في النقاش الدائر حول تعديل قانون الأحوال الشخصية
بداية لابد من الاعتراف أن التناظر و النقاش و الحوار في المسائل القانونية مع شخص غير مختص بالقانون أمر في غاية الصعوبة و غير مريح ، لأن انعدام القواسم المشتركة بين الطرفين و قد يجعل الحوار أشبه ما يكون بحوار الطرشان ، فإذا أراد رجل القانون الرد على شخص غير مختص بمسألة قانونية معينة قد يجد نفسه مضطراً أن يشرح و يفسر له القانون بشكل مبسط ثم يريه أين أخطأ أو تعثر ، مما سيقلب الحوار في بعض الأحيان لحصة تعليمية .
فعلى سبيل المثال عندما يجادلك شخص قائلاً أن قانون الأحوال الشخصية وضعه أصلاً رجل دولة عثماني ، و أنت تعلم أن القانون وضع عام 1953 ، أي بعد رحيل العثماني بـ 35 سنة و قد وضعه رجال سوريين أقحاح ، تعلم أنه أخطأ و أنه يقصد كتاب قدري باشا ، و شتان الفرق بين القانون و بين كتاب قدري باشا ، فكيف سيستقيم النقاش إذا لم تشرح له الفرق بينهما ، و المفارقة هنا تكون بإضاعة الوقت بشرح مبادئ القانون لشخص غير مختص بالقانون لمناقشته بالقانون نفسه الذي لا يعرف عنه شيئاً .
هذا و لا يوجد تناقض مع ما سبق لي أن ذكرته بأن يبدي كل إنسان ، يعتبر نفسه معنياً بهذا القانون ، رأيه الشخصي حوله .
و لكن كما سبق أن قلت أيضاً يجب على منيتصدى لإبداء رأيه حول هذا المشروع أن يتوخى الموضوعية ، و يراعي مجال تخصصه في كلامه ، وأن يكون طرحه من منطلق ثقافته و علمه ، فإن كان غير ملم بالقانون أو بالشرع الحنيف فلاينبغي له التطرق لهما في نقده و يكتفي بتناول الجوانب الاجتماعية أو الأسرية أو طرح الأفكار التي يسمحمركزه و علمه و ثقافته بالتحدث عنها .
بكل الأحوال سبق لي أن انتقدت التهجم المبالغ فيه على مشروع قانون الأحوال الشخصية و التطرق لجوانب قانونية و شرعيةأيضاً ممن ليس لديه إلمام بأي منهما .
و انتقدت طابع الحملة المنظمة ضده التي خرجت عن أصول النقد الموضوعي و الهادف لتصل لحد التجريح و التطاول و القذف ، و استغلال البعض لهذه الحملة لتمرير أفكار لا تتصل بالمشروع المطروح ، و حتى أن البعض جنح في نقده لحد إثارة الطائفية و المذهبية ، و قلت أنه لدي اعتقاد راسخ أن بعض من يقف خلف هذه الحملة ، لديه أهداف غير بريئة و أفكار لا يتسنى له ترويجها استغل هذه الحملة لتمرير تلك الاهداف و الأفكار و استعرضت نماذج من عناوين المقالات التي جاءت في سياق هذه الحملة الشرسة التي وصفت المشروع فيما وصفته بأنه من إنتاج طالبان و بن لادن .
كما قلت بأن محتوى الغالبية العظمى من هذه المقالات كان يخلو من نقد حقيقي و بناء للمشروع، حتى أنني أظن أن بعضهم كان يستعرض بالعنوان الذي انتقاه لمقاله دون الاهتمام بمحتويات المقال نفسه .
و سبق أن قلت أيضاً أن كافة هذه الاعتراضات تمت على أحكام هي موجودة سابقاً في القانون الساري حالياً ، و الذي صدر قبل أن يولد بن لادن و قبل ظهورطالبان .
و ما لفتني مجدداً أن الذي مازال يعتقد أن هذا المشروع طالباني لم يقل أين يلتقي هذا المشروع مع أفكار طالبان و ما هي بالتحديد الأحكام التي جاءت في المشروع و لم تكن موجودة في القانون الحالي و التي استقتها اللجنة من أفكار طالبان و بن لادن ، و عليه أن يحدد بدقة ما هي أفكار طالبان و بن لادن في هذه المسألة أو تلك ثم يقارنها بحكم جديد أتى به المشروع شبيه بتلك الأفكار .
