطور العلمي أثر جلي فيها.
يبدو واضحاً في مسألة أطول مدة الحمل التي كان للاستناد إلى الحقائق العلمية دور في ترجيح مدة دون غيرها، ذلك أن مدة الحمل المنصوص عليها في كتب الفقه اعتمدت على التجربة والسماع، وعادات الشعوب التي عاش فيها الفقهاء الأجلاء، وورد فيها خمسة أقوال هي: سنتان، وأربع سنوات، وخمس سنوات، وسنة قمرية، وتسعة أشهر، ثم أخذ عدد من قوانين الأحوال الشخصية بأنها سنة شمسية(12).
قال الزحيلي: "وقد رئي في القوانين المعمول بها الاعتماد على رأي الأطباء، فاعتبر أقصى مدة الحمل سنة شمسية (365 يوماً)، ليشمل كل الحالات النادرة"(13).
وساعد التطور العلمي في ظهور مسائل تحتاج إلى بيان الحكم الشرعي الذي يناسبها ففي باب النسب إضافة إلى الحل والحرمة – ظهرت مسألة أطفال الأنابيب، وفي الرضاع ظهرت بنوك الحليب، وغير ذلك.
الفرع الثاني: الوضع السياسي والاجتماعي
حكمت الدولة العثمانية بالشريعة الإسلامية، مختارة المذهب الحنفي في تطبيقها، ثم أزيلت الدولة العثمانية وحل محلها في كثير من البلاد الإسلامية احتلال من قبل الدول الكافرة التي أقصت تطبيق الشريعة الإسلامية، وأبقت على الأحوال الشخصية، لأسباب سيأتي ذكرها.
ولكنها ما فتئت تكون التوجهات العامة للمجتمع ليخرج بعيداً عن دينه(14) غير مكترث بالحلال والحرام، فانعكس ذلك على فهمه لدينه، وعلى مدى التزامه بتطبيقه على الوجه الصحيح وتأثر المسلمون بأخلاق المحتل وغدا التفتك الأسري والتشرد، وضياع الهوية سمات تظهر في الأسرة المسلمة بنسبة ما، وإن كانت غير مماثلة للأسرة في المجتمع الغربي إلا أن وجودها على ضآلته كوّن مشكلة اجتماعية تنذر بالخطر.
وعلى الصعيد السياسي، استقلت الدول الإسلامية، إلا أجزاء قليلة – إلا أن هذا الاستقلال السياسي بقي متأثراً بمفاهيم المحتل الأجنبي، وثقافته في كثير من الجوانب، واختيرت الطبقة الحاكمة من الطبقة المتأثرة بثقافة غير إسلامية.
وما برح الوضع عن مكانه، فأصبح التوجيه العام يلامس المشاكل في كل الجوانب ويبحث عن حلول الخارج، ويتخلى عن تطبيق الشريعة في جانب السلوك الفردي، والنظام الاجتماعي، والنظام العقابي.
فالزاني يزوج من المرأة التي ارتكب معها المعصية، بدل أن يأخذ جزائه الذي يستحق وتتكون أسرة قامت على غير أساس متين، ولم تقره أحكام الشريعة في الأحوال الشخصية و في غيرها، ثم تتابع المشاكل الأسرية، وتحلّل فيما بعد على أنها ثمار لتطبيق الأحوال الشخصية المستمدة من الشريعة الإسلامية، وهي منها براء.
والمثال السابق على قلة نسبة حصوله في المجتمع، إلا أنه يشير إلى إفرازات المجتمعات التي لم تطبق شرع الله في كل جوانب حياتها، والخلل الذي ينتابها، وبعد ذلك يطلب الحل من تشريع لم تكن هذه المشاكل ثمرة لتطبيقه، وليس هذا فحسب، بل يعاب عليه وجود هذه المشاكل، وهو منها براء، ويطالب بتغييره، وتبديله، أو تطويره للتخفيف من غلواء هذه المشاكل دون النظر إلى العوامل التي سببتها.
