الحسبة في مشروع قانون الأحوال الشخصية
عبدالله سليمان علي : (كلنا شركاء) 5/1/2010
النصوص القانونية، بشكل عام، ليست مجرد أداة لتنظيم سلوك الأفراد ضمن المجتمع من خلال وضع الضوابط التي ينبغي التقيد بها، ورسم الحدود التي لا يجوز تجاوزها أثناء ممارسة الأفراد لسلوكهم تجاه بعضهم البعض، فهذه الغايات رغم أهميتها الجليلة إلا أنها تمثل فقط المستوى الأدنى من مهمة النص القانوني. أما المستوى الأعلى لهذا النص فإنه يتكون من خلال تعبيره عن الفلسفة العامة ومنظومة المبادئ الكلية التي يؤمن بها المشرع ويتوخى تأسيس المجتمع على أساسها وتطوير حياته ومفاهيمه وفق مضمونها.
وقانون الأحوال الشخصية، بشكل خاص، ليس مجرد نصوص قانونية تقتصر الغاية منها على تنظيم شؤون الزواج والطلاق والميراث وحل الخلافات التي تنشأ بين الأفراد بخصوصها، بل هو تعبير عن الفلسفة الاجتماعية التي يريد المشرع أن تحكم تأسيس العائلة باعتبارها خلية المجتمع الأولى، وتعمل على تطوير المجتمع وفق الرؤية الخاصة التي عبر عنها في نصوص القانون.
وبالتالي يمكننا القول أن نصوص قانون الأحوال الشخصية تتضمن أسرار الشفرة التي يؤدي تناسخها إلى تكوين المجتمع عضوياً، وأن المجتمع يتكون ويتطور بالضرورة على نحو يعكس أسرار ورموز تلك الشفرة، فالمجتمع، مهما طرأت عليه تغييرات، لن يكون إلا صورة عن تلك الشفرة التي وضعها المشرع في نصوص القانون.
هذه الحقيقة تجعلنا ندرك مدى أهمية قانون الأحوال الشخصية وخطورة تأثيره على المجتمع، وقد لا يشابه هذه الأهمية إلا ما يتمتع به قانون التجارة من تأثير على الحياة الاقتصادية باعتباره يتضمن أيضاً تحديد الأدوات والوسائل التي تخول السوق من تحقيق الرؤية الاقتصادية التي يؤمن بها المشرع.
وعليه، كما أن تغيير المشرع رؤيته الاقتصادية من الاشتراكية إلى اقتصاد السوق الاجتماعي قد أدت إلى تعديلات تشريعية كبرى في القوانين الناظمة للتجارة والشركات والمصارف، وخلقت على الأرض واقعاً جديداً في حركة رأس المال وامتداداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. الأمر الذي ترك تأثيره على بنية طبقات المجتمع التي اضطرت للاستجابة إلى اهتزازات حركة رأس المال وأعادت تموضعها في فرز جديد يختلف كثيراً عن الفرز الذي كان قائماً في ظل الاشتراكية. كذلك فإن تغيير المشرع لرؤيته الاجتماعية التي يضمنها في قانون الأحوال الشخصية ستؤدي بكل تأكيد إلى خلق واقع جديد تترتب عليه إعادة فرز للتيارات الاجتماعية التي لن تملك شيئاً سوى إعادة التموضع على إيقاع الحركة الناشئة عن القانون الجديد.
ومن خلال قراءتنا لمشروع قانون الأحوال الشخصية المقترح من قبل اللجنة المشكلة بقرار السيد رئيس مجلس الوزراء رقم / / فإننا نستطيع بسهولة أن نحدد الاتجاه الذي اختاره واضع المشروع لتطوير المجتمع وإعادة تكوينه. ومن الغريب أن المشرع الذي نحا باتجاه مذهب ليبرالي واضح في المجال الاقتصادي، قد تنكب عن هذا المذهب في المجال الاجتماعي، إذ بدل أن ينحو فيه باتجاه الليبرالية كما فعل في الاقتصاد، نراه ينحو منحى معاكساً تماماً يعبر عن رؤية سلفية متشددة.