من جهة ثانية لاحظت من مطول الكلام الجديد انتقاداً وحيداً لمشروع قانون الأحوال الشخصية ، و هو إجازة زواج الصغيرة بسن 13 سنة ، و جاء هذا الانتقاد تحت مسمى :
(( اغتصاب الطفلات في سن 13 بمسمى زواج ))
و أعقب على هذا الكلام بما يلي :
أولاً : كلمة اغتصاب غير مهذبة و غير لائقة لوصف هذا الحكم و لا أعتقد أن مثل هذا الكلام الاستفزازي سيؤتي ثماره ، بينما لو كان النقد موضوعياً أكثر ربما وجد له آذاناً صاغية ، كما أن هذا الحكم قديم لم تأت به اللجنة التي وضعت المشروع من بنات أفكارها ، و مجتمعنا اعتاد على زواج الصغيرات منذ مئات السنين ، لذلك لا نستطيع فجأة أن ننتبه لهذه الناحية و نبدأ بالسباب و الشتم و اعتبارها اغتصاب ، لأننا إن فعلنا ذلك لن يكترث لنا أحد فهناك كثير من الناس يرون أن وجود ثقافة زواج الصغيرات لم تؤثر سلباً على مجتمعنا الذي بقي متمسكاً بالفضيلة و الأخلاق أكثر بكثير من المجتمعات الغربية .
ثانياً : زواج الصغيرات أمر لم تنفرد به الشريعة الإسلامية الغراء و إنما أقرته كافة الشرائع السماوية الكريمة و نصت عليه كافة قوانين الأحوال الشخصية لكافة الطوائف بدءً من الشريعة اليهودية و انتهاءً بالشريعة الإسلامية .
بالنسبة للديانة اليهودية :
نصت المادة 23 من قانون الأحوال الشخصية للموسويين (( اليهود )) على أنه يجوز زواج الأنثى عند بلوغها اثني عشر سنة و نصف بحيث أن تنبت عانتها و لو شعرتين .
أما بالنسبة للطوائف المسيحية :
الطوائف الكاثوليكية : حسب البند الأول من القاعدة 800 من ملحق مجموعة قوانين الكنائس الشرقية الواجب العمل بها بمقتضى المادة 38 من قانون الأحوال الشخصيةللطوائف الكاثوليكية رقم 31 لعام 2006 ، فإن الحد الأدنى لزواج الفتاة هو 14 سنة .
الروم الأرثوذكس : حسب الفقرة ب من المادة 6 من قانون الأحوال الشخصيةللروم الأرثوذكس رقم 23 لعام 2004 فإن الحد الأدنى لخطبة الفتاة هو 15 سنة و حسب القانون القديم كان الحد الأدنى هو 13 سنة .
السريان الأرثوذكس : حسب المادة 3 من قانون الأحوال الشخصية للسريان الأرثوذكس رقم 10/2004 ، اشترطت لخطبة الأنثى أن يكون سنها 16 سنة في حين كان الحد الأدنى لزواج البنت لدى هذه الطائفة وفق القانون القديم 14 سنة .
الأرمن الأرثوذكس : 14 سنة لخطبة الفتاة ( المادة 3/آ )
الطائفة الإنجيلية : 15 سنة لخطبة الفتاة ( المادة 14/ب )
و هكذا نرى أن هناك إجماعاً بين الشرائع السماوية على إجازة زواج الصغيرة ، و بالتالي لا يمكن اعتبار هذا الحكم غير أخلاقي أو غير شرعي أو اغتصاب ، فمثل هذا القول يعني اتهام الشرائع و الأديان السماوية بأنها غير أخلاقية في الأساس ، و طبعاً هذا القول لن يلقى آذاناً صاغية و لن يلتفت له عاقل في مجتمعنا .
و عليه حري بمن يرى أن زواج الصغيرة له آثار سلبية سواء على صحة الصغيرة أو على المجتمع عليه أن يبدي رأيه بشكل علمي موضوعي و يحاول نشر الوعي بذلك في المجتمع ، بدلاً من أن ينعت القانون بأنه طالباني و بأنه يشرع اغتصاب الصغيرات ، لأن بضاعته لن تلقى رواجاً بهذا الشكل .
و لا مانع عندي من مناقشة الأمر من الناحية الشرعية أيضاً ، فإن كان الشرع الإسلامي لا يعارض برفع سن الزواج فلا ضير من طلب ذلك من المشرع .
حقيقة المسألة :
توجد في سوريا عدة قوانين للأحوال الشخصية ، فلكل طائفة قانونها الخاص ، و إن تسليط سهام الانتقاد الشديد لقانون المسلمين فقط و نعته بأبشع الألفاظ و الأوصاف دون التعرض للقوانين الأخرى التي يوجد بها كثير من الأحكام يمكن الوقوف عندها ، لا يمكن اعتباره تصرفاً بريئاً ، و لا يمكن فصله عن مناهضة الدين الإسلامي نفسه .
و بالأخص حينما يأتي الانتقاد من غير المسلم و ينتقد أحكام وردت في صلب الدين و نص عليها القرآن الكريم مثل تعدد الزوجات أو الإرث ، ألا يؤدي هذا النقد من غير مسلم للفتنة ؟؟!! .