أضف إلى المثال السابق: التربية والتنشئة الاجتماعية التي غلّبت جانب المادة على القيم الدينية، فأصبح التغالي بالمهور، والزواج من أجل المال والجمال والنسب، يقدّم على الزواج من أجل الدين، هذا عند من يتبنون مثل هذه الأفكار، وما مشاكل الزواج والطلاق إلا في عقر دارهم.
فكيف تتحدث عن طاقة الزوجة لزوجها، والثواب الأخروي الذي ينتظرها، وكيف تتحدث عن خيرية الرجل لأهله اقتداءً بالرسول – عليه السلام – وكذا قوامته في مثل هذا المجتمع.
وفي المقابل ظهر في المجتمع من يلتزمون بمبادئ الإسلام، وينادون بتطبيقه، وأعطوا مثالاً للاقتداء، ولا تزال أعدادهم تتزايد – بحمد الله.
وعلى مستوى المجتمع والدولة، ظهرت توجهات تسعى لحماية الأسرة من غوائل المفاسد الاجتماعية التي أفرزتها الحضارة الوافدة، وتضع البدائل والحلول المفيدة، سواء كان ذلك بنشر الكتب والمجلات المتعلقة بالسعادة الزوجية، أم بعقد الندوات والمؤتمرات، أم بوضع العقوبات لمن يخطف طفلاً، أو يفسد العلاقة الزوجية... الخ.
والصراع بين الخير والشر مستمر، فكلما نجح أحدهما في جانب، ظهر ما يعيقه دون ذلك، وكان التغيير لصالح الخير بطيئاً، ذلك أنه مرتبط بمجتمع، وليس بفرد، وتخلي المجتمع عما اعتاده، مما تأباه النفوس، ولا تتقبل كل جديد إلا بصعوبة، مما يستلزم جهوداً أكبر في هذا المضمار.
يقول الشيخ أحمد إبراهيم: "ومع وضوح الأمر وجلائه، عدلت وزارة الحقانية عن الأخذ بغير المذاهب الأربعة، مراعية في ذلك الحالة النفسية والعقلية للأمة، وأنا على غير هذا الرأي، إذ الطبيب الحازم لا ينبغي أن يزعجه تململ المريض الذي فيه شفاه"(15).
ومن دواعي التجديد وأسبابه، تلك العادات والأعراف التي جاءت القوانين لتخفف من غلوائها، وتعيد الأمور إلى نصابها، كمنع الأب البنت من الزواج "العضل"، فأخذت بعض قوانين الأحوال الشخصية بجواز تزويج البنت نفسها منعاً من تحكم الأولياء(16).
الفرع الثالث: الاحتكار الحضاري
تلاقي الحضارات، وتعارف الشعوب سنة بشرية تنتهجها المجتمعات، فيتأثر الضعيف بالقوي، والمغلوب بالغالب، وتتفاعل لتنتج مزيجاً جديداً، وأحياناً تنجح نظرية العملة الرديئة في طرد العملة الجيدة، وأحياناً أخرى تظهر نماذج جديدة تحل محل القديم في آلية مستمرة.
هذا وإن صلح في جوانب الحياة العلمية الدنيوية، فإنه لا يقبل في الجوانب الاعتقادية، أو المرتبطة بها، كمباحث الأحوال الشخصية. ومع ذلك فإن الاحتكار الحضاري، والتأثر بما عند الغير من أفكار، كان وراء عدد من التعديلات التي حصلت على مباحث الأحوال الشخصية المطبقة(17).
يقول فرج: "والخطير في الأمر أن الذين نادوا بتعديل قانون الأحوال الشخصية، نادوا به تلبية لمفاهيم غير إسلامية، فدعوتهم كانت استجابة لميولهم إلى تقليد الأمم الأوروبية في هذا الاتجاه، أو تجنباً لاتهام الغربيين لهم بالتخلف لأن شريعة الإسلام تبيح تعدد الزوجات والطلاق، ولو كان ذلك للمصلحة. "فقد حدث في دورة ثقافية لسيدات السلك السياسي أن صرخت إحدى الزوجات في المؤتمر قائلة: إن أول وأهم ما يحرجنا في الخارج ويجرح كرامتنا، ما يوجّه إلينا من اتهام بلادنا العربية بالتخلف عن ركب الحضارة، وعلى الأخص في قوانين الأسرة، حيث يبيح الإسلام للرجل أن يعدد زوجاته الأمر الذي يعتبر جريمة كبرى تعاقب عليها القوانين الغربية، كما يبيح الإسلام أن يطلق زوجته كيف يشاء ومتى يشاء!!!!!!".