وتتبدى هذه الرؤية السلفية المتشددة في عدة أماكن من مشروع القانون ابتداءً بتسمية أتباع الديانات السماوية باسم "أهل الكتاب" تارة، وتارة أخرى باسم "أهل الذمة" وهي تسمية تعبر عن التمييز على أساس الدين بين مواطني البلد الواحد، وكأن مشروع القانون يقول من ليس مسلماً فهو مواطن من الدرجة الثانية. ومروراً بالحديث عن نوع من العقوبات كنا نعتقد أنه لا سبيل للحديث عنها في سورية التي طالما اشتهرت بالاعتدال في إسلامها، كحد القذف، وهذه الإشارة الواردة في مشروع القانون عن حد القذف تدفعنا للتساؤل هل هي خطوة أولى قبل الحديث لاحقاً عن حد الزنا وحد السرقة أي الرجم والقطع؟ وهل هناك تدرج يمارس في تطبيق هذه الحدود؟ وانتهاء بتشريع دعاوى الحسبة التي تعد من أهم مطالب الحركات الإسلامية المتشددة في عصرنا الحالي والتي تقوم على أساس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه الأخيرة أي دعاوى الحسبة ستكون موضوع بحثنا هاهنا، محاولين تسليط الضوء على تاريخ نشوئها، وإثبات انعدام صلتها بالتشريع الإسلامي، وأهم المخاطر التي يمكن أن تصيب المجتمع بسبب العمل بها.
أولاً – تبني مشروع القانون لدعاوى الحسبة:
أحدث مشروع القانون باباً جديداً سماه "المؤسسة الشرعية" وضمن هذا الباب أحدث فصلاً خاصاً بدعاوى الحسبة، وهي خطوة غير مسبوقة في التاريخ التشريعي السوري، نص فيه على آليتين اثنتين لممارسة هذا النوع من الدعاوى:
الأولى، النيابة العامة الشرعية وجاء النص عليها في المادة 21.
والثانية، المحتسب وجاء النص عليها في المادة 22.
وسوف نورد فيما يلي نص هاتين المادتين، ثم نحاول إبداء أهم الملاحظات التي نراها عليها.
الفصل الأول
النيابة العامة الشرعية
المادة 21
1-إنشاء نيابة خاصة للأحوال الشخصية المتعلقة بغير الأموال.
2-تدخل النيابة في بعض قضايا الأحوال الشخصية: على النيابة العامة أن ترفع الدعاوى أو تتدخل فيها إذا لم يتقدم أحد من ذوي الشأن وذلك في كل أمر يمس النظام العام وأهمها:
1-الزواج بالمحرمات حرمة مؤبدة أو مؤقتة.
2-إثبات الطلاق البائن.
3-فسخ الزواج.
4-الأوقاف والوصايا الخيرية.
5-دعاوى النسب وتصحيح الأسماء والمفقودين وتصرفات المريض مرض الموت بناء على طلب من ذوي الشأن فيما يتعلق بالمريض.
3-ويكون للنيابة في هذه الأحوال ما للخصوم من حقوق.
4-تعتبر النيابة العامة ممثلة في الدعوى متى قدمت مذكرة لإبداء رأيها فيها، ولا يتعين حضورها إلا إذا رأت المحكمة ذلك.
5-وفي جميع الأحوال لا يتعين حضور النيابة عند النطق بالحكم وفي جميع الأحوال التي ينص القانون على تدخل النيابة يجب على المحكمة إبلاغ النيابة كتابة، وإذا عرضت أثناء نظر الدعوى مسألة تتدخل فيها النيابة فيكون تبليغها بأمر من المحكمة.
6-تمنح النيابة بناء على طلبها خمسة عشر يوماً على الأقل لتقديم مذكرة من تاريخ إرسال القضية إليها وللنيابة حق الطعن في الحكم ولو لم تكن قد تدخلت.
المادة 22
1-يجوز لكل أحد بعد أن يعينه القاضي الادعاء بأي موضوع من المواضيع المحددة بالمادة السابقة، ولو لم تكن له مصلحة بذلك.
2-إذا لم يكن المدعي محامياً، وجب على المحكمة بعد قيد الدعوى توجيه كتاب إلى فرع نقابة المحامين لندب محامٍ يتابع إجراءات الدعوى دون مقابل.
