الأستاذ محمد تحياتي الحارة :
لما كان محور تعليقك هو الاختلاف بين اجتهادين ، واختلافك مع الاجتهاد الثاني للهيئة العامة ، فاسمح لي أن اختلف معك فيما ذهبت إليه من نقد للاجتهاد الثاني ، الذي أراه أقرب للعدالة و روح النص .
و على اعتبار أن قاضي محكمة الاستئناف ليس عبداً مأموراً لمحكمة النقض ، التي ليس لها سلطان عليه ، وإنما يخضع لسلطان وحيد هو ضميره و شرفه كما ورد بالدستور ، فكيف نطلب منه أن يتبع القرار الناقض إذا كان فيه مخالفة واضحة و جلية للقانون .
و إذا اعتبرنا أن نص المادة 262 أصول يلزمه باتباع القرار الناقض ، يجب ألاّ يغرب عن بالنا النص القانوني الآخر الذي خالفه القرار الناقض و الذي يلزم القاضي أيضاً باتباعه .
و بالتالي يكون قاضي محكمة الاستئناف أمام نصين :
الأول : نص المادة 262 أصول الذي يلزمه باتباع القرار الناقض .
و الثاني : النص الذي خالفه القرار الناقض ، و الذي يتوجب عليه اتباعه و تطبيقه و الحكم بموجبه ، تطبيقاً لمبادئ العدالة التي أقسم يميناً أن يتبعها .
فإذا قام هذا القاضي بتطبيق النص الذي خالفه القرار الناقض لا يكون قد خالف نص المادة 262 أصول ، لأنه طبق نصاً قانونياً آخر ، و كل ما فعله في هذه الحالة هو الموازنة بين نصين و تطبيق الأصلح بينهما للحكم في القضية المعروضة عليه ، و هذه هي العدالة وفق ما أرى .
أما بالنسبة لاجتهاد الهيئة العامة الواجب الاتباع فيجب أن نميز بين نوعين من هذا الاجتهاد :
الأول : الاجتهاد الصادر بتكريس مبدأ قانوني عملاً بأحكام المادة 50 من قانون السلطة القضائية ، عندما تحيل إليها إحدى دوائر محكمة النقض دعوى للعدول عن مبدأ قانوني كرسته قرارات سابقة ، في هذه الحالة المبدأ الذي تكرسه يعتبر بمثابة القانون يتوجب اتباعه ، و في هذه الحالة لا تستطيع محكمة الاستئناف مخالفته ، و يطبق بشأنه ما ذكرناه أعلاه بالنسبة لمخالفة النص القانوني .
الثاني : الاجتهاد الصادر عن الهيئة العامة في معرض دعوى مخاصمة قضاة ، هذا الاجتهاد برأي البعض من الشراح أنه غير ملزم و لا تسري عليه أحكام الاجتهاد الصادر بصدد العدول عن مبدأ سابق ، و بالتالي يتوجب على محكمة الاستئناف في هذه الحالة اتباع القرار الناقض .
و بناء على ما سلف فإن الاجتهاد الثاني للهيئة العامة موضوع التعليق ( 167/1994 ) هو الأقرب للعدالة من الاجتهاد السابق وفق رأيي ، و لا أعتقد أنه مخالف لنص المادة 262 أصول إذا اعتبرنا أن الاجتهاد القضائي هو رؤية القاضي للتطبيق السليم و الصحيح للنص القانوني .
مع التقدير