ومن هنا كانت حجج المطالبين بالتعديل وتبريراتهم مبنية على حتمية استنباط أحكام تتمشى مع روح العصر(18). فالتعديل الذي حدث في قوانين الأحوال الشخصية وما يطالب بتغييره منها جاء تلبية واستجابة لتقاليد الأمم الأخرى. ومهد له مهاجمة علماء الاجتماع الغربيين لنظام الأسرة في الإسلام في موضوع تعدد الزوجات والطلاق(19).
وتجاوب عدد من أبناء المسلمين معهم بتبني آرائهم في دراساتهم أو اقتراحاتهم للتصحيح والنهضة يقول الكوثري" ونرى اليوم بعض هؤلاء لا يهدأ لهم بال قبل أن يقضوا على البقية الباقية في المحاكم من الشرع باسم الشرع من مخاتلة مسايرة منهم للمرضى، ومتابعة لأهواء المستغربين من أبناء الشرق في حين أننا كنا نأمل من حلول عهد استعادة الحقوق كاملة غير منقوصة أن يعاد النظر في الأنظم كلها وأن يصلح ما يحتاج بمدد الفقه الإسلامي كما هو جدير بحكومة بيدها زعامة العالم الإسلامي(20)".
ويبين السباعي تأثر قانون الأحوال الشخصية بالقوانين الغربية في مسألة تحديد سن الزواج، فيقول : "وليس لهذا التحديد مستند من آراء الفقهاء، ولكنه أخذ عن القوانين الغربية وللغربيين بيئتهم، وأوضاعهم الخاصة"(21).
وساهم المستشرقون وتلاميذهم بحظ وافر في زعزعة الثقة بالأحكام الشرعية في مباحث الأحوال الشخصية، والعمل على تغييرها ولو تدريجياً. "فهذا الدكتور منصور فهمي يكتب أطروحة بعنوان (وضع المرأة وتطوراتها دا خل التقاليد الإسلامية) ينال بها درجة علمية في إحدى الجامعات الفرنسية سنة 1913م، ينهج فيها منهج النقد التاريخي العلمي المتحرر من الالتزام بحقيقة الوحي في تفسير سلوك النبي وعلاقاته وتشريعاته"(22).
وتستمر الحملة، فيظهر سلمان رشدي، ويكتب آياته الشيطانية ليطعن في واحدة من خصوصيات الرسول – عليه السلام – بتزوجه بأكثر من أربع نساء. وتتابعه نسرين البنغالية، ويفرض العالم حراسته لمن يهاجم الإسلام، ويتهكم بمبادئه وأحكامه، ليفرض وجهة نظر الغرب بكل الأساليب الخبيثة التي يمتلكها.
وتجدر الإشارة هنا إلى تفوق النظام الإسلامي بكل جوانبه على ما لدى الآخرين من أنظمة، وما أعطته الأحكام الشرعية للمرأة يفوق ما أعطته القوانين والأنظمة في دول الغرب وصرح بذلك الكثير، فالزواج في الغرب الذي يلغي اسم عائلة المرأة، ويقلل من أهميتها، لا تقره الأحكام الشرعية، ولا تعترف به.. الخ"(23).
الفرع الرابع: حركات تحرير المرأة والتنظيمات النسائية
بدأت حركات تحرير المرأة في العالم الإسلامي تقليداً للغرب، وثمرة للاحتكاك الحضاري به، (إلا أن إفرادها بالبحث كان للحجم الكبير التي أحدثته في التغيير في مباحث الأحوال الشخصية).