3-يكون للمحامي المنتدب جميع الحقوق التي يمنحها القانون للمحامي الوكيل، وعليه ما عليه من الواجبات.
4-تعفى هذه الدعوى من جميع الرسوم والتأمينات والطوابع والنفقات.
ومن هاتين المادتين نخلص إلى ما يلي:
1ً)- بخصوص النيابة العامة الشرعية:
1- أحدث واضع المشروع ما سماه النيابة العامة الشرعية، وحسب علمنا فإن هذه النيابة هي الأولى من نوعها في الوطن العربي، ولا نجد مبرراً منطقياً يوجب على المشرع التفكير بإحداثها خاصة وأنه كما سنرى فإن هذه النيابة غير مخولة بالمسائل التي لها طابع مالي!. مما يعني أن المشرع أراد من تأسيس هذه النيابة أن تكون جهاز رقابي على الجانب الشخصي المعنوي من حياة المواطنين وأن تكون قادرة على الخوض في حياتهم الخاصة وعلاقاتهم العائلية تحت مسمى حماية النظام العام. وإذا كانت الأمور تسير على هذا المنوال فإننا لا نستغرب أن نسمع بعد حين من الزمن عن إنشاء نيابة عامة ثقافية، أو ربما هيئة أمر بالمعروف ونهي عن المنكر كما في بعض البلدان الخليجية.
2- تكون مهمة النيابة حسب النص، الإدعاء أو التدخل في الدعاوى التي تتعلق بالأحوال الشخصية للأفراد شريطة ألا تكون هذه المسائل ذات طبيعة مالية. فالنيابة إما أن تكون جهة مدعية أو تكون جهة متدخلة، فإذا بادر صاحب الحق إلى المطالبة بحقه أمام القضاء تكتفي النيابة بالتدخل إلى جانبه، أما إذا أهمل صاحب الحق المطالبة به فإن النيابة ملزمة بتقديم إدعاء بشأنه أمام المحكمة. وفي كلتا الحالتين يكون للنيابة ما للخصوم من حقوق في الدعوى.
3- ألزم واضع المشروع النيابة الشرعية بالإدعاء أو التدخل في المسائل التي عددها في الفقرة الثانية من المادة 21، ولم يعطها أي سلطة تقديرية في هذا الخصوص. وهذا الإلزام يثير الريبة، خاصة وأننا ندرك أنه لن يكون بمقدور النيابة فرض الرقابة على كل بيت وعلى كل زواج أو طلاق لممارسة مهمتها لأن مثل هذه الرقابة تتطلب كادراً ضخماً وهو بالتأكيد غير متوفر، مما يجعلنا نحذر من إمكانية تحول النيابة العامة الشرعية إلى سيف مسلط فوق رؤوس "البعض" واستعماله وفق معايير عشوائية أو مزاجية قد لا تخلو من الكيدية.
4- وسّع واضع المشروع من صلاحيات النيابة العامة الشرعية على نحو كبير يخشى معه من إساءة استعمال هذه الصلاحيات سواء بقصد أو دون قصد لأن توسيع الصلاحيات أمرٌ خاطئ حتى لو كان الجهاز الممنوحة له جيداً، فكيف إذا كان الجهاز مشكوكاً فيه وبنشأته وغاياته.
5- وقع واضع المشروع في تناقض مع نفسه. ففي الوقت الذي نص فيه على إنشاء نيابة خاصة للأحوال الشخصية المتعلقة بغير الأموال، نراه يدخل في اختصاصات النيابة مسائل تتعلق بتصرفات المريض مرض الموت، وهذه دون شك من المسائل ذات الطبيعة المالية لأن غايتها حفظ أموال المريض من جهة وحفظ حقوق الورثة من جهة ثانية.
2ً)- بخصوص المحتسب:
1- لا يفيد واضع المشروع أنه لم يذكر مصطلح المحتسب في النص الذي وضعه، إذ من المعروف أن كل من يتقدم بدعوى دون أن تكون له مصلحة فيها فهو محتسب.