الحقيقة لقد ضقنا ذرعاً بتوجيه النقد اللاذع لقانون المسلمين فقط و تجاهل قوانين الطوائف الأخرى عمداً ، و مع احترامي لقوانين بقية الطوائف و مع تأكيدي على عدم وجوب تغيير أحكام الأحوال الشخصية لأي طائفة ، و لكني أجد نفسي مضطراً لذكر نماذج من بعض أحكام قوانين الطوائف الأخرى يتم غض الطرف عنها و تجاهلها رغم تعارضها مع اتفاقيات أو معاهدات دولية :
1 – كافة قوانين الطوائف الأخرى تسمح بزواج الصغيرات كما ذكرنا أعلاه .
2 – قانون الأحوال الشخصية لليهود يفرض الزواج على كل يهودي ، ترى ألا يتعارض هذا مع حرية الإنسان بعدم الزواج ؟!.
3 – كافة قوانين اليهود و المسيحيين تمنع الزواج من غير دين ، و بعض قوانين المسيحيين تمنع الزواج من غير مذهب أيضاً ، في حين أن قانون المسلمين يمنع فقط زواج المرأة من غير دين و يبيح ذلك للرجل خلافاً لقوانين باقي الطوائف جميعاً التي تمنع الرجل و المرأة من الزواج من غير دين كما ذكرنا .
4 – كافة قوانين الطوائف المسيحية تمنع الطلاق .
5 – قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية يحظر على أي محامي المرافعة أمام المحاكم الكاثوليكية ما لم يكن كاثوليكياً ملفاناً ( لا أعرف معنى كلمة ملفاناً ) و أنا أسأل ألا يعتبر هذا النص طائفياً بغيضاً ، لماذا يمنع عليَّ كمحامي مسلم دخول محكمة سورية كاثوليكية و المرافعة فيها ، هل للطائفة أو للأسرة الكاثوليكية أسرار لا أؤتمن عليها لأني مسلم ؟؟
أم لهم قوانين ذات طابع سري لا يعرفها سوى المحامي الكاثوليكي الملفاني ؟؟ !! .
بالمقابل أنظر للمحاكم الشرعية المسلمة كيف يسرح و يمرح فيها إخواننا المحامين المسيحيين كاثوليك و غير كاثوليك ، حتى أنهم يقومون بإجراء مخالعة لإنهاء الحياة الزوجية بوكالتهم عن الزوجة المسلمة نفسها .
6 - قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية أيضاً يمنح سلطة لقداسة البابا بأن يصدر حكماً قضائياً يتعلق بالحياة الزوجية لأي أسرة كاثوليكية سورية باسم السلطة الروحية له ، خلافاً للدستور الذي يلزم أن تصدر الأحكام باسم الشعب العربي السوري ، و هذا من الناحية القانونية أيضاً يمس بسيادة سوريا لأن يعطي سلطة لرئيس دولة أخرى على مواطنين سوريين يتمتعون بجنسية دولة مستقلة .
7 – كما أن قانون الأحوال الشخصية للطوائف الكاثوليكية يحوي أحكاماً تشبه لحد كبير أحكام الحسبة التي لقيت انتقاداً شديداً للأسف .
أما بالنسبة لدعاة قانون أسرة عصري ( مدني ) و الذين يجدون به حل سحري لكل هذه المشاكل المزعومة ، فأريد أن أسألهم عن المصدر الذي يجب أن نستقي منه أحكام هذا القانون ، فإذا استبعدنا الشرائع السماوية كمصدر لهذا القانون ، فهل تكفي الشرائع الدولية الوضعية كمصدر وحيد له ، فإن كانت تكفي ، أريد من أنصار مثل هذا القانون أن يجيبني على السؤال التالي :
من هم المحارم من النساء اللواتي يحرم الزواج بهن و التي يجب أن ينص عليها هذا القانون العصري المستند للاتفاقيات و المعاهدات الدولية ، و على أي أساس يحرَّم على الرجل أن يتزوج بهذه المرأة أو تلك ،إذ مهما بلغنا من العصرية و التمدن لن نصل لدرجة أن لا يكون هناكحرمات من النساء كالأم و البنت مثلاً فما هو معيار التحريم هنا إذا وضعنا النصوص الدينية جانباً ؟، أم أنه لا يوجد محارم من النساء و يستطيع الرجل أن يتزوج أرملة والده أو ابنه مثلاً ؟؟.
و طبعاً غير هذه المسألة هناك الكثير من المسائل الأخرى يجب الوقوف عندها أيضاً و محاولة إيجاد حلولاً لها ، مما سيؤدي برأيي لفشل أي محاولة لوضع قانون أسرة عصري يمكن أن يرضي كافة الناس و يراعي معتقداتهم و مصالح و استقرار المجتمع .