وقد بدأت هذه الحركات تظهر في العالم الإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين، وتبني رجال الدفاع عن المرأة، والمطالبة بحقوقها أيضاً، وكانت هنالك قضايا هامة تبنتها هذه الحركات، والتنظيمات النسائية أثمرت تحسيناً في وضع المرأة ورفع الجهل والظلم عنها.
ولا يهم هنا التأريخ لهذه الحركات والتنظيمات، بقدر ما يهم إبراز الجوانب التي طالبت بها هذه الحركات، وتأثر قوانين الأحوال الشخصية بها في تغييراتها المتلاحقة، وهذه جملة من المطالب التي نادت بها فيما يتعلق بمباحث الأحوال الشخصية:
1. إصلاح تطبيق القوانين الخاصة بالزواج(24).
2. وقاية المرأة من الظلم الذي يقع عليها من تعدد الزوجات(25).
3. وقاية المرأة من الظلم الذي يقع عليها من الطلاق(26).
4. رفع سن الزواج(27).
5. رفع سن حضانة الأم للولد(28).
6. ربط نفقة المرأة ومتعتها بعدد السنين التي قضتها المرأة في خدمة الرجل(29).
7. تعديل ميراث البنت الوحيدة، ليصبح كل التركة(30).
ومما يذكر على سبيل التندر، أن هنالك مطالب غاية في السوء، ولم تأت لصالح المرأة بل لتدميرها، وهدم الأسرة جميعها أيضاً، ومنها:
1. إلغاء مفهوم الأسرة، ولذلك كثر التفريق بين مصطلح النوع والجنس ليكون مدخلاً لجواز زواج الرجل بالرجل، والاعتراف بذلك دولياً(31).
2. تقرير الإباحية الجنسية، بالسماح بممارسة الفاحشة بعد سن السادسة عشر من عمر البنت وليس لوالديها عليها أي ولاية، ومعاقبة كل من يعترض على ذلك(32).
3. الدعوة إلى سن القوانين للتعامل مع حمل السفاح لتكون وثيقة دخول الحامل المستشفى هو كونها حاملاً دون أدنى مساءلة حول حملها من غير زوج، ثم تخير الفتاة بين رغبتها في الإجهاض، أو إن شاءت تبقيه فتُلزم سلطات الرعاية الاجتماعية برعايتها، وإن لم ترد رعايته فتدفع به لدور الرعاية(33).
4. المطالبة بتعدد الأزواج، ونسبة المولود إلى الأم بدلاً من الأب(34).
والمتتبع للمؤتمرات العالمية في مجال السكان، والنشاط المحلي في كل دولة يلحظ التوجهات العامة المنافية لمبادئ الإسلام، والسعي الحثيث نحوها ولو تدريجياً، توخياً لتحقيق الأهداف دون الاصطدام بردود الفعل التي ستذوب مع الزمن وفق مخططاتهم بنظرهم.
المطلب الثاني : العوامل الخاصة
الفرع الأول: طبيعة مباحث الأحوال الشخصية
لقد استعيض عن الأحكام الشرعية بأحكام وضعية في العقوبات وغيرها ولكن طبيعة مباحث الأحوال الشخصية حالت دون استبعادها من التطبيق لأسباب منها:
1. الصلة الوثيقة بين نظام الأسرة والعقيدة، من حيث الحل والحرمة، وعلاقته الوطيدة بحياة الإنسان من زواج، ونسب، وميراث.....، مما جعل أمر استبداله بشرعة لا دينية أمراً مستعصياً.
2. تكامل نظام الأسرة في الإسلام، وشموله لحياة الفرد وأحواله مما قبل الولادة إلى ما بعد الموت، وتناوله لمختلف أوضاع الناس وأحوالهم، ومراعاته لمصالح الفرد والمجتمع على سواء.
3. وجود مدونات ومشروعات قوانين متكاملة ومصاغة بصورة عصرية في معظم الأمصار العربية، والإسلامية، مما سهل الاطلاع على القواعد والنظم الإسلامية في مجال الأسرة على الطريقة القانونية الحديثة"(35).