2- كما لا يفيد واضع المشروع أنه اشترط لسماع الدعوى أن يقوم القاضي بتعيين المحتسب قبل إقدامه على رفع الدعوى. لأن تعيين المحتسب من قبل القاضي لا يعطيه أي مصداقية تدفعنا للشعور بالطمأنينة نحوه.
3- بما أن الحسبة تتفرع عن مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق هذا المبدأ الأخير يعتبر من أهم مطالب التيارات الدينية المتشددة، فمن الطبيعي أن يكون المستفيد الأكبر من تشريع الحسبة هو هذه التيارات بالذات دون غيرها من فئات المجتمع. والسؤال الذي يمكن طرحه هنا: لمصلحة من نضع سيف الحسبة في أيدي هذه الجماعات وأتباعها؟.
4- بعد أن قام واضع المشروع بالنص على إنشاء النيابة العامة الشرعية وأعطاها صلاحيات في مسائل معينة، نراه يعطي نفس الصلاحيات لأي شخص من عموم الناس. وهذه الثنائية في ممارسة الصلاحيات تدفعنا إلى التساؤل: هل هي عدم ثقة بجهاز النيابة المستحدث؟ أم أنها رغبة في التشديد على المواطن في أكثر أمور حياته شخصية، إذا كان ثمة أمور يمكن تسميتها بالشخصية بعد أن أصبحت حياة المواطن وعلاقاته تحت المجهر بهذا الشكل؟. ويؤكد مشروعية التساؤل أن واضع المشروع كان بإمكانه مثلاً النص على مجرد تقديم بلاغ إلى النيابة في حال العلم بإحدى المخالفات التي تدخل في اختصاصها، لكنه تجاوز هذا الاحتمال ونص على إعطاء "أي أحد" نفس الصلاحيات التي أعطاها لجهاز النيابة الشرعية.
5- أفرغ واضع المشروع وافر نعيمه على المحتسب الذي يتطوع لإقامة دعوى بخصوص إحدى المسائل المذكورة، فقد أوجب على المحكمة تعيين محام له عن طريق نقابة المحامين، وأوجب على المحامي المعين أن يسخر طاقاته العلمية لمصلحة المحتسب مجاناً ودون مقابل، كما أعفى المحتسب من جميع المصاريف والنفقات والرسوم. وهذا الكرم المبالغ فيه من واضع المشروع لا يدل إلا على أمر واحد وهو التشجيع على دعاوى الحسبة وممارستها على أوسع نطاق ممكن.
ثانياً – دعوى الحسبة: مفهومها ولمحة تاريخية عنها
دعوى الحسبة في المفهوم المتعارف عليه: هي الدعوى التي يقيمها شخص للمطالبة بحق من حقوق الله تعالى احتساباً لوجهه.
ومنعاً لأي التباس نؤكد أن هذه الدعوى بدعة دخيلة على الإسلام دخلت عليه من باب الفكر الديني المتشدد الذي نصب نفسه وصياً على المجتمع وأخلاقه ومارس من تلقاء ذاته صلاحيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أعنف صورها، وحاول فرض الدين وتعاليمه بالقوة والإكراه.
ففي عهد النبي محمد (ص) لم يكن نظام المحتسب معروفاً أو معمولاً به، وكان مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجري ممارسته على سبيل النصيحة وحب الخير وحسن الحال للمسلمين، وكان مفهوماً حينها أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون تحت سقف: وجادلهم بالتي هي أحسن، ولا إكراه في الدين.
ولم ينشأ نظام المحتسب إلا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (ر)، وكانت الغاية الأساسية لإنشائه هي مراقبة الأسواق وأسعار البضائع، حيث ندب الخليفة عمر (ر) امرأة تسمى الشفاء للإشراف على سوق المدينة (يثرب) كانت مهمتها تتعلق بإفراز المبيعات، كالتطفيف في الكيل، أو البخس في الميزان، أو الغش في البيع، أو التدليس في الثمن. وبما أن القيام بهذا العمل لم يكن يقابله تقاضي أي أجر مادي فقد رئي أنه يؤدي عمله حسبة لوجه الله، فالله حسبه فيما يفعل دون أجر، ومن ثم قيل إنه المحتسب.