ولطبيعة مباحث الأحوال الشخصية الخاصة، لم تتناول مسائلها المجامع الفقهية(36) الكبرى سوى مجمع الفقه الإسلامي في الهند، الذي تناول عدداً منها(37).
بينما كان حجم المسائل المتعلقة بمباحث الأحوال الشخصية كبيراً نسبياً في كتب الفتاوى(38)، ويكاد يكون العمل اليومي للمفتين هو الرد على فتاوى في مباحث الأحوال الشخصية وبخاصة الطلاق، وتأتي مسائل العبادات في المرتبة الثانية، أما المسائل الأخرى فقليلة(39).
وسبقت الإشارة إلى جوانب أخرى في طبيعة مباحث الأحوال الشخصية، وهي شمولها بالنصوص الشرعية التي تناولتها(40)، يقول عقلة: "ويلاحظ أن أغلب أحكام الأسرة جاءت مفصلة، مما يعني أنها لا تقبل التغيير أو التبديل إلا في نطاق ضيق"(41).
إن طبيعة مباحث الأحوال الشخصية وإن كانت متسمة بالثبات فإنها لم تحل دون تجديدها بما يتفق وفهم النصوص والالتزام بأحكامها والعمل على تطبيقها لتحقيق الغايات التي شرعت من أجلها هذه الأحكام.
الفرع الثاني: التحرر من الالتزام المذهبي في مباحث الأحوال الشخصية
"استمد القضاة والمفتون أحكام الأحوال الشخصية من الكتاب والسنة، وفتاوى الصحابة، وما أداه إليه اجتهادهم، إذ لم يكن يلي القضاء إلا فقيه مجتهد، ثم صارت الكتب الفقهية مرجعاً للقضاة منذ تولّي القضاء أبو يوسف، صاحب أبي حنيفة في سنة 136هـ، ولم تمنع ذلك من الاجتهاد في المسائل المستجدة، والترجيح بين الآراء المختلفة في المذهب، إلا أن الطابع العام تحول إلى التزام مذهبي، سواء كان مذهبي أبي حنيفة أم غيره(42).
ومع تجدد الأعراف، وتبدل وسائل العيش، وتطور أساليب الحياة احتاجت بعض الأحكام التي بنيت على الأعراف المتغيرة، والمصالح المتجددة، احتاجت إلى تغيير صعبت الاستجابة له، مع الالتزام المذهبي الذي وجه إليه انتقادان:
"الأول: شكلي، وهو أن القضاة كانوا يعتمدون في أقضيتهم على قانون غير مسطور لم تدون مواده، ولم تجمع فروعه تحت كليات جامعة، وترك للقضاة أن يبحثوا عن أرجح الأقوال في المذهب، وأرجح الأقوال منشور في بطون الكتب، ولم يجمع المصنفون على أرجحية الكثير منها، فقد يرجح مؤلف ما لا يرجح آخر.
أما العيب الموضوعي، فهو أن العمل بمذهب أبي حنيفة – وهو المذهب الأوسع تطبيقاً – قد كشف عن مسائل ليس في الأخذ بها ما يتفق وروح العصر، وفي غيره من المذاهب ما يوافق روح العصر أكثر منه، وليس في ذلك قدح لأبي حنيفة وأصحابه، والمخرجين في مذهبه، فإنهم مجتهدون متأثرون بأزمانهم، والفتاوى إذا لم تعتمد على نص تكون أقيستها مستمدة من حكم العرف في كثير من الأحوال، وأن الاجتهاد في هذه الحال رأي، والرأي يخطئ ويصيب....".
لهذين العيبين اتجه المصلحون، وذوو الرأي، وأولو الأمر إلى العمل على تسطير قانون للأسرة، يستنبط من المذاهب الأربعة المشهورة، ويختار منها بحيث يؤخذ من كل مذهب ما يكون أصلح للناس، وأقرب لروح العصر(43) "شريطة أن يكون موافقاً للدليل أيضاً.
الفرع الثالث: المشاكل الناجمة عن التطبيق العملي لمباحث الأحوال الشخصية
كان لتطبيق مباحث الأحوال الشخصية أثر كبير على تجديدها، فحيثما وجدت مشكلة لا تتناولها القوانين المعمول بها، اقترح وضع ما يغطي هذه المشكلة، فحصل التجديد.
وحيثما ظهر – لتطبيق مادة ما – صعوبة في التطبيق، أو تعددت الأفهام حولها، جاء التعديل الجديد ليضع حداً للاختلاف، وينقل القانون إلى صياغة أمثل تساعد في ضبط التطبيق نحو الأفضل.
أولاً: لما وجدت مشكلة كثرة المفقودين، والغائبين عن زوجاتهم بالسجن، أو بالسفر(44) أو الهجر نتيجة لتطبيق المذهب الحنفي المعمول به في كثير من الأقطار الإسلامية والذي لا يعطي المرأة حق طلب التفريق لهذه الأسباب جاء التعديل في قوانين الأحوال الشخصية لتأخذ برأي جمهور الفقهاء الذي يعطي المرأة حق طلب التفريق لهذه الأسباب فخلص هؤلاء النسوة من طول الانتظار، ورفع عنهن الضرر وهو ما نصّت عليه المادة 123 من قانون الأحوال الشخصية الأردني والمادة 110 من قانون الأحوال الشخصية العماني، والمواد 12 ، 13، 14، من قانون الأحوال الشخصية المصري رقم 25 لسنة 1929، والمادة رقم 109 من قانون الأحوال الشخصية السوري، والمادة 41 من القانون الليبي والمادة 136، 137 من القانون الكويتي والفصل 57 من مدونة الأحوال الشخصية المغربية، والمادة 112 من القانون الموحد للأحوال الشخصية.
ثانياً: ولما وجدت مشكلة كثرة دعاوى الزوجات بعدم الإنفاق وهنّ لا يملكن طلب فسخ عقد الزواج بسبب الإعسار بالنفقة في ظل تطبيق المذهب الحنفي الذي لا يجيز ذلك، وثمرة للتطبيق العملي ظهرت هذه المشكلة فجاء التعديل في قوانين الأحوال الشخصية ليأخذ برأي جمهور الفقهاء الذي يعطي المرأة حق طلب فسخ عقد الزواج بسبب الإعسار بالنفقة وهو ما نصت عليه المادة 127 من قانون الأحوال الشخصية الأردني والمادة 110 من قانون الأحوال الشخصية السوري والمادة 120 من قانون الأحوال الشخصية الكويتي والمادة 43 من قانون الأحوال الشخصية العراقي والفصل 53 من مدونة الأحوال الشخصية المغربية والمادة 111 من القانون الموحد للأحوال الشخصية.
ولما كثرت دعاوى الزوجات بعدم الإنفاق عليهن لمدد طويلة سابقة يصعب إثباتها أحياناً، جاء التعديل في قوانين الأحوال الشخصية ليحد من مثل هذه الدعاوى بتحديد المدة السابقة التي يحكم للمراة فيها بالنفقة. فهي إما من تاريخ تقديم الطلب لا قبل ذلك كما هو في المادة 76 من قانون الأحوال الشخصية الأردني والمادة 46 من قانون الأحوال الشخصية العماني، أو لمدة لا تزيد عن أربعة أشهر قبل الادعاء كما في المادة 78 من قانون الأحوال الشخصية السوري، أو لمدة لا تزيد عن سنة قبل تاريخ الإدعاء كما في المادة 2 من القانون المعدل لقانون الأحوال الشخصية المصري رقم 44 لسنة 1979م.