لكن التطور الجذري في نظام المحتسب حدث في العصر العباسي حيث بدأ يظهر التخصص في بعض الأعمال، فنشأت بعد الخليفة والوزير والحاجب ثلاث سلطات، تتوزع بين القاضي ووالي المظالم والمحتسب:
فالقضاء يختص بالفصل في الخصومات وقطع المنازعات.
وولاية المظالم عمل يختلط فيه القضاء بالتنفيذ، ويعرفه بعض الفقهاء بأنه "قود (قيادة) المتظلمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة"، فهو من ثم عمل يركن فيه إلى السلطان أكثر مما يعتمد في إقراره إلى الحق.
والحسبة نظام يستهدف محاربة الانحراف، وتتبع المخالفات، قصد تطهير المجتمع منها وتجنيبه آثارها.
وكان يتولى أمر الحسبة محتسب يعينه السلطان، ومن ثم صار عمله ووظيفته، ضمن سلطات الدولة. وإذ كان يتقاضى أجراً، أو راتباً، من الدولة، فإن اسمه (المحتسب) لم يعد ينصرف إلى المعنى الأصلي الذي يفيد أداء العمل دون أجر، حسبة لوجه الله، بل صار اللفظ يعني أنه ينفذ أوامر الله، أي أنه يبتغي من عمله تحقيق الوصايا الدينية.
وكانت اختصاصات المحتسب تتحدد في إفراز المبيعات في الأسواق، كالتطفيف في الكيل، أو البخس في الميزان، أو الغش في البيع، أو التدليس في الثمن. وهي نفس الاختصاصات التي بدأ بها نظام المحتسب في عهد عمر ابن الخطاب. وكان عمل المحتسب مشروطا بأن يقتصر على ظواهر المنكرات، بحيث لا يكون له أي حق في سماع الدعاوى أو تحقيقها أو الفصل فيها، على اعتبار أن مثل هذا العمل إما أنه يدخل في ولاية القاضي أو يقع ضمن سلطة والي المظالم.
ثم حدث تطور آخر تمثل في أعطاء الحق لأي مسلم يرى معروفاً وقد خولف أو منكراً وقد ساد، في أن يلجأ إلى المحتسب بشكوى، وإن لم تكن له فيها مصلحة خاصة، فيطلب إعمال المعروف أو إزالة المنكر، باعتبار أن الشاكي من جماعة "أمة" المسلمين التي يعنيها دينياً أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فالشكوى هنا بغير مصلحة خاصة مباشرة، وهي من ثم تعد حسبة لوجه الله.
لكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن حق الشكوى هذا لم يكن يسمى دعوى في العصر العباسي وما تلاه، ولم يكن يرتب للشاكي أي حقوق خاصة، غير الإبلاغ فقط والشهادة لدى المحتسب بما رأى أو سمع أو علم من أمر المخالفة.
من خلال التسلسل التاريخي السابق نخلص إلى أن دعوى الحسبة لم تكن معروفة في أي مرحلة من مراحل الدولة الإسلامية، وخاصة في عهد النبي، بل وحتى في العصر العباسي الذي قام الحكم فيه على أساس ديني بحت فإننا لم نر وجوداً لما يسمى بدعاوى الحسبة وأن الأمر اقتصر فيه على إنشاء منصب المحتسب الذي أصبح من صلاحياته فيما بعد تلقي الشكاوى من المواطنين بخصوص بعض المخالفات الحاصلة، لكن لم يكن من حق أي مسلم مباشرة الدعوى بنفسه إلا إذا كان له حق شخصي بها، وهذه النقطة في غاية الأهمية ينبغي التنبه لها خشية الوقوع في الالتباس الذي وقع به الكثير من المسلمين الذين يعتقدون أن دعاوى الحسبة لها أصل في الشريعة الإسلامية وسابقة من الرسول والصحابة، وهو غير صحيح كما أوضحنا.