وفي التطبيق تحددت إجراءات معينة عند كل قضية ، وصدرت طرق لإثباتها، كان لها أكبر الأثر على الأحكام الشرعية في مباحث الأحوال الشخصية. والإجراءات والمرافعات هذه أضيف إليها ظهور المحاماة الشرعية التي سهلت في جانب، وساعدت أحياناً في تمزيق الأسر في جوانب أخرى لتحقيق مردود مادي مجدي للمحامين. وكان لتقسيم الأراضي إلى أميرية، وغير أميرية آثار انعكست على تقسيم الإرث في الأردن إلى أن ألغي هذا التقسيم – ولله الحمد(45).
وساعد عدد من النصوص التي جاءت لتحل مشكلة ما في خلق مشكلة أخرى فالنصوص التي جاءت لتعالج الإضرار بأحد الزوجين، بما يسمى بقضايا الشقاق والنزاع أوجدت حالة من كشف الأسرار الزوجية، بل الأسوأ منها النصوص القانونية التي جاءت لتعطي الزوجة تعويضاً عن الطلاق التعسفي، أدت إلى اختلاف الزوج في زوجته ما ليس فيها للهروب من دفع هذا التعويض(46).
وفي نصوص القوانين التي جاءت تعالج موضوع الطاعة الزوجية، وربطت بينها وبين النفقة فمن القوانين من أعطت الزوج حق إدخال الزوجة إلى بيت الطاعة، ولو جبراً، ومنها – وهو الغالب – من رتبت على عدم الطاعة سقوط النفقة ليس إلا، وأضيف إليها اعتبار عدم الطاعة من المضارة بالرجل، ففي لائحة ترتيب المحاكم الشرعية المصرية الصادرة سنة 1929م، نصت المادة (345) على ما يلي "بأن ينفذ حكم الطاعة جبراً، ولو أدى إلى استعمال القوة ودخول المنازل"(47)، ونصت المادة (346) على ما يلي "يعاد تنفيذ الحكم بالطاعة على الزوجة ما دامت زوجة"(48).
ثم ألغي ذلك سنة 1956م، فنصت المادة (84) "لا يجوز تنفيذ حكم الطاعة جبراً عن طريق الشرطة، ويعتنبر امتناعها عن تنفيذ حكم الطاعة بدون وجه حق، مضارة للزوج، كما يترتب عليه سقوط حقها في النفقة"(49)، وسميت بالناشز في القانون الأردني، ونص على أن ذلك يسقط النفقة التي تستحقها" وإذا امتنعت عن الطاعة، يسقط حقها في النفقة"(50)، "وإذا نشزت الزوجة، فلا نفقة لها"(51)، ولكن التطبيق العملي يجعل إثبات النشوز صعباً إذا تمسكت المرأة بالمطالبة بالبيت الشرعي.
وقد مورست الحيل من أجل إبطال حق الزوجة في النفقة، الذي دفع المشرع إلى جعله حقاً ممتازاً يتقدم على كل الديون، بل يستدان على الزوج ولو كان معسراً. وكان لظهور محاكم الاستئناف دور في التجديد تمثل فيما يسمى بالقرارات الاستئنافية التي تصدر عن اجتهادات كبار القضاة في محاكم الاستئناف الشرعية وهي أعلى سلطة قضائية.
وإذا كان لمحاكم الاستئناف فوائد لا تذكر، إلا أنها أطالت مدة التقاضي، مما يعود بالسلب على ثقة الناس في المحاكم الشرعية، وعدم الرضى عن طريقة بتها بالأحكام الشرعية، ومن هنا ظهر ما عرف باسم القضاء المستعجل، لتلافي أضرار تأخر صدور الحكم. وأخلص إلى القول إن التطبيق رافقه تنوع في المحاكم الشرعية، والمحاماة، والحيل كل ذلك كان له أثر في التجديد على قوانين الأحوال الشخصية، والمطالبة بالتغيير فيها لتلافي أخطاء التطبيق.
المبحث الثاني
أنواع التجديد في مباحث الأحوال الشخصية وملامحه
المطلب الأول: التجديد الشكلي
الفرع الأول: التقنين في مباحث الأحوال الشخصية
ظهر أول تقنين(52) رسمي لمسائل متعلقة بالأحوال الشخصية عام 1283هـ - 1876م(53). وهو مجلة الأحكام العدلية التي تناولت في كتابها التاسع الحجر، وأهلية الصغار، وسائر فاقدي الأهلية(54)، ولم تدون غيرها للاسباب الآتية:
1. الخلاف الكبير الواقع في بعض مسائل الأحوال الشخصية.
2. تعدد الملل والطوائف في المملكة العثمانية.
3. سياسية التسامح التي دفعت بالدول العثمانية إلى أن تترك لغير المسلمين حريتهم في أمورهم المذهبية"(55) وبدأ تقنين الأحوال الشخصية في مصر على يد محمد قدري باشا (ت 1306) بمجموعة كتب في مباحث الأحوال الشخصية، أخذها من المذهب الحنفي مسترشداً بمجلة الأحكام العدلية ولكنه لم يحظ بالإلزام الرسمي(56)، ثم ظهر أول تقنين رسمي في مواد الاحوال الشخصية عام 1915م بصدور إرادتين سنيتين متصلتين بموضوع الطلاق:
الأولى منهما: تبيح للزوجة التي غادرها زوجها، ونزح من بلادها دون أن يترك لها نفقة المطالبة بفسخ الزواج.
الثانية منهما: تجيز للزوجة طلب فسخ النكاح في حالة إصابة الزوج ببعض الأمراض الخطيرة(75) ثم ظهر بعد ذلك قانون حقوق العائلة العثماني سنة 1336هـ - 1917م(58)، وجرت في مصر محاولات للتقنين عام 1915م، لكنها لم تنجح للمعارضة الشديدة، ثم بدأت بقانون رقم 25 لسنة 1920 يختص بأحكام النفقة، والمفقود والتفريق للعيب بين الزوجين، وتوالت بعد ذلك حتى تناولت مسألة الخلع، وسفر المرأة، وغير ذلك في قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضي في مسائل الأحوال الشخصية رقم (1) لسنة 2000م.
وفي الدول العربية الأخرى صدر قانون حقوق العائلة الأردني المؤقت رقم 26 لسنة 1947 ثم قانون حقوق العائلة رقم 92 لسنة 1951م، ثم عدل بقانون الأحوال الشخصية رقم 61 لسنة 1976م وعدّل بقانون مؤقت رقم 82 لسنة 2001 وتناول مسألة سن الزواج والخلع وغيرهما.
وقانون الأحوال الشخصية السوري لسنة 1953م، وفي عام 1959م صدر في العراق وعدّل بعد ذلك، وفي تونس عام 1956م، وفي المغرب عام 1958م، وفي الكويت عام 1984م، وفي عُمان عام 1997م(59).
وصدرت قوانين للأحوال الشخصية في الدول العربية والإسلامية الأخرى – ما عدا السعودية وأفغانستان-، وإن اختلفت في مسمياتها بين مدونات أو قوانين أو مجلات للأحوال الشخصية. وبقي التقنين غير شامل لجميع مسائل الأحوال الشخصية مما ألزم بالرجوع إلى كتب الفقه في المسائل غير المقننة.
الفرع الثاني: مناهج التأليف المعاصر في مباحث الأحوال الشخصية
إن عرض مباحث الأحوال الشخصية بأسلوب جديد كان ديدن المؤلفين من الفقهاء وغيرهم فجمعت مباحث الأحوال الشخصية، وأصلت تأصيلاً فقهياً، وربطت المسائل بأدلتها كما وضعت الفهارس والمعاجم التي تساعد في الرجوع إلى مسائل الأحوال الشخصية.
كما ألفت الكتب لمباحث الأحوال الشخصية على وفق ترتيب القوانين، وألفت أخرى شرحاً لقانون من قوانين الأحوال الشخصية مع مقارنته بالمذاهب الفقهية، والقوانين المشابهة في الدول الإسلامية، وألفت كتب في مواضيع مستقلة من مباحث الأحوال الشخصية، وهذه نماذج للكتب المعاصرة في الأحوال الشخصية، أو في مباحث منها على سبيل المثال(60):