ثالثاً – نقد دعوى الحسبة وتبيان مخاطرها:
نأمل أن يكون قد وضح في ذهن القارئ أن دعاوى الحسبة ليس لها أي أساس ديني، إذ لم يرد ذكرها لا في القرآن ولا في السنة النبوية وبالتالي فإنها ليست جزءاً من الشريعة الإسلامية ولا تمت إليها بصلة، ولا تخرج عن كونها بدعة دخيلة تهدف إلى إخضاع المجتمع واستعباده بالقوة والإكراه لخدمة مصالح وغايات التيارات الدينية المتشددة.
وإذا كانت هذه التيارات المتشددة تجد الأساس الفكري لدعاوى الحسبة في مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا أسهل على ذوي البصيرة والإدراك من نسف هذا الأساس وهدم بنائه من خلال التفكر الجاد والعميق بالآيات والأحاديث التي تذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفهمها على أساس المبادئ الكلية للشريعة التي ترفض الإكراه بالدين، وتأبى إلا الجدال بالتي هي أحسن.
وأهم ما يمكن أخذه على واضع مشروع قانون الأحوال الشخصية أنه تبنى نظام دعوى الحسبة وحثَّ على نشرها وتعميمها في الوقت الذي ألغت به السلطات المصرية هذا النظام بموجب القانون رقم 81 لسنة 1996 المعدل للمادة الثالثة من قانون المرافعات الذي يمنع بموجبه قبول أي دعوى أو طلب أو دفع لا يكون لصاحبه فيه مصلحة شخصية مباشرة وقائمة يقرها القانون. وبذلك يكون المشرع المصري قد منع قبول دعاوى الحسبة أمام أي محكمة، منعا واضحا صريحا.
ومما لاشك فيه أن المشرع المصري لم يعمد إلى هذا الحظر لدعاوى الحسبة إلا بعد أن لمس مدى خطورة الآثار التي يتركها هذا النظام على الحياة الاجتماعية، وبشكل خاص استفادة التيارات الإسلامية المتطرفة منه واستخدامها إياه وسيلة لتهديد خصومها وابتزازهم والضغط عليهم للتراجع عن الأفكار التي لا تناسب تيارهم.
تجدر الإشارة إلى أنه رغم التعديل القانوني الأخير في مصر، وصراحته في منع دعاوى الحسبة إلا أن المستفيدين من هذه الدعاوى ما زالوا يجدون سبلاً قانونية عديدة لرفع دعاوى الحسبة وإشهار سيفها بوجه كل من تسول له نفسه أن يعبر عما يخالف توجهاتهم وقناعاتهم، وقد ذكر تقرير صادر في العام الماضي عن الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان تحت عنوان "كابوس الكتاب والفنانين" أن الازدياد المضطرد لقضايا الحسبة لا يمكن أن يمر دون مباركة الحكومة المصرية، وأن إحدى محاكم القاهرة قد نظرت في يوم واحد بعشرين دعوى حسبة.
إذا دلَّ هذا على شيء فإنما يدل على مدى تمسك التيار الديني المتشدد بأداة دعاوى الحسبة باعتبارها الأداة الأكثر نجاعة المتاحة لديه لمحاربة أهل الفكر والفن وابتزازهم والضغط عليهم ويكفي أن نذكِّر على سبيل المثال بمحنة الدكتور نصر حامد أبو زيد الذي اتهم بالردة عن الإسلام لتفريقه عن زوجته فاضطر إلى نفي نفسه خارج مصر، والشاعر أحمد معتز حجازي الذي بيع أثاث منزله بالمزاد العلني لأنه رفض دفع مبلغ التعويض المحكوم به، من باب أنه غير مستعد لإعطاء المال لمثل الشخص الذي أقام عليه الدعوى وفضل بيع أثاث منزله جبراً على أن يدفع مبلغ التعويض طوعاً، والمدون كريم عامر الذي حكم عليه بالسجن أربع سنوات، ولا ننسى الروائية نوال السعداوي والمخرجة إيناس الدغيدي وغيرهم كثير من ضحايا دعاوى الحسبة.
فهل يريد واضع المشروع من تشريعه دعوى الحسبة أن يجعل من مفكرينا وأدبائنا وعلمائنا لقمة سائغة في فم عصبة من المتشددين والمتطرفين، كما رأيناه يحدث في مصر؟ ولماذا؟ ولمصلحة من